في ظل الدعم الأمريكي الحالي لأوكرانيا في الحرب ضد روسيا، وكذلك انسحاب واشنطن قبل عامين من أفغانستان، يعيد الخبراء قراءة الدروس الاستراتيجية للتدخلات العسكرية الأمريكية في العالم، ولاسيما أن إخفاق واشنطن في وضع أهداف استراتيجية واضحة للانخراط في حرب معينة عادة ما يؤدي إلى وجود فراغ أمني وتأزم سياسي والافتقار إلى سلام دائم في الدول التي تشهد انخراطاً عسكرياً أمريكياً.
من هنا، تكمن، أهمية دراسة الخبير في مركز الدارسات الدولية والاستراتيجية (CSIS) أنتوني كوردسمان، تحت عنوان: "الدروس الأساسية للحروب الأمريكية الأخيرة: الفشل أو الخسارة في المصطلحات الاستراتيجية الكبرى". إذ يبرز كوردسمان التحديات التي تواجه التدخلات العسكرية الأمريكية الخارجية على مستوى التخطيط، أو بناء مؤسسات الدولة موضع التدخل ومعالجة الانقسامات العميقة داخل مجتمعها أو إعادة بناء وإنشاء قوات فعالة للدولة المضيفة التي تشهد وجوداً عسكرياً أمريكياً، حيث يخلص إلى أن واشنطن تركز على هزيمة العدو عسكرياً دون الاهتمام بمرحلة ما بعد الحرب.
تقديرات استراتيجية خاطئة:
لم تكن الولايات المتحدة في إطار تدخلاتها العسكرية الخارجية فاعلاً خاسراً على طول الخط؛ إذ إنها حققت نجاحات استراتيجية كبيرة في إقامة تحالفات خارجية في أوروبا وآسيا وكذلك مع الدول النامية، كما أدت أدواراً رئيسية في تعزيز الأمن الداخلي لتلك الدول في مواجهة التحديات الخارجية من خلال تطوير وتحديث قدراتها العسكرية والأمنية. ويعد كوردسمان، الصراع الروسي الأوكراني الأخير أبرز النجاحات العسكرية الاستراتيجية الأمريكية، إذ أدت الولايات المتحدة دورها كشريك استراتيجي للتصدي للتهديدات الروسية على الغرب، ومع ذلك يطرح نماذج من الأخطاء في التدخلات الأمريكية في بعض المواقف العسكرية:
1. الصين ومعادلة التفاعل العسكري: برز الدور الأمريكي العسكري في الصين إبان الحرب العالمية الثانية؛ حيث تدخلت الولايات المتحدة في البداية، سياسياً في محاولة لمنع الغزو الياباني ثم الحد منه خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي إلى أن تحول هذا الدور إلى وجود عسكري على خلفية الصراع بين القوميين بقيادة تشيانغ كاي شيك، والشيوعيين بقيادة ماو تسي تونغ. واستغلت واشنطن هذا الصراع وقامت بإرسال قوات برية وجوية للقتال في الصين لدعم تشيانغ كاي شيك، وحزب "الكومينتانغ"، بغرض التصدي للسيطرة الشيوعية داخل الصين.
ولم يحقق هذا التدخل الأمريكي أهدافاً استراتيجية نظراً لغيابها بالأساس، بل حقق نجاحاً هامشياً، إذ إن رهان الولايات المتحدة وتوظيفها لــتشيانغ تراجع كثيراً، في ضوء فشله في إحداث إصلاحات عسكرية تسمح له بإحداث تقدم في الحرب العالمية آنذاك، وما ترتب عليه من فشل بناء الدولة وكسب التأييد الشعبي خلال صراعه مع الشيوعيين. ومع ذلك، واصلت الولايات المتحدة دعم وتسليح وتدريب قوات تشيانغ بعد اندلاع الحرب الأهلية الصينية عام 1946.
وعلى الرغم من تغير تفاعل الولايات المتحدة حيال الصين منذ فبراير 1972 على خلفية زيارة الرئيس الأمريكي آنذاك نيكسون، لها في ذات العام، وإبداء سياسة أكثر انفتاحاً عليها حتى صعود الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ، عام 2012. فإن هذا الانفتاح سمح للاقتصاد والجيش الصيني بالنمو بطرق ساعدت بكين على التحول إلى قوة عظمى. ونتيجة لذلك، توسعت القوة المدنية والعسكرية للصين لدرجة أن استراتيجية الولايات المتحدة أصبحت ترى الصين كأهم تحدٍ عالمي مدني وعسكري لأمنها القومي.
2. الحرب الكورية وفشل التقييم الاستراتيجي: تُعد الحرب الكورية أول مشاركة أمريكية رئيسية في القتال بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها كانت من بين الإخفاقات الاستراتيجية للولايات المتحدة. وتعود تلك المشاركة إلى تقسيم الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كوريا إلى منطقتين. ومع زيادة التوتر بين الدولتين، بات هناك تنسيق سوفيتي مع الشمال الشيوعي وتنسيق أمريكي مع الجنوب. ويكمن الفشل الاستراتيجي الأمريكي في عدم التقييم الصحيح للتهديد العسكري الكوري الشمالي المتزايد مع ضعف القدرات العسكرية للجنوب وغياب خطة وظيفية عسكرية لدعم كوريا الجنوبية في حالة الطوارئ، وهو ما اتضحت معالمه في الحرب الكورية التي بدأت في 25 يونيو 1950.
واتسم الدور الأمريكي في بداية تلك الحرب بالتراجع نتيجة الافتقاد إلى التخطيط الجيد عسكرياً والجهد الفوضوي الذي تمثّل في إرسال قوات أمريكية إلى الجنوب في شكل وحدات غير جاهزة وذات قدرات منخفضة مثل فرقة العمل "سميث"؛ مما أدى إلى تقدم كوريا الشمالية، ولكن مع تزايد وتيرة العملية العسكرية ضاعفت واشنطن من استعراض القوة العسكرية كسياسة للردع تجلت في مشاركتها بنحو 90% من القوات الأجنبية التي قاتلت لدعم الجنوب.
تزامن ذلك مع دعم سياسي داخلي ودولي -من خلال الأمم المتحدة- مما أفسح المجال لوجود عسكري أمريكي في "إنتشون" في سبتمبر 1950، كما كان لذلك أثره في عزل القوات الكورية الشمالية وقطع خطوط إمدادها، وهو ما أدى إلى تراجع تلك القوات إلى خط العرض 38 باتجاه الصين مطلع أكتوبر 1950. وكان هذا بمثابة خطأ استراتيجي حيث نتج عن هذا التقدم الميداني واقترابه من الحدود الصينية، قيام بكين بإرسال قوات قتالية بنحو 70 ألف جندي صيني إلى كوريا الشمالية.
تلك التطورات التاريخية أدت إلى هزيمة الولايات المتحدة واضطرت إلى الانخراط في مفاوضات منذ منتصف ديسمبر 1950، وتم توقيع هدنة لإنهاء الحرب في 27 يوليو 1953 عقب زيارة الرئيس الأمريكي آنذاك أيزنهاور، إلى كوريا، ونتج عن تلك الأخطاء الاستراتيجية وجود كوريا مقسمة بالقرب من خط عرض 38، وظلت واشنطن تدعم كوريا الجنوبية ولكنها لم تبذل محاولات إيجابية نحو بناء الدولة أو تأسيس حكومة تمثيلية وديمقراطية.
3. حرب فيتنام ومواجهة الشيوعية: أفرزت حرب فيتنام التي خاضتها الولايات المتحدة تحديات استراتيجية لاحقة؛ حيث تدخلت واشنطن في إطار استراتيجية تطويق الشيوعية عبر دعم الجنوب الفيتنامي وتقديم مساعدات استشارية عسكرية بعدما انسحبت فرنسا من فيتنام في عام 1954. وباتت الولايات المتحدة القوة الأجنبية الرئيسية المشاركة في الحرب منذ 1 نوفمبر 1955، حتى نهاية الحرب في 30 إبريل 1975. وخلال تلك الفترة، شهّد الجنوب الفيتنامي تصعيداً شيوعياً كبيراً في عام 1957، مما مثّل ضغطاً على استراتيجية واشنطن في تعزيز انفصال الجنوب بعيداً عن الشيوعية، وهو ما تطلب تكثيف التفاعل العسكري بها عبر تعزيز القوات الأمريكية التي بلغت في عام 1964 نحو 23 ألف جندي ثّم زيادة أعداد جنودها إلى 184 ألف جندي.
وبرغم هذا التصعيد العسكري فإن الأمر انتهى إلى توقيع اتفاقية باريس للسلام في 27 يناير 1973، والتي نصّت على الرحيل الكامل للقوات الأمريكية في غضون 60 يوماً، هذا الانسحاب يُمثل إخفاقاً استراتيجياً إذ أدى إلى هيمنة فيتنام الشمالية على الجنوب في عام 1975. وأثبتت الحرب في فيتنام أن البناء الفعَّال للدولة وخلق القدرات العسكرية الفعالة للبلد المضيف التي يمكن أن تحافظ عليها الدولة من دون قتال أمريكي كبير ودعم مادي عاملان حاسمان في الاستراتيجية الكبرى بمثل هذه الحروب.
كما أن الافتقار إلى الواقعية الأمريكية في بناء الدولة وفشلها في إنشاء جيش جمهورية فيتنام الذي يمكن أن يحافظ على نفسه في القتال دون دعم القوات الأمريكية شكَّل عاملاً كاشفاً للفشل الاستراتيجي لواشنطن. علاوة على إخفاق الولايات المتحدة في إجراء فرز استراتيجي مناسب في تحديد أهدافها وإعادة تقييم أولوياتها الاستراتيجية بمجرد مشاركتها في قتال جدي. إذ انخرطت الولايات المتحدة في تلك الحرب في ضوء التعويل على منطقها الاستراتيجي القائم على "نظرية الدومينو" القائلة إن انتصار فيتنام الشمالية يمكن أن يخلق كتلة كبرى جديدة يهيمن عليها الصينيون والشيوعيون في آسيا.
صراعات الشرق الأوسط:
أدت الولايات المتحدة أدواراً عسكرية في الشرق الأوسط لعل أبرزها في العراق وأفغانستان ويمكن تفصيل دوريها في البلدين على النحو الآتي:
1. حالة العراق: أدت الولايات المتحدة دوراً سياسياً ودبلوماسياً في الحرب الإيرانية العراقية بين عامي 1980 و1988 دون أن يكون لها دور في القتال أو مساعٍ لبناء القوات العراقية، وذلك وفقاً لرؤية وتطلّع واشنطن إلى تحقيق هدف استراتيجي من هذا الصراع وهو ضمان عدم فوز أي من الطرفين. وتحقق ذلك عبر إعلان الطرفين وقف إطلاق النار على خلفية قرار مجلس الأمن رقم 598 في يوليو 1988.
ثّم تطور الموقف الأمريكي خلال الغزو العراقي للكويت في عام 1990، حيث سعت بغداد حينها لضم أراضي الكويت وثروتها النفطية وهو ما يؤثر في مصالح واشنطن، مما دفعها لتشكيل تحالف واسع أمريكي عربي تبعه شن هجوم جوي وبري على القوات العراقية في الكويت. وبرغم هذا النجاح الاستراتيجي، فإن واشنطن فشلت في تحقيق أهداف ذات مغزى لإنشاء دولة عراقية مستقرة بعد الحرب، وهو ما برّز في انتهاج واشنطن سياسة إنشاء منطقة حظر طيران فوق شمال العراق منذ إبريل 1991؛ مما أدى إلى ظهور كردستان، وما تبعه من تنامي النشاط العسكري العراقي سواءً داخلياً لمواجهة مخاطر الانفصال في كردستان أم عبر مساعيه لشن هجوم مضاد على الكويت. إلا أن سياسات الردع والتخطيط للطوارئ التي وضعتها الولايات المتحدة حدّت بصورة كبيرة من التوسعات العسكرية العراقية.
واتضح الانخراط العسكري الاستراتيجي الأمريكي بصورة كبيرة داخل العراق خلال الغزو الذي تم في 20 مارس 2003، بغرض تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل، لكنه كان بمثابة خطأ استراتيجي في إطار الإخفاقات الاستخباراتية الأمريكية التي سعت لتبرير الغزو. وجاء هذا التدخل العسكري دون وضع خطة موثوقة لإحلال سلام مستقر، حيث كانت تقديرات واشنطن قائمة على سهولة تطبيق تسوية سلمية في العملية السياسية وتوزيع الثروة النفطية العراقية وإنشاء ديمقراطية فاعلة في العراق وإغفال الانقسامات بين السنة والشيعة والعرب والأكراد، مما زاد من حِدة الهجمات المسلحة على القوات الأمريكية وتزايد وتيرة الجماعات المتشددة وصولاً لظهور تنظيم "داعش" في العراق وسوريا وتوطيد إيران علاقاتها مع الجماعات الشيعية في العراق. كل ذلك يُفهم منه حالة الفشل الاستراتيجي العسكري الأمريكي في تلك الدولة، وأنها لا تزال تفتقر إلى استراتيجية كبرى واضحة للعراق والمنطقة المحيطة به. إذ أدى دورها العسكري فيه، إلى عراق مقسم وغير مستقر.
2. حالة أفغانستان: مثّلت الحرب الأفغانية بين عامي 2001 و2021 نموذجاً لخسارة الولايات المتحدة الأمريكية واحدة من أكبر حروبها دون تحقيق أي مكاسب استراتيجية، فقد جاءت الحرب كرد فعل على هجمات 11 سبتمبر 2001 دون أن يكون هناك تفكير استراتيجي بشأن إعلان الحرب ضد حركة "طالبان". وعقب هذا التدخل نفذّت الولايات المتحدة قرار مجلس الأمن الداعي إلى قيام واشنطن بدور مركزي في إنشاء سلطة انتقالية وقوات حفظ السلام.
وواجهت الولايات المتحدة تحدياً، خاصة فيما يتعلق بإنشاء جيش وقوات جوية وقوات أمن أفغانية للدفاع عن البلاد، وعلى الرغم من إطلاق واشنطن للخطة المدنية العسكرية لترتيب المشهد الأفغاني فإن هذه الجهود جاءت تجميلية إلى حدٍ كبير، ولم تفعل أكثر من تحديد أهداف عامة ولم تؤد مطلقاً إلى تنسيق وثيق بين الجهدين العسكري والمدني. ومع تفاقم تكلفة الحرب انسحبت واشنطن من أفغانستان دون تحقيق سلام مستدام أو وجود دولة مؤسسات قوية.
دروس أساسية:
طرح كوردسمان من خلال تقييمه للتدخلات العسكرية الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية درسان استراتيجيان وهما:
1. الافتقار لخطة عمل لمعالجة التحديات داخل الدول المضيفة: إن معظم الحالات التي تنطوي على وجود عسكري أمريكي واسع، أبرّزت فشل واشنطن في معالجة المخاطر التي نشأت في محاولة دعم حكومات البلدان المضيفة، بل والافتقار للتعامل مع القيادة السياسية الفعالة للبلد المضيف أو الانقسامات العميقة التي كانت موجودة في البلاد على المستوى العرقي والقبلي والديني. كذلك، تعاملت واشنطن مع الافتقار إلى التنمية الاقتصادية المدنية الفعالة، وفساد الدولة المضيفة والحكم الاستبدادي على أنها مشكلات ثانوية وليست تحديات رئيسية للنجاح، علاوة على إخفاقها في بناء قوات عسكرية فعالة للبلد المضيف.
2. عدم وضوح الرؤية لما بعد الحرب: فواحدة من الإخفاقات الأمريكية الاستراتيجية هي غياب رؤية واضحة لمرحلة ما بعد الحرب، سواءً على مستوى بناء مؤسسات الدولة أم استراتيجية دعم المساعدة العسكرية والمدنية للدولة المضيفة. ويرجع ذلك إلى الإخفاق في تطوير تقييمات واقعية للتكلفة والمخاطر، حيث كان تركيز الإدارات الأمريكية على هزيمة العدو من الناحية العسكرية، دون وضع أهداف واضحة لإنهاء القتال وخلق نتيجة مستقرة ومفيدة بعد الحرب. وهذا الأمر يتطلب التركيز على الفرز الاستراتيجي في تقييم الصعوبات المحتملة والمتغيرة في إنهاء الصراع، مع إعطاء الجانب المدني لبناء الأمة نفس الأهمية الاستراتيجية الكبرى مثل القتال العسكري.