لقد كان هجوم حركة «حماس»، في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الذي أعقبه الهجوم العسكري الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، سبباً في تسليط الضوء على سؤال محفوف بالمخاطر، في لحظة يتصاعد فيها التعصب والألعاب السياسية الداخلية، وهو: هل تُعد معاداة الصهيونية معاداة للسامية أيضاً بحُكم تعريفها؟
وأثار هذا السؤال انقساماً عميقاً بين الديمقراطيين في «الكونغرس الأميركي»، الأسابيع القليلة الماضية، عندما طرح زعماء الحزب الجمهوري، الذين يسعون إلى دق إسفين بين اليهود الأميركيين والحزب السياسي، السؤال للتصويت في مجلس النواب.
وقد هزَّ هذا السؤال أيضاً الجامعات الأميركية، وتردد صداه في شوارع البلاد، حيث أطلق المتظاهرون المؤيدون للفلسطينيين هتافات تطالب بتحرير الأراضي الفلسطينية؛ من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط.
كما ظهر الأمر أيضاً في المناظرة الرئاسية الجمهورية التي أُجريت قبل أسابيع، عندما قالت نيكي هيلي، الحاكمة السابقة لولاية كارولاينا الجنوبية: «إذا كنتَ لا تعتقد أن لإسرائيل الحق في الوجود، فهذا يُعدّ معاداة للسامية»، إذ حذر زوج نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، دوج إيمهوف، وهو يهودي، من أنه "عندما يتم استهداف اليهود بسبب معتقداتهم أو هويتهم، وعندما يتم تمييز إسرائيل بسبب الكراهية لليهود، فهذا يُعدّ معاداة للسامية".
ولطالما كانت الصهيونية، بوصفها مفهوماً، واضحة للجميع، وهي الاعتقاد بأن اليهود الذين تحملوا الاضطهاد لآلاف السنين يحتاجون إلى ملجأ وتقرير مصيرهم في أرض أجدادهم، ولا تزال هذه الكلمة سبباً في الشعور بالفخر لدى العديد من اليهود في إسرائيل، التي تأسست قبل 75 عاماً، ودافعت عن نفسها مراراً وتكراراً ضد هجمات جيرانها العرب التي تهدف إلى إبادتها.
وإذا كانت معاداة الصهيونية تعني، قبل قرن من الزمان، معارضة الجهود الدولية الرامية إلى إقامة دولة يهودية على ما كان آنذاك أرضاً تحت السيطرة البريطانية تسمى فلسطين، فإنها تشير الآن إلى التخلص من إسرائيل بوصفها وطنَ اليهود، ويقول العديد من اليهود في إسرائيل والشتات إن هذا لا يمكن النظر إليه بوصفه مختلفاً عن كراهية اليهود بشكل عام، أو معاداة السامية.
ومع ذلك، فإن بعض منتقدي إسرائيل يقولون إنهم يربطون بين الصهيونية والمشروع المستمر لتوسيع الدولة اليهودية، وهو الجهد الذي تحفزه الحكومة الإسرائيلية العازمة على استيطان المزيد من الأجزاء في الضفة الغربية التي اقترحها الإسرائيليون، وكذلك الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى، كدولة منفصلة للفلسطينيين.
إن توسيع هذه المستوطنات، في نظر منتقدي إسرائيل، يستحضر في الأذهان صور المستعمرين الاستيطانيين وعمليات الفصل العنصري.
ولذا فإن الإجابة عن هذا السؤال تبدو واضحة بالنسبة لبعض اليهود، وهي أنه بالطبع معاداة الصهيونية معاداة للسامية أيضاً؛ إذ يقول هؤلاء إن إسرائيل يعيش فيها نحو نصف يهود العالم، ولذا فإن تدميرها، أو إنهاء وضعها كملجأ لهم يضمنون فيه حُكم أنفسهم بأنفسهم، سيعرِّض شعباً واجه الإبادة مراراً وتكراراً للخطر.
أما بالنسبة للعديد من الفلسطينيين وحلفائهم، فإن مساواة معارضة إقامة دولة يهودية على أرض عربية، أو معارضة توسعها، بالتعصب هو بمثابة إسكات لتطلعاتهم الوطنية، كما أنه يقلل من حجم معاناتهم المستمرة منذ 75 عاماً. ولكن ربما لا يكون السؤال أكثر خطورة مما هو عليه بين اليهود أنفسهم؛ إذ يبحث اليهود الأصغر سناً ذوو الميول اليسارية، المنغمسون في قضية مناهضة العنصرية ومصطلحات مثل «الاستعمار الاستيطاني»، بشكل متزايد عن هوية يهودية تتمحور حول بعض القيم الدينية، مثل السعي لتحقيق العدالة وإصلاح العالم أكثر من التركيز على القومية الجماعية المرتبطة بفكرة أرض إسرائيل.
كما أن العديد من اليهود الليبراليين الأكبر سناً قد عانوا من ميل الحكومة الإسرائيلية إلى اليمين المتطرف، ولكنهم يرون تل أبيب بوصفها الضامن لاستمرار الوجود اليهودي في عالم أصبح أكثر علمانية من أي وقت مضى.
أما بالنسبة للجمهوريين، فإن المسألة تبدو بسيطة، وهي أن إثارة فكرة معاداة الصهيونية في الجدل الدائر حول معاداة السامية أثناء الحرب بين إسرائيل و«حماس» يدفع المتعصبين القوميين البيض الموجودين على هامش الائتلاف الجمهوري، جانباً، ويجبر الديمقراطيين على الدفاع عن المتظاهرين المؤيدين لـ«حماس» على هامش ائتلافهم.
وعلى النقيض من ذلك، فإنه بالنسبة للمجتمع الديمقراطي الأوسع، يبدو النقاش مؤذياً؛ إذ يتم تحريض الحلفاء بعضهم ضد بعض، مما أدى إلى انقسام الديمقراطيين اليهود المحافظين، الذين يعتقدون بشكل مطلق أن معاداة الصهيونية معادية للسامية، عن الديمقراطيين التقدميين، خصوصاً الديمقراطيين ذوي البشرة الملونة الذين يدافعون بالقوة ذاتها عن حرية انتقاد إسرائيل.
ويتضمن تعريف معاداة السامية، كما صاغه التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة، الذي تبناه «البيت الأبيض» في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، عبارات يقول النقاد إنها تؤدي لسحق الخطاب السياسي الحالي:
– حرمان الشعب اليهودي من حقه في تقرير المصير، مثل الادعاء بأن وجود دولة إسرائيل مسعى عنصري.
– تطبيق المعايير المزدوجة، من خلال مطالبة إسرائيل بسلوك غير متوقَّع أو مطلوب من أي دولة ديمقراطية أخرى.
– مقارنة السياسة الإسرائيلية المعاصرة بالسياسة النازية.
ويتفق تعريف مؤسسة «قوة عمل نيكسز»، وهي مجموعة من الأكاديميين والناشطين اليهود التابعين لـ«مركز بارد لدراسة الكراهية»، على أن تحميل اليهود في جميع أنحاء العالم المسؤولية عن تصرفات الحكومة الإسرائيلية، كما فعل المتظاهرون المؤيدون للفلسطينيين، في الأسابيع القليلة الماضية، خارج مطعم إسرائيلي في فيلادلفيا، هو كراهية لليهود، كما ترى المؤسسة أنه من معاداة السامية أيضاً رفض حق اليهود وحدهم في تعريف أنفسهم كشعب وممارسة تقرير المصير، كما يفعل البعض في اليسار، عندما يجادلون بأن اليهود دين، وليسوا أمّة.
وبعبارة أخرى، فإن التعريف الخبيث لمعاداة الصهيونية يتقاطع في نهاية المطاف مع التعريف الخبيث لمعاداة السامية، وذلك سيئ للغاية بالنسبة لليهود. ومع ذلك، يشعر الديمقراطيون بالقلق من أن هذا النقاش يطمس الخط الفاصل بين الخطاب السياسي وخطاب الكراهية؛ إذ يتم اعتبار التبتيين الذين يضغطون من أجل التحرر من الصينيين غير جديين أو حتى بغيضين في بكين، تماماً مثل النشطاء الأميركيين الأصليين الذين يطالبون باستعادة أجزاء من الولايات المتحدة في نظر أصحاب تلك الأرض، ولكن هل هؤلاء متعصبون؟
بالنسبة للناشطين اليهود الشباب المنتمين إلى الجماعات اليسارية، مثل «الصوت اليهودي من أجل السلام»، الذين اتُهموا هم أنفسهم بمعاداة السامية، فإن مسألة البحث عن هوية يهودية غير متأصلة في الأرض لم تكن أمراً معقداً؛ فقد ظل اليهود على قيد الحياة بلا دولة لمدة تقرب من 2000 عام، بعد أن دمر الرومان الهيكل الثاني في القدس، وشتتوا سكان الأرض المقدسة في جميع أنحاء الأرض.
وهو ما قد يستجيب له اليهود الأصغر سناً والأكثر يسارية، من خلال التساؤل عما يعنيه الاقتراح بأنه يجب على السياسة الأميركية أن تركز على تأمين ملاذ آمن لليهود بالخارج، في الوقت الذي يضمن فيه التعديل الأول للدستور أن الولايات المتحدة هي هذا الملاذ الآمن.
وفي كل هذا، فإن الفجوة بين الأجيال تبدو واضحة، فقد عاش اليهود الأكبر سناً تجارب وانتصارات الدولة اليهودية المبكرة؛ إذ يتذكر اليهود في منتصف العمر الأمل في السلام الذي يعترف بالتطلعات المشروعة للشعبين اليهودي والفلسطيني، التي تجسدت في اتفاقيات أوسلو بالتسعينات، والعملية الدبلوماسية التي تمت متابعتها بقوة حتى السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، فالشباب اليهود الذين انضموا إلى المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين في الشهرين الماضيين لا يعرفون سوى إسرائيل التي يرون أنها تتصرف بقوة وعنف ضد الفلسطينيين ويحكمها قادة من أقصى اليمين.