على مدار الشهر الماضي، تابعنا أحداث دراما عالمية مذهلة انطوت على مخاطر كبرى جرت أحداثها في لاهاي، وذلك عندما أقدمت مجموعة من الدول المنتمية إلى الكتلة الأفقر والأقل قوة من العالم، يطلق عليها البعض «الجنوب العالمي»، بقيادة جنوب أفريقيا، بجر حكومة إسرائيل، وحلفائها الأغنياء والأقوياء، إلى محكمة العدل. وتمثل محكمة العدل الكيان القضائي الأعلى في إطار النظام العالمي القائم على القواعد الغربية. واتهمت هذه الدول إسرائيل بشن حرب وحشية في قطاع غزة تتسم «بطابع الإبادة الجماعية».
وجاءت الردود على هذا الاتهام من الدول الرائدة في هذا النظام العالمي سريعة وصريحة.
مثلاً، وصف بيان صادر عن ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني، الدعوى القضائية ضد إسرائيل بأنها «غير مبرر لها وخاطئة تماماً».
وقال جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن الوطني الأميركي، إن الدعوى «لا قيمة لها، وستؤدي إلى نتائج عكسية، ولا أساس لها على الإطلاق على أرض الواقع».
وفي السياق ذاته، أعلن المتحدث باسم الحكومة الألمانية أن «هذا الاتهام ليس له أي أساس في الواقع»، مضيفاً أن بلاده تعارض «الاستغلال السياسي» لقانون مكافحة الإبادة الجماعية.
ومع ذلك، خرجت المحكمة على العالم، الجمعة، لتعلن كلمتها، وأصدرت حكماً مؤقتاً رصيناً كان بمثابة توبيخ لأصحاب هذه التصريحات الرافضة للجوء إليها. وأكدت المحكمة أن بعض ادعاءات جنوب أفريقيا معقولة، ودعت إسرائيل إلى اتخاذ خطوات فورية لحماية المدنيين، وزيادة حجم المساعدات الإنسانية، ومعاقبة المسؤولين الذين شاركوا في خطاب عنيف وتحريضي. ومع أنها لم تصل إلى حد الدعوة إلى وقف إطلاق النار، فإنها وافقت على طلب جنوب أفريقيا باتخاذ تدابير مؤقتة لمنع وقوع مزيد من الوفيات بين المدنيين. وفي الجزء الأكبر منه، جاء حكم المحكمة لصالح «الجنوب العالمي».
المؤكد أن اتهام الدولة التي تأسست في أعقاب المذبحة التي فرضت صياغة مصطلح الإبادة الجماعية، يعد خطوة خطيرة. من جانبهم، دقّ الخبراء المعنيون بمجال مكافحة الإبادة الجماعية، ناقوس الخطر بشأن تصريحات القادة الإسرائيليين وسلوكهم في الحرب، لكنهم لم يصلوا إلى حد وصف أعمال القتل بالإبادة الجماعية. كما رحّب البعض بطلب جنوب أفريقيا، بوصفه خطوة ضرورية نحو منع الإبادة الجماعية.
جدير بالذكر أن المحكمة لم تتلقَّ طلباً لإصدار حكم بخصوص ما إذا كانت إسرائيل قد ارتكبت بالفعل إبادة جماعية ـ مسألة من المرجح أن يستغرق الفصل فيها سنوات.
ومهما كانت النتيجة النهائية لهذه القضية، فإنها تشعل معركة ملحمية حول معنى وقيم ما يسمى النظام العالمي القائم على القواعد. وإذا كانت هذه القواعد لا تنطبق عندما لا ترغب الدول القوية في تطبيقها، فهل يجوز عدّها قواعد من الأساس؟
من جهتها، قالت ثولي مادونسيلا، أحد العقول القانونية الرائدة في جنوب أفريقيا، واضطلعت بدور محوري في صياغة دستور البلاد فيما بعد حقبة الفصل العنصري: «طالما أن أولئك الذين يضعون القواعد يفرضونها على الآخرين بينما يعتقدون أنهم وحلفاءهم فوق تلك القواعد، سيظل نظام الحكم الدولي في ورطة.
يقال إن هذه القواعد هي ما سيجري تطبيقه عندما تغزو روسيا أوكرانيا أو عندما يجري ذبح الروهينغا على يد ميانمار، لكن عندما تقتل إسرائيل الفلسطينيين، وتحرمهم من الطعام، وتهجرهم بشكل جماعي، فإن القواعد لا يجري تطبيقها، ويجري اتهام كل من يحاول تطبيقها بمعاداة السامية. هذا الوضع يعرض تلك القواعد لخطر حقيقي».
لدى قراءة الدعوى التي أعدّتها جنوب أفريقيا، تساءلت حول ما إذا كان زعماء العالم الغربي الذين رفضوا هذه الاتهامات قد قرأوا الأدلة نفسها التي قرأتها. إنه سجل مروع لبيت من الرعب يكشف بالتفصيل كيف عانى الفلسطينيون في غزة من القصف والتهجير دون هوادة. وأذهلني مدى دقة توثيق الادعاءات. تتضمن الوثيقة 574 حاشية تستشهد بمصادر ممتازة، مثل وكالات الأمم المتحدة ومنظمات المساعدات الإنسانية المحايدة الرئيسية، مثل منظمة إنقاذ الطفولة، ومؤسسات إخبارية رئيسية، بينها «نيويورك تايمز» و«بي بي سي» و«رويترز».
ونقل نص الدعوى عن باحثين قولهم إنَّ الحملة العسكرية الإسرائيلية «أحدثت دماراً أكبر من الدمار الذي لحق بحلب السورية بين عامي 2012 و2016 أو ماريوبول الأوكرانية، أو نسبياً، قصف الحلفاء لألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية». وقد جرى الاستشهاد بآراء هؤلاء الباحثين من جانب واحدة من أكثر المؤسسات الإخبارية التي تحظى باحترام عالمي: وكالة «أسوشييتد برس».
في الوقت ذاته، لم تسعَ جنوب أفريقيا إلى تجاهل أو التعتيم على فظاعة الهجوم الذي شنته جماعة «حماس» ضد إسرائيل، أو تهديدها المستمر لإسرائيل، في الواقع، تدين وثيقة الدعوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا صراحة هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)، وتشير إلى الهجمات الصاروخية المستمرة من غزة ولبنان.
ويستمر التقرير في اقتباس تصريحات من كبار المسؤولين الإسرائيليين، بينهم الرئيس إسحاق هرتسوغ، تفيد بأن «أمة بأكملها هي المسؤولة»، دون تمييز بين المدنيين ومقاتلي «حماس». ودعا وزير الدفاع الإسرائيلي، خلال الأيام التي تلت الهجوم، إلى فرض «حصار كامل»، مضيفاً أنه «لن يكون هناك كهرباء، ولا طعام، ولا ماء، ولا وقود، كل شيء محظور». وأضاف أنه في قتال «حماس»، واجهت البلاد «حيوانات بشرية، ونحن نتصرف على هذا الأساس».
كما غرّد أحد السياسيين بأن الهدف المنشود «محو قطاع غزة من فوق الأرض». وقال وزير الزراعة إن إسرائيل «تنفذ الآن نكبة غزة».
بالتأكيد، هذه اتهامات خطيرة ستستغرق سنوات للتحقيق فيها وكشفها. والواضح أن متطلبات إثبات تورط الحكومة الإسرائيلية في الإبادة الجماعية صعبة للغاية، وهو أمر مناسب، خصوصاً أنها أبشع جريمة يمكن أن ترتكبها أمة، ولها صدى خاص، نظراً لأن مصطلح «الإبادة الجماعية» صاغه الباحث القانوني رافائيل ليمكين، وهو يهودي بولندي، أثناء «الهولوكوست» لإعطاء تعريف قانوني للمذبحة، وضمان عدم وقوعها مرة أخرى.
من جانبها، شنّت إسرائيل دفاعاً قوياً وتفصيلياً، بحجة أن التصريحات التي استشهدت بها جنوب أفريقيا لم تشكل سياسة حكومية رسمية. وقال الصحافي الأميركي الناطق بالعبرية، يائير روزنبرغ، في مجلة «ذي أتلانتيك»، إن بعض التصريحات الصادرة عن المسؤولين الإسرائيليين المقتبسة في دعوى جنوب أفريقيا قد تم اقتطاعها من سياقها، أو ترجمتها بشكل خاطئ. وتزعم إسرائيل أن «حماس» هي القوة التي يمكن أن ترتكب إبادة جماعية إذا أتيحت لها الفرصة، وأن الحملة العسكرية التي تشنها البلاد في غزة ضد هذه الجماعة هي حملة دفاع عن النفس.