• اخر تحديث : 2024-11-23 11:50
news-details
مقالات عربية

مع غياب التصوّر لـ "اليوم التالي" في غزة: الحرب استنزاف لحماس أم لإسرائيل؟


مع استمرار امتناع بنيامين نتنياهو عن مناقشة ما بات يُعرف إسرائيلياً بـ "اليوم التالي للحرب"، يزداد الاهتمام الإسرائيلي الداخلي بمناقشة السيناريوهات والتصورات الإسرائيلية لمستقبل قطاع غزة وفق التصورات الإسرائيلية. من ناحية، هناك توجه يدفع باتجاه السعي لإخراج إسرائيل من "الورطة" أو "المصيدة" باللجوء إلى إنهاء القتال والتوصل إلى صفقة تبادل أسرى بما يضمن المصالح الإسرائيلية على كافة المستويات. من ناحية ثانية، يُصرّ التوجه السائد على ضرورة استمرار العمليات العسكرية في قطاع غزة حتى تحقيق أهداف إسرائيل العسكرية والسياسية مع تبنّي نهج تفضيلي بين جنوب وشمال القطاع.

هذه المساهمة لا تدّعي وجود خط فاصل يخلق حدوداً واضحة بين هذين التوجهين؛ إذ إن هناك العديد من البدائل الإسرائيلية المطروحة تقع في منتصف هذين التوجهين، أو تنضوي تحتهما. لكن تحاول إجمال ما يتم طرحه من بدائل وخيارات إسرائيلية يقف كل منها على الطرف المقابل للآخر، في ظلّ استمرار إسرائيل المراوحة في المكان سياسياً (على الأقل) وتجنّب المستوى السياسي اتخاذ قرارات واضحة في ما يتعلّق بهذه المسألة.

حرب استنزاف ومصيدة متعددة الجبهات لإسرائيل!

إن الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة تختلف عن سابقاتها بشكلٍ كامل، لا من حيث أسباب وتداعيات وخسائر هذه الحرب، ولا من حيث طبيعتها ومدّتها؛ وإنما أيضاً من كونها (أي الحرب) تحولت إلى هدف وليس وسيلة لتحقيق أهداف سياسية كما جرت الحروب السابقة. الكاتب يوسي ميلمان (المعلّق في شؤون الأمن والاستخبارات) يرى أن أحد أسباب تعثّر الجيش الإسرائيلي بعد أكثر من مئة يوم على الحرب في تحقيق هدف الحرب، هو أن المستوى السياسي منذ البداية لم يُحدّد أهدافاً دقيقة للحرب، إذ إن الأهداف المُعلنة يُنظر إليها منذ اليوم الأول على أنها أهداف غير واقعية، بالتالي، فإن إسرائيل لا تملك أية استراتيجية أو تصور لإنهائها. هذا الأمر يتعزّز مع استمرار تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بأن الحرب ستستمر عدّة أشهر حتى تحقيق "النصر الساحق" مع استمرار الامتناع عن مناقشة ما بات يُعرف إسرائيلياً بـ "اليوم التالي" لأسباب وحسابات سياسية- شخصية، وسياسية داخلية (حزبية) أيضاً. وهذا يتقاطع مع رغبة كل من وزير الدفاع يوآف غالانت، ورئيس هيئة أركان الجيش هرتسي هليفي، اللذين يؤيدان استمرار الحرب.

من جهة ثانية، فإن استمرار غياب تصور سياسي إسرائيلي واضح لمستقبل قطاع غزة، بالتزامن مع استمرار إطلاق الشعارات الكبيرة وتبنّي أهداف غير منطقية وغير قابلة للتحقيق، يدفع إسرائيل نحو السقوط في مصيدة خطيرة متعدّدة الجبهات على النحو التالي: 1) حرب شاملة ومفتوحة في قطاع غزة؛ 2) حرب استنزاف مع حزب الله على الجبهة الشمالية على حافة القتال المفتوح؛ 3) استمرار هجمات الحوثيين من اليمن ضد إسرائيل ومحاولة فرض حصار مائي من الجنوب بشكل كلي أو جزئي؛ 4) تزايد خطر المواجهة العسكرية المفتوحة في الضفة الغربية واندلاع انتفاضة ثالثة وهو ما يريده المستوطنون وممثلوهم في الكنيست؛ 5) تزايد خطورة ممارسة إيران الضغط على الفصائل الشيعية الموالية لها في العراق وسورية على الانخراط المتزايد في  هذه الجبهة وتوسيع هجماتها ضد إسرائيل وهو ما يساعدها في محاولة لإسراع الجهود من أجل الوصول إلى القنبلة النووية.

هذه الحال المركّبة تُضاف إليها أزمة داخلية غير مسبوقة ومركّبة على النحو التالي: 1) استمرار أزمة ملف الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين وتعثّر محاولات التوصّل إلى صفقة تبادل لإعادتهم؛ 2) استمرار أزمة عشرات آلاف الإسرائيليين الذين تم إجلاؤهم من المنطقة الحدودية مع لبنان؛ 3) استمرار أزمة سكان مستوطنات غلاف قطاع غزة. وكل ما سبق يجعل الحال غير مسبوقة بالنسبة لإسرائيل في تاريخ حروبها السابقة، وأدق وصف لها هو أنها في مصيدة متعدّدة الجبهات، وعلى الرغم من وجود فرصة للخروج من هذه المصيدة، فإن هذا الأمر لا يُمكن أن يحدث ما دام نتنياهو في منصبه رئيساً للحكومة.

"تشكيل اليوم التالي يتطلّب نصراً في اليوم السابق"!

وبخلاف التوجه المُشار إليه أعلاه، يرى عاموس يدلين (الذي شغل في السابق منصب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية- أمان) أن الانتقال إلى "المرحلة الثالثة" من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يهدف لتعزيز المصالح الإسرائيلية على المستويات العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية. من جهة، إن العمليات العسكرية بشكلها السابق الكثيف استنفدت نفسها، ولذلك، فإن الخيار الأفضل والذي يخدم أهداف الحرب هو الانتقال إلى حرب استنزاف مستمرة لحركة حماس على كافة الصعد. من جهة ثانية، إن الانتقال للمرحلة الثالثة يشمل أيضاً تسريح عدد كبير من جنود الاحتياط، وهو ما سيساعد على تقليص الخسائر في صفوف الجيش، بالإضافة إلى تقليل الخسائر الاقتصادية المترتبة على إخراج هؤلاء من سوق العمل، بالتزامن مع ذلك يتم إعادة انتشار/ تموضع الجيش في منطقة شمال وادي غزة التي بدأت إسرائيل تحقّق فيها سيطرة بعد أن ألحقت ضرراً كبيراً بالقدرات العسكرية لحركة حماس. من جهة ثالثة، إن الانتقال إلى "المرحلة الثالثة" من الحرب من شأنه أن يمنح الجيش هامشاً زمنياً طويلاً يستفيد منه في كسب مزيد من الوقت بهدف تحقيق أهداف الحرب، كما سيوفر للجيش مرونة في الاستعداد لمواجهة التحدّي الذي يُشكّله حزب الله على الجبهة الشمالية وإمكانية تدحرج المواجهة المحدودة فيها إلى مواجهة مفتوحة وحرب شاملة. من جهة رابعة، إن هذا الانتقال يعزّز من القبول والدعم الذي تُبديه الولايات المتحدة ودول العالم الغربي لفكرة أن إسرائيل لن تعود إلى واقع ما قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، وأن الحرب في غزة لن تتوقف بل سيتغير شكلها فقط وهو أمر مهم من الناحية السياسية، ويخلق شرعية واعترافاً دولياً بضرورة الاستمرار في الحرب حتى "القضاء على حركة حماس". من جهة خامسة، فإن الانتقال إلى هذه المرحلة سيسمح لإسرائيل بالانخراط بشكلٍ أكبر في تشكيل الواقع المستقبلي في غزة بالتوازي مع استمرار الإضرار بقدرات حركة حماس العسكرية والسلطوية، وما يجعل هذا الأمر مُلحاً أن غياب النقاش أو التصورات في هذا الشأن قد يفقد إسرائيل "الإنجازات العسكرية الميدانية" وتحديداً في قطاع غزة، كذلك هذا الأمر الذي يُمكن من خلاله حشد الدعم الدولي والإقليمي الساعي أيضاً للبحث عن بديل فلسطيني لحكم حماس في غزة.

ولكي تتحقّق أهداف الحرب المتمثّلة بإعادة الأسرى الإسرائيليين، تدمير قدرات حركة حماس العسكرية والسلطوية، وإعادة سكان مستوطنات غلاف قطاع غزة، وفقاً للتصوّر الذي يطرحه يدلين، فسيتعيّن على المستويين السياسي والعسكري الاختيار بين بدائل أربعة رئيسة، منها بديلان يتعاملان مع قطاع غزة كوحدة جغرافية واحدة، وآخران يتبنّيان نهجاً مختلفاً لكل من شمال وجنوب القطاع، نُلخّصها على النحو التالي:

- البديل الأول- "خانيونس": بموجبه يتم الانتقال من القتال الكثيف في شمال قطاع غزة إلى قتال أقل كثافة وتركيزاً في خانيونس، من أجل مواصلة الضغط العسكري على حركة حماس، وعلى الرغم من تسريح معظم قوات الاحتياط، فإن معظم هذه القوات ستبقى إلى جانب القوات النظامية حتى إشعار آخر (إعادة تموضع/ انتشار الجيش في شمال قطاع غزة ولاحقاً في الجنوب).

- البديل الثاني- "الأميركي": بموجب هذا البديل، تدفع الإدارة الأميركية إسرائيل باتجاه الانتقال إلى تبنّي عملية عسكرية محدّدة بعيداً عن الكثافة المُتبعة منذ بداية الحرب قدر الإمكان ضد قيادة حركة حماس، وتعتمد بشكل رئيس على "عمليات الإحباط المركّز" من الجو ومن خلال عمليات ميدانية تقوم بها الوحدات الخاصة. هذا الأمر قد يدفع الولايات المتحدة للضغط على إسرائيل من أجل انسحاب جميع القوات من غزة إلى الحدود، في إطار مساعي التقليل من أعداد الضحايا من المدنيين وحجم التدمير كذلك، لتهيئة الظروف من أجل تعزيز سيطرة مدنية فلسطينية في قطاع غزة لا تشمل حماس ضمن مخطط سياسي شامل للساحة الفلسطينية.

- البديل الثالث- حصار في الشمال، وقتال في الجنوب: يقترح هذا البديل التعامل مع القطاع كمنطقتين: استمرار القتال في منطقة وسط وجنوب قطاع غزة، وفرض حصار على منطقة شمال القطاع التي تم تهجير الغالبية العظمى من سكّانها في محاولة للحفاظ على "الإنجازات الميدانية" التي حققها الجيش، منع حماس من إعادة تنظيم وبناء نفسها في هذه المنطقة، واستخدامها كورقة من أجل "تطهير" حماس، وإعادة الأسرى وإعادة إعمار مستوطنات الغلاف. بالتزامن مع ذلك، سيفرض هذا الحصار على مقاتلي حماس الخروج من الأنفاق والاختيار بين الموت أو الاستسلام.

- البديل الرابع- إعادة إعمار في الشمال، وقتال في الجنوب: يقترح هذا البديل الاستفادة من الظروف التي تمت تهيئتها في مناطق شمال القطاع، والبدء بإعادة سكان هذه المناطق بشكلٍ تدريجي مع العمل على تحقيق استقرار عبر البدء بإعادة الإعمار فيها، تمهيداً لخلق واقع سياسي بالتعاون مع اللاعبين الإقليميين والدوليين يكون النموذج المستقبلي لكل قطاع غزة. بالتزامن مع ذلك، تستمرّ إسرائيل في العمل العسكري ضد حركة حماس والبنية التحتية (الأنفاق) في جنوب قطاع غزة التي لم يتم تدميرها بعد.

يُشير يدلين إلى أن كل بديل من البدائل المذكورة ينطوي على مجموعة من المكاسب والمخاطر، لذلك يقترح أن تلجأ إسرائيل إلى تبنّي استراتيجية استنزاف مستمرّة ومتعدّدة الأبعاد ضد حركة حماس تجمع بين الخطوات العسكرية والسياسية والاقتصادية واسعة النطاق، من خلال تبنّي بديل يجمع بين العناصر التي تخدم إسرائيل في "البديل الأميركي" والعناصر المهمة في "البديل الثالث"، مع الاستغناء عن أية عناصر فيهما قد تستفيد منها حركة حماس في إعادة بناء وتنظيم قوتها في شمال القطاع، أو تعرّض إسرائيل للضغط والانتقاد الدولي.

بالتالي، تتبنّى إسرائيل نمطاً قتالياً منخفض الكثافة في شمال القطاع، والتركيز العسكري على الجنوب دون اللجوء إلى وقف إطلاق النار بشكل كامل (وإن تعين عليها القبول بهدن مؤقتة في إطار صفقات إطلاق سراح الأسرى). بالإضافة إلى ذلك، تحافظ إسرائيل مع مرور الوقت على "حرية عمل عسكري" بالتزامن مع بناء "حزام أمني" على طول الحدود يضمن لها ذلك وسط استمرار تدمير الأنفاق في المناطق المحتلة والقضاء على القدرات العسكرية لحركة حماس فيها. أما في ما يتعلّق بمعبر رفح ومحور فيلادلفيا، فسيتعيّن على إسرائيل "تطويره" وبناء عائق تحت أرضي بالتعاون مع الولايات المتحدة ومصر، وكذلك فرض سياسات مالية شديدة جداً لتجفيف مصادر تمويل الحركة خارج وداخل القطاع بالتعاون مع الأطراف الإقليمية والدولية، وكل هذه الخطوات يجب أن تتم بشكل تدريجي وبالتعاون مع الولايات المتحدة التي تسعى أيضاً إلى "إصلاح" السلطة الفلسطينية من خلال ما بات يُعرف بـ "سلطة فلسطينية متجدّدة"، وإلى حين ذلك، سيتعين على إسرائيل التعامل مع "جهات محلية" لا تنتمي لحماس أو لفتح في المناطق التي تسيطر عليها والتي تعمل بها.

ختامًا، إن البدائل والتصورات المطروحة أعلاه تُغطي في كلّيتها توجهين في ما يتعلّق بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وسط مراوحة إسرائيل مكانها عسكرياً في الحرب، وهو الحال الذي يتتعزّز مع استمرار عدم الحسم في ما بات يُعرف بـ "اليوم التالي" لحسابات سياسية داخلية في إسرائيل. لكن، رغم عدم الحسم في هذا النقاش، إلا أن المعطيات الميدانية، ونوايا اللاعبين في إسرائيل كذلك، تُشير إلى أن الوجهة في إسرائيل، حتى في أقل السيناريوهات حدّة، هي تحويل القطاع إلى منطقة حربية دائمة لإعادة الوضع إلى ما كان قائماً عليه قبل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع عام 2005، عبر إعادة انتشار/ تموضع الجيش في المحيط، على الأقل، بشكل يضمن لها حرية عمل عسكري- أمني في المستقبل، ويخفّف من الضغط الدولي- إن وجد أصلاً- في أعقاب تداعيات قرارات محكمة العدل الدولية التي يُمكن لإسرائيل ربّما التحايل عليها في المدى القريب من خلال الترويج لمرحلة جديدة من الحرب تشمل "خفض القتال، وزيادة المساعدات الإنسانية"، لكنها ستفشل بذلك على المدى البعيد ليس لأسباب مرتبطة بحساباتها السياسية الداخلية وبإجرائاتها العسكرية المستمرّة على الأرض فقط؛ وإنما أيضًا في ئل تصاعد الأصوات اليمينية الاستيطانية المطالبة بعودة الاستيطان في قطاع غزة تحت شعار "الاستيطان يجلب الأمن".