العمق الاستراتيجي
تشكّل مجموعة عوامل مشتركة في الدعم العمق الاستراتيجي لإيران داخلها وخارجها؛ من قبيل اللغة، والدين والمذهب، كما يقول القائد الخامنئي. والعمق الاستراتيجي على درجات باختلاف الجهات وطبيعة العلاقة معها ونوع المشتركات ووحدة الرؤى والأهداف، وكذلك هو على أنواع ومجالات: جغرافي؛ أمني؛ عسكري؛ سياسي؛ ومالي. وبخصوص محور المقاومة، قام العمق الاستراتيجي على نقطة العداء المشتركة للاستكبار، لأمريكا والكيان المؤقت. يقوم العمق الاستراتيجي للمحور على 3 آليات أساسية: الردع ضد الكيان المؤقّت؛ شبكة العلاقات بين أعضاء المحور؛ والقدرة على الاشتباك في المنطقة الرمادية دون بصمة بعمليات "قابلة للإنكار وبتكلفة منخفضة". ويؤمن هذا المثلث العمق الاستراتيجي للمحور، العمق الذي سعت أميركا لجعله مكشوفًا ومختلًّا ما بعد الحرب الباردة عبر الفتن والنزاعات والصراعات حماية لأمن الكيان بين دول المنطقة. ويوصف العمق الاستراتيجي لإيران بأنه عمق استراتيجي "فريد" بين دول المنطقة؛ ينعكس في تصاعد الأهمية الإقليمية وصعود توازن قوى جديد فيها وخيارات تصعيدية ضد المنافسين الإقليميين التقليديين.
ويتّسم العمق الاستراتيجي في علاقة إيران مع أطراف المحور بالتماسك في الأدوار الإقليمية، بالتقاطع مع خاصية التبادل العكسي حيث تؤمّن أدوار إيران ووظائفها المختلفة في المحور العمق الاستراتيجي لبقية الأطراف، بينما تشكّل الأطراف والجماعات العمق الاستراتيجي لها، أيضًا. أمّن التمدد في دول العراق وسوريا ولبنان العمق الاستراتيجي الإقليمي، وبالمقابل تمثّل إيران العمق الاستراتيجي المالي واللوجستي والعسكري لجماعات المقاومة. على سبيل المثال، يساهم طريق إمداد بيروت طهران في بناء العمق الاستراتيجي لحزب الله، في لبنان. وفي مواجهة تنظيم "داعش"، دعمت إيران سوريا بكل ما يلزم لمنع سقوط الدولة العربية الممانعة، كما ساهمت بالعراق بمختلف عمليات الاستشارات والتسليح والتذخير في التصدّي للمشروع التكفيري. وفي الحرب على غزة، يشير الأمريكي إلى دور السفن الإيرانية الموجودة في البحر الأحمر في تقديم الإحداثيات اللازمة للمنظومات اليمنية، التي تحتاج إليها كشرط لعملها.
وفي المقابل، تشكّل الأراضي العراقية والسورية العمق الاستراتيجي الجغرافي لإيران؛ فالحروب فيهما مصيرية ووجودية، كما يرى قائد فيلق القدس، الحاج إسماعيل قآني. ويقرّ بأهمية العمق الاستراتيجي السوري لإيران تصريح الأدميرال علي شمخاني عام 2018: "أمن سوريا من أمن إيران، والانتصار في سوريا انتصار لإيران"، وقد سعت للحفاظ على هذا العمق المتبادل التأثير وعلى مكاسبه في السنوات الماضية رغم كل التحديات التي واجهتها مباشرة، أو غير مباشرة نتيجة الحسابات المعقدة إقليميًّا ودوليًّا. ومذ بدأت الحرب الكونية على سوريا، وقفت إيران إلى جانب النظام السوري في حماية سوريا من المخطط التدميري التقسيمي لها. ويؤمّن هذا العمق مشاركة حزب الله والحشد الشعبي وأنصار الله والزينبيون في حال حدوث معركة مع إيران تشكّل بما تحمله من مئات آلاف الصواريخ باتجاه الكيان الهاجس الأكبر لدى الأمريكي وحلفائه.
وبذات الوقت، تحافظ إيران على مسافة بينها وبين بقية أطراف المحور، بما يدعم عملية بناء العمق الإقليمي مع امتلاك المرونة اللازمة؛ مما يؤمن نقاط قوة لكل الجهات وهامشًا من الحركة الدبلوماسية والعسكرية، لكن مع عدم السماح لأي عدو بالاستفراد بأي من الأطراف؛ وهو ما ينعكس عمليًّا في مفهوم "وحدة الساحات" الذي تبلور أكثر أثناء الحرب على غزة، إذ بعث قائد فيلق القدس، الحاج قآني، برسالة إلى محمد الضيف قائد كتائب القسّام في حركة حماس يقول فيها: إن "إخوانكم في محور المقاومة متحدون معكم، وإنهم لن يسمحوا للعدو ومن يقف خلفه بالاستفراد بغزة وأهلها وتحقيق أهدافه القذرة".
وفي طوفان الأقصى، ساهم العمق الاستراتيجي وتشبيكه بين مختلف الساحات بمشاغلة الكيان المؤقت وتخفيف العبء عن الجبهة الداخلية، مع الاضطرار إلى الاستعداد للجبهات الأخرى، كما أمّن العمق الاستراتيجي القدرة على تقويض الردع الأمريكي والحد من التصعيد تجنّبًا للحرب الموسّعة؛ ما دفع به إلى ردود دون المستوى المطلوب في الردع الناجح.
التذخير والتمويل والتسليح
مذ انتصرت الثورة الإسلامية، رفعت إيران شعار نصرة المستضعفين ومواجهة الاستكبار، ولم تتوانَ خلال عقود تطورها الأربعة ونيف عن الاهتمام بتطوير نفوذها الخارجي بالتوازي مع اقتدراها الداخلي في سياق قابلية تطبيق هذا الشعار عمليًّا. وقد ساهم فيلق القدس، في نقل خبرات التدريب والتجهيز وتقديم التمويل ومختلف أنواع الدعم إلى الجماعات المقاومة في لبنان والعراق وسوريا واليمن. ودور مساهمة الحرس الثوري في تدريب حزب الله منذ بداية التأسيس، 1982، تشهد عليه مراكز "جنتا" التدريبية المعروفة في البقاع، وهو دور تنامى وتطوّر مع الوقت، سيّما مع قيادة الحاج قاسم سليماني لفيلق القدس (1988-2020). وتشكّل ترسانة حزب الله بما فيها من صواريخ بتمويل إيراني تهديدًا حقيقيًّا على الجبهة الشمالية للكيان المؤقت. لطالما شكّل تمويل إيران لحركات المقاومة محور النقاش والخلاف الأمريكي حول رفع العقوبات وتحرير الأصول الإيرانية المجمّدة، لأن الهاجس الدائم هو الانتعاش الذي سينعكس على قدرات المحور وتاليًا، ارتفاع التهديد على الكيان المؤقت والنفوذ الأمريكي في المنطقة.
وفي حين تقدم إيران لحركة أنصار الله في اليمن استشارات وخبرات تكنولوجية وعسكرية، يتهم الخطاب الأمريكي والغربي إيران بتسليح الحركة تدريبها خلال تحالف العدوان على اليمن. وتصرح وزارة الخارجية الأمريكية والبنتاغون بين الحين والآخر بمعلومات حول ضبط سفن تهريب أسلحة إيرانية متجهة لليمن. وقد أعلن الجيش الأمريكي عن ضبط شحنة أسلحة مرسلة لليمن نهاية شهر كانون الثاني 2024، تحوي مكوّنات صواريخ باليستية متوسطة المدى، ومتفجرات وطائرات بدون طيار ومعدات اتصالات ومجمعات إطلاق صواريخ موجهة مضادة للدبابات ومكونات عسكرية أخرى. وخلال الحصار البحري الذي فرضته اليمن على الكيان، تحدثت المصادر الأمريكية العسكرية عن دور السفينة الإيرانية "سافيز" شمال مضيق باب المندب التي تؤمن استخدام معلومات استخبارية مسبقة حول الأهداف المطلوبة للصواريخ البالستية اليمنية المضادة للسفن في الهجمات. وقالت المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، أدريان واتسون، في مقابلة مع شبكة سي إن إن (CNN) الأمريكية لها بتاريخ 23 كانون الأول، إن المعلومات الاستخبارية الإيرانية تساعد الحوثيين على شن هجمات على السفن في البحر الأحمر، مؤكدة أن "بدون دعم طهران، سيواجه الحوثيون صعوبة في تعقب السفن بالبحر الأحمر وبحر عمان.. والدعم الإيراني طوال أزمة غزة مكن الحوثيين من شن هجمات ضد إسرائيل وأهداف بحرية.. وأن الطائرات بدون طيار والصواريخ التي استخدمها الحوثيون في الهجمات قدمتها إيران أيضا، كجزء من تسليحها للجماعة المتمردة منذ عام 2015". وفي كل مرة، ينفي الخطاب الرسمي الإيراني أي مصادرة للقرار اليمني، وخصوصًا أثناء الحرب على غزة. وتتحدث مجلة "فورين أفيرز" عما تلقته حركة أنصار الله من إيران خلال حرب التحالف العدواني عليها العام 2015 من دعم منخفض التقنية وفعال من حيث التكلفة، وكيف أثبتت القوات اليمينة في مضيق باب المندب كفاءتها في الاستفادة من قدرات إيران الباليستية والطائرات بدون طيار".
وفي حين يصرح وزير الخارجية الأمريكي، أنطوني بلينكن، حول دور إيران في تنامي قدرات الحركات المقاومة ومدى الجهوزية التي وصلت إليه، فيقول في علاقة إيران وحركة حماس: "إيران وحماس لديهما علاقة طويلة.. حماس لم تكن لتصبح كذلك بدون الدعم الذي حصلت عليه لسنوات عديدة من إيران"، يكشف القيادي في حركة حماس، موسى أبو مرزوق، أن إيران "هي الدولة الأكثر دعمًا لحماس في كافة النواحي: المال، الأسلحة والتدريب." كما لا ينكر أبو مرزوق أن موقف حركة حماس أثر على العلاقات والدعم لكن ليس إلى حد وقف الدعم، فيقول: "دعم إيران لنا لم يتوقف أبدًا". إيران قبل الحرب مع سوريا كانت تشكّل العمق الاستراتيجي لحركة حماس. ومع العام 2012، دعمت كل من قطر وتركيا حماس لكن اقتصر ذلك على الجانب السياسي والمالي دون العسكري. ومع ترميم العلاقة مع إيران بعد العام 2014، ومع الحصار المطبق على غزة، وجدت حماس مجددًا كل أنواع الدعم بالمال والسلاح والخبرات لدى إيران. ويؤكّد هذا الدعم عضو المكتب السياسي لحركة حماس وممثلها في لبنان، أسامة حمدان، بقوله: "نعم نتلقى دعمًا من إيران، والخطأ أن الآخرين لا يقدمون دعمًا".
تشير هذه اللمحة إلى أهمية دور الدعم الإيراني والتمويل في تطوّر مسار الجماعات المقاومة والعمل المقاوم، حتى وصل إلى مرحلة التصدّي والمواجهة، وعرقلة أهداف المشاريع الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة. وتبرز أهمية الدور في قدرة المحور بأكمله على استنزاف قدرات الكيان الصهيوني بعد ما يقارب أربعة أشهر ونصف من الحرب على غزة، ودون أن يحقق الأهداف الأساس للعملية العسكرية الإسرائيلية مع كل الدعم المفتوح وغير المسبوق لها.
التنسيق والتشبيك
هو عبارة عن عملية مدوزنة الإيقاع في اختيار طبيعة العمل والمدى ونوعية الإجراءات المشتركة وفقًا لمجموعة من المحددات والمعايير الإجرائية والتطورات والحاجات والغايات والأهداف المرجوة. تقوم على احترام قرار الحركات الأخرى، وتقدير ظروف كل طرف والتحديات التي يواجهها شعبيًّا وسياسيًّا واستراتيجيًّا وقدرته على المبادرة أو رغبته في ذلك، بما يحدد حركته ومدى تطبيق مفاهيم "المحور" و"وحدة الساحات".
هذه المفاهيم تأسست في ظروف المواجهة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، بخصوص ملفها النووي وتمددها في المنطقة، وفي سياق تهديدات متكررة من الكيان المؤقّت باستهداف الحزب في لبنان، أو باستهداف المشروع النووي الإيراني نفسه. إنجاز إيران في تكريس مفهوم "وحدة الساحات" و"المحور" ساهم في انتظام حركة جماعات المقاومة في مختلف دول المحور، وتشكيل خط دفاع ظهرت أهميته بعد تدفق القوى الغربية إلى المنطقة بعد طوفان الأقصى وإطلاق يد الكيان في الإبادة الجماعية في غزة. فقد ساهمت قوى المحور بأكملها، كل حسب قدراته، في مشاغلة الكيان وحلفائه في المنطقة؛ حيث الصواريخ والمسيرات من اليمن أو من العراق ضد الكيان، أو من العراق وسوريا ضد القواعد الأميركية داخل البلدين.
لا يتناقض التنسيق والتشبيك مع التأييد والدعم لحركات المقاومة الأخرى في حال اتخاذ إحداها قرار متفرّد، كما حصل في طوفان الأقصى. فمع نفي الإمام القائد الخامنئي مبكرًا أية صلة لإيران بالعملية، أيدها قائلًا: "نُقبل أيادي الذين خططوا للهجوم على النظام الصهيوني". وتكرر النفي على لسان مختلف المسؤولين الرسميين المعنيين بمتابعة الملف. كما لا يتناقض التنسيق والتشبيك مع حفاظ الأطراف على استقلالية القرار والعلاقات السياسية بما ينسجم مع تطلعات أو إمكانيات كل حركة أو جهة على حدة. وينفي ممثل حركة حماس في طهران، خالد القدومي، وجود شروط إيرانية على العلاقة مع حماس، وبصريح العبارة يقول: " إيران تعلم لو أنها اشترطت لما قبلت حركة حماس ذلك".ويقع التنسيق والتشبيك على درجات ومنها جهة وحدة العدو كما في التحالف الإستراتيجي القائم مع حماس ضد الكيان، لكن قد لا يعني ذلك أو يقتضي أن تتدخل حماس في المعركة الإقليمية الموسعة.
ويعزّز التنسيق والتشبيك في المحور عملية التماسك بين النواة والأطراف، وفيما بين الأطراف أنفسهم، بما يحمي ظهر حماس انطلاقًا من هدف واضح وصريح هو "منع القضاء على حماس والقضية الفلسطينية ويوازيه منع انتصار الكيان وخلفه أميركا" في هذا المعركة. ويساهم هذا الدور في تشكيل مقوّمات القوة والصمود عبر الإمساك بزمام رسم معادلات الاشتباك من الخارج، وتعزيز المشاغلة والتفاعل الميداني في الساحات المختلفة، سيّما العراقية واليمنية.
الردع الاستراتيجي للولايات المتحدة من خوض الحرب الشاملة
مشاغلة حزب الله للكيان المؤقت عبر المواجهات على الجبهة الشمالية دفعت حكومة العدو لتضع على الحدود هناك ما يوازي ثلث جيشها وثلث قواتها اللوجستية، ونصف قدراتها البحرية وقدرات الدفاع الصاروخي، وربع القوات الجوية، لكن الهدف لا يقتصر على دعم جبهة غزة، وإنما عملية استباقية في نقل رسائل جهوزية للتعامل مع كل ظرف عسكري أو سياسي مستجد وبكفاءة عالية وبقدرة على المبادرة دون تردد، وإظهار الاستعداد لـ "الحرب الكبرى" من باب الردع، للأمريكي قبل الإسرائيلي. العمق الاستراتيجي الذي عملت إيران على تأمينه يظهر في الردع الاستراتيجي، فقدرة ساحات المحور وجماعات المقاومة، أنصار الله والقوات المتحالفة مع إيران في سوريا والحرس الثوري وحزب الله، على فتح جبهات جديدة وزيادة التكلفة على الكيان هي سيناريو مصغر عن الحرب الإقليمية الشاملة والتكلفة المرتفعة لها.
ويساهم العمق الاستراتيجي نفسه بفشل الردع الأمريكي، ويجعل التحذيرات أو الهجمات الأمريكية غير قادرة على إجبار المحور على تجميد جبهاته فيعرقل خروج الأمريكي من دوامة التصعيد. ويشير تجنب واشنطن اتهام طهران مباشرة بالمسؤولية عن الضربات والهجمات الأخيرة على قواعدها وسفنها في المنطقة إلى ردع إيران لأمريكا من دخول الحرب الشاملة. فتتجنب التصريحات الأمريكية اتهام إيران فضلًا عن تبرئة ساحتها أو التغطية على الجدل حولها والنقاش داخل غرف صناعة القرار حول استقلالية حركات المحور بالهجوم على القواعد الأمريكية. تتجنّب واشنطن التصعيد إلى الحد الذي تتجاوز معه سقف الخطوط الحمراء ما يمكن أن يؤدي إلى الحرب الموسّعة الإقليمية، بغية تجنب الكلفة المرتفعة والمخاطر المرتفعة في حال المواجهة المباشرة.
قابلت القوات الأمريكية عمليات المقاومة على قواعدها في سوريا والعراق نصرة لغزة بردود دون المستوى، واتهمت إدارة بايدن من مختلف المؤسسات الأمريكية والإسرائيلية بـ "التردد"، و"الجبن"، لأنها لا تقابل عمليات الاستهداف بهجمات رادعة. فقد طالب هؤلاء بالردود المتناسبة مع الحفاظ على هيبة الولايات المتحدة. بيد أن واشنطن حافظت على "ضبط النفس" واستمرت ببعث رسائل ضرورة تجنّب التصعيد وعدم وجود مصلحة لدى الطرفين في الحرب الشاملة، حتى استهداف المقاومة العراقية البرج 22 داخل الأراضي الأردنية مع حساسية الموقع والإصابات التي تحققت بفعل الضربات التي أسفرت عن موت 3 من القوات الأمريكية وإصابة ما يزيد عن الأربعين. وعلى الرغم من ارتفاع الضغط باتجاه ضرورة تنفيذ استجابة حاسمة في الرد، قامت القوات الأمريكية بتوجيه موجة من الضربات أعلنت عنها مسبقًا استهدفت فيها المسؤولين عن الهجمات في سوريا والعراق دون إيران، لأنها كانت حتى هذه اللحظة الحرجة حذرة من التصعيد الذي قد تتدحرج معه إلى الحرب الشاملة المرتفعة التكلفة والمخاطر عليها.
الاشتباك في المنطقة الرمادية
تشتبك طهران مع واشنطن مباشرة وغير مباشرة في المنطقة الرمادية بين الحرب والسلام باستخدام أدوات مدنية وعسكرية دون مستوى الحرب المباشرة، بغية التملّص من مخاطر الاحتواء الأمريكي لها وللمحور والعمل على إرباك الحركة الأمريكية. فالمسيرات التي ضربت إيرانية لكن هل إيران أرسلتها وهل القرار عندها أو عند الفصائل التي أطلقت المسيرة، هذه الحركة مثلًا خلقت جدلًا في أروقة صناعة القرار الأمريكي خلال دراسة خيارات الردود. وتعتمد إيران الالتفاف على أساليب الضغط الهادئ لعرقلة النجاعة الأمريكية في احتواء منابع التهديدات أو المخاطر على الكيان المؤقّت، كما تحول دون زعزعة المحور برمّته، وتمنع كسر أي حلقة من دوله وقواه، أو انهيارها. تثبت إيران نفسها في موقع التنافس الإقليمي والدولي عبر البقاء ضمن المنطقة الرمادية بما يؤمن لها حالة من الاحتواء المسبق للصراع ويحسن شروط تحقيق الأهداف والمصالح. وتوفّر السياسات التنافسية على مستوى العلاقات والحضور في بعض الدول المختلفة إقليميًّا (العراق، اليمن، الإمارات، سوريا) ودوليًّا في شرق آسيا، وكذلك على مستوى الحركة وفق توازن المصالح والردع أوراق قوة تفرض توازن ردع دقيق؛ يتجنّب الطرفان الإخلال به منعًا من التدحرج إلى اشتباك عسكري مباشر، لا مصلحة فيه لكليهما. وهذه السياسة هي التي خضع لها المسار السياسي والعسكري في الردود على استهداف القواعد الأمريكية.
كان الرد الإيراني بعد بضعة أيام على عملية اغتيال القائد الحاج قاسم سليماني، في 8 كانون الثاني، باستهداف قاعدتين للقوات الأميركية بغرب العراق وشماله، محسوبا ومنسقا لتجنب حدوث أي ضرر مبالغ فيه، بحيث تكون كلفته مرتفعة على إنجازات الحاج قاسم نفسه في بناء المحور. لذا، جاء الرد رسالة فاتحة إلى أن ثمن الاغتيال الذي ستدفعه أمريكا هو الوجود الأمريكي في المنطقة لكن باعتماد تكتيك استراتيجي يحافظ على عناصر المبادرة والمباغتة والإمساك بزمام الأمور واختيار الوقت والمكان المناسبين.
تؤمن حروب الظل والاشتباك في المنطقة الرمادية إمكانية الاشتباك بالأدوات العسكرية والمدنية دون مستوى الحرب المباشرة، والقدرة على القيام بعمليات إنكارية أو منخفضة التكلفة في حال اكتشافها بما تمتلكه من نقاط مرونة، وإدارة المخاطر والتخفيف من التصعيد المحتمل وتجنّب الحرب. تهدف إلى تقييد الخصوم خلال العمل الحركي المحدود. تقوم استراتيجية إيران في قيادة المحور على نوع من الغموض والخصوصية في طبيعة العلاقة مع بقية أطراف المحور. وتجادل دوائر الأمن القومي باستمرار دور جماعات محور المقاومة، وفهم علاقتها بإيران. فقد حافظت إيران على هامش حرية لدى كل من القوى المقاومة في إدارة حركته أو تفاصيلها على الأقل، ما تنتفي معه القدرة على تحميل إيران مسؤولية كل تهديد تراه واشنطن في المنطقة. وبذات الوقت، تؤمّن عمليات الأطراف مع تجنب تحميل إيران المسؤولية قدرة الأخيرة على الاشتباك في المنطقة الرمادية دون الحرب.
تشكّل القدرات السيبرانية المجال الأوسع لعمليات الاستهداف دون بصمة. وقد سمح التطور السيبراني لإيران بالتعامل مع التهديدات الجديدة والفرص. فتُتهم إيران مثلًا بأنها المسؤولة عن هجوم DigiNotar 2011 وهجوم 2013 ضد البحرية الأمريكية، وهجوم 2014 ضد "كازينو لا فيغاس ساندز"، وهجمات الحرمان من الخدمة الموزعة DDos التي استمرت 176 يومًا ضد البنوك الأمريكية بعد تشديد العقوبات الأمريكية على إيران، والهجمات على البرلمانين الكندي والبريطاني، بما يشير إلى نطاق الهجمات الإيرانية السيبرانية في الحرب الرمادية وفائدة التطور التكنولوجي ومجالات استخدامه في إشغال الخصم.
لم تتوقف الاتهامات بهذا النوع من الهجمات خلال الحرب على غزة. وعلى سبيل المثال، أفادت وسائل الإعلام الإسرائيلية في 11 كانون الأول 2023 تبادل الهجمات السيبرانية بين الإيران والكيان وتعطيل العديد من المؤسسات، فاتّهم الكيان إيران بأنها وراء الهجوم الإلكتروني على مركز "زيف" الطبي في صفد، شمال فلسطين، والاستيلاء على "معلومات حساسة". كما تعرضت برمجيات محطات الوقود الإيرانية لهجمة مضادة، عطّلت ما يقرب من 70% من محطات الوقود. ويسمح هذا النوع من الاشتباك بهجوم المسيرات الإيرانية على الأهداف دون أن يكون هوية للمسؤولين عن إطلاقها، كما يحصل في البحر الأحمر والمحيط الهندي والقواعد الأمريكية.
التطوير في الخبرات والخطط والتكنولوجيا
سعت إيران طوال سني العقوبات الأممية والأمريكية خاصة، على اتقان التعامل مع تداعيات العقوبات سواء عبر التحالفات عبر البحار مع بعض دول أميركا الجنوبية والشراكات الاستراتيجية مع الصين وروسيا والشراكات البينية مع بعض الدول الإقليمية. وتطورت سياسة إيران في وضع الخطط العسكرية الإيرانية في الرد على الحركة الأمريكية في المنطقة. وعملت بصبر ومنهجية على تعزيز تحالف القوى عبر ساحة المعركة الإقليمية، حتى بات يشكّل تشكيل هذا المحور تحديًا مباشرا للنظام الإقليمي الذي أنشأه الغرب ودافع عنه في غرب آسيا لعقود من الزمن. وباتجاه مواز لبناء القدرات العسكرية من سلاح وفاعلين، عملت إيران على بناء القدرات التكنولوجية والتقنية، وأولت اهتمامًا بالغًا بالريادة العلمية المتنوعة المجالات والاختصاصات، وأمن التطور العلمي عملية تطوير السلاح والمنظومات على أنواعها. وصدّرت إيران الخبرات والأسلحة وفق الحاجة والتناسب والإمكانيات المتاحة. كما وضعت في سلم الأولويات تعزيز القدرات النووية والسيبرانية.
وتردع القدرات النووية أميركا والكيان المؤقّت من القيام بأي إجراء تصعيدي من شأنه أن يتجاوز الخط الأحمر لدى إيران. وفي كل مرة كانت تزداد التهديدات الأمريكية على إيران، كانت الأخيرة ترفع مستوى التخصيب أو تطوّر في برنامجها النووي، ما يفرض على الأمريكي إعادة حساباته قبل توجيه ضربة مباشرة لإيران او السماح للكيان بتوجيه ضربة غير محسوبة. وقد دفعت حاجة إيران لحماية البرنامج النووي والداخل من القرصنة الخارجية إلى تعزيز قدرات الشباب العلمية والمختصين بالكمبيوتر وتوجيهها نحو المجال السيبراني، فازداد نشاط قيادة الدفاع السيبراني التابعة للحرس الثوري منذ العام 2009، وأنشأت هيئة الأركان المشتركة للقيادة السيبرانية. ويشير تقرير صادر عن شركة التكنولوجيا البريطانية، "سمول ميديا" إلى أن "طهران زادت في عام 2015 إنفاقها على الأمن السيبراني بنسبة 1200% على مدار عامين". وتشير التقارير إلى أن إيران تعمل على تقديم الأدوات والتدريب السيبراني لجهات المحور، وحزب الله في طليعتها لتحسين قدرات التمثيل السيبراني. وتكشف تقارير واردة من شركات الأمن السيبراني مثل تقريرCloudstrike لعام 2018 أن العمليات السيبرانية الإيرانية مستمرة ضد المصالح الغربية والأمريكية. وعليه، تعزز إيران التطور التكنولوجي والتخطيط وتراكم الخبرات وتدفعها باتجاه أطراف المحور من باب التنسيق والتشبيك وترجمة الرؤى والأهداف المشتركة.
سمحت عمليات التطوير في إيران رغم العقوبات عليها الشديدة منذ التسعينيات بتحقيق الاكتفاء الذاتي والاعتماد على الطاقات والقدرات والإمكانيات المتاحة وتحويل التحديات إلى فرص، وتنمية الصناعات البديلة وعدم الاعتماد على الاقتصاد النفطي. واليوم، تحتل إيران مراكز متقدمة في مختلف المجالات العلمية والطبية والصناعية. لم تمنع العقوبات إيران من استمرار بناء برنامجها النووي وتطوّر مجالات استخدام تقنيات النانو والبرمجيات الإلكترونية وغيرها. وخلال فترة الحصار على سوريا ولبنان، وبعيدًا عن مجال الاستفادة التكنولوجية في تصنيع الأسلحة أو تطويرها، وخارج مجال قطاعي النفط والكهرباء والدعم الإيراني فيهما، ساهمت الأدوية الإيرانية والمواد الغذائية الإيرانية في سدّ حاجة أساسية هي ركيزة في تماسك القاعدة المقاومة والبيئة الحاضنة.
خلال الحرب على غزة، قامت إيران بالالتفاف على الحركة الأمريكية بعد استقدام حاملات الطائرات والأساطيل. فقد تحركت أطراف المحور وفق قواعد اشتباك محدودة دون سقف التصعيد غير المحسوب، بالتوازي مع رسالة واضحة في "وحدة الساحات" والتفاعل المتناغم ما بينها بما يقدم الحسابات الموزونة على المغامرات، ويؤمّن أوراق القوة التي قد يحتاجها المحور لاحقًا، وخاصة في الساحة الفلسطينية. وقد كشفت القوة العسكرية لمختلف جماعات المقاومة خلال الحرب على غزة المجالات والساحات التي استثمرت فيها هذه القوى العلمية والتقنية والتكنولوجية.
الساحة الآمنة القادرة على الدعم
ركّزت السياسة الخارجية الإيرانية على تطوير نظرية "الدفاع الأمامي" عبر نقل المواجهة بعيدا عن العمق الإيراني، بما يسمح بالحفاظ على الداخل كمساحة آمنة هي مورد ومصدر لبقية الساحات. فعملت على تنشيط العمليات الخارجية في بناء محور يناهض الهيمنة الأميركية الإسرائيلية في المنطقة، بل ينافسها في السيطرة عليها. وارتبط هذا الملف باسم قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني، الحاج قاسم سليماني. وبمقدار ما تتجنب إيران موجات التخريب الداخلي والاصطدام الخارجي والمغامرات، فهي تعمل على البناء التصاعدي القادر على إمداد شبكة المحور والساحات بمقوّمات الاستمرارية والدعم والتنامي، وعلى مدّ إيران نفسها بالنفوذ السياسي الدولي والإقليمي. وفي ذات الوقت، تسعى للحفاظ على التوسعة التراكمية للعمق الاستراتيجي وعدم تعريض المنجز إلى مغامرة عسكرية غير محسوبة. لذا، عملت على تقليص الهوة في القدرات العسكرية على مدى العقود الأولى ما بعد الحرب العراقية المفروضة (1991-1989) عبر مراكمة القوة من خلال تجنب الحروب المباشرة لأنها تحتمل المعادلات "الصفرية"، وسعت إلى تحقيق الأهداف الأقل كلفة على ساحتها الداخلية، لأن التداعيات عليها مرتبطة تلقائيًّا بالساحات المرتبطة بها.
تدرك الولايات المتحدة والكيان هذه الأهمية ونتائجها المثمرة على دول المحور، لذلك انتشر في الخطاب الأمريكي والإسرائيلي مصطلح "الرأس"، باعتبار أن إيران هي "رأس" المحور، وذهب الكيان إلى أكثر من ذلك بالترويج لمصطلح "رأس الأخطبوط"، عقيدة جديدة أعلنها رئيس وزرائه نفتالي بينيت، في تموز 2022، في حديث له مع مجلة "ذا إيكونوميست"، وتقوم على تطبيق "مبدأ استهداف رأس الأخطبوط بدلًا من المخالب"، ويقصد توجيه ضربة لإيران مباشرة بدل استهداف جماعات المقاومة المتوزعة. وتقوم المعادلة الجديدة على "ضرب المنبع". وهذه التهديدات ترجمت نسبيًّا في محاولات ضمن المنطقة الرمادية، عبر الهجمات الإسرائيلية على برنامج إيران النووي واغتيال بعض العلماء وقصف بعض المصانع بالمسيرات دون بصمة. وباتجاه آخر، تحاول الولايات المتحدة ومن خلفها الدول الغربية بين الفينة والاخرى تخريب الشارع الإيراني وزعزعة استقرار إيران وإشغالها من الداخل، فكانت فتنة 2009م، وفتنة 2018/2019م، ومؤخرًا فتنة "الحجاب" التي شاركت فيها مجموعة من المخابرات الدولية والجماعات الإرهابية، وقدمت إيران الأدلة والبراهين عليها.
وقد ركّزت إيران خلال طوفان الأقصى على التنسيق والتشبيك مع مختلف الجهات والمتابعة في الدعم والإمداد والجهوزية للتدخل في حال الحاجة والضرورة. وقد سعت أمريكا والكيان لزعزعة الاستقرار في الداخل الإيراني خلال طوفان الأقصى عبر تحريك الخلايا الإرهابية كما في تفجير كرمان، أو استهداف خطين من خطوط الغاز الرئيسية في البلاد في 14 من شباط الجاري في سياق المعركة بين الحروب في المنطقة الرمادية، العملية التي صرّح مسؤولون غربيون لصحيفة "نيويورك تايمز" عن مسؤولية الكيان عنها. وفي المقابل، رفعت أميركا مستوى رسائل التهديد، وأعلن قائد الحرس الثوري سلامي أن تجربة الصاروخ الباليستي الطويل المدى نجحت وبات بالمقدور أن يصل من بوشهر إلى السواحل الأمريكية، في رسالة واضحة إلى إعادة الحسابات بشأن المسّ بأمن إيران الداخلي. كذلك فعلت طهران عندما رفعت واشنطن وتيرة التهديد بعد استهداف القاعدة الأمريكية في الأردن، فأعلنت استعداد المنظومات وجهوزيتها للاشتباك والدفاع في حال تم توجيه ضربات لإيران.
الفعالية الدبلوماسية (الإقليمية الإسلامية/الدولية)
ترتبط الفعالية الدبلوماسية الإقليمية الإسلامية والدولية في السياسة الخارجية بامتلاك القوة عبر مختلف العناصر الاقتصادية والسياسية والعلمية والتقنية والعسكرية، وقد أولت إيران هذا الجانب الكثير من الاهتمام والعناية. وتشير السياسة الخارجية الإيرانية إلى اتقان فن المناورة والحركة في الهوامش بما يسمح لها بمتلاك أوراق قوة في التفاوض سواء حول برنامجها النووي أو بعض ملفات المنطقة الإقليمية. وقد ركّزت السياسة الخارجية الإيرانية على الجنبة العقلانية القيمية.
سمحت الدبلوماسية النووية منذ العام 2013 بمشاغلة الإدارات الأمريكية حول البرنامج النووي وساهمت في تعزيز مكانة البلاد على الساحتين الدولية والإقليمية وانتصار المواقف الإيرانية في المفاوضات النووية. ويرى القائد الخامنئي أن الدبلوماسية هي النهج الذي يؤدي إلى القضاء على العقبات التي تحول دون الوصول إلى الأهداف العظيمة المرجوة، لكن بشرط عدم الخروج عن المبادئ والمصالح الوطنية (خطاب القائد، 2013). من هنا، شكّلت الدبلوماسية الإيرانية جزءًا محوريًّا في سياسة إيران الخارجية في الشؤون الدولية لتحقيق أقصى قدر من المصلحة الوطنية في استعادة حقوق الشعب الإيراني، وفي مقدمها رفع العقوبات عنه وامتلاك القدرات النووية. هذه القوة الدبلوماسية انعكست فعالية في معالجة ملفات الدول الإسلامية والإقليمية والدولية حيثما أمكن، كما في سوريا والمواجهة السياسية لحمايتها كما في مفاوضات آستانا، على سبيل المثال، إضافة إلى استخدام النفوذ الدبلوماسي في محاولة حل أو تجميد الأزمات الناجمة في دول المحور عن عقيدة "الصدمة" الأمريكية واستراتيجية "الفوضى الخلّاقة".
وشهدت مرحلة الحرب على غزة حركة دبلوماسية إيرانية فاعلة في مجلس الأمن الدولي ولدى الأمم المتحدة عبر الممثل الدائم لإيران في الأمم المتحدة، أمير سعيد إيرواني. وقام وزير الخارجية الإيراني، حسين عبد اللهيان بجولة من الزيارات واللقاءات والتشاورات، شملت العديد من دول المنطقة، كقطر وتركيا ومصر والسعودية، كما ساهمت باستخدام الروسي والصيني لحق النقض الفيتو في مجلس الأمن في إفشال قرار أمريكي لا يدعو لوقف إطلاق النار، وتمرير قرار وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات لغزة، في 25 تشرين الأول 2023. كما أولت إيران أهمية لموضوع التشاور مع مختلف الفصائل الفلسطينية حيث التقى الوزير عبد اللهيان بقادة الفصائل الفلسطينية وأمين عام حزب الله، السيد نصر الله. كما برز الدور الدبلوماسي الإيراني في دعم الموقف اليمني وتشجيع جنوب أفريقيا ومساندتها في مسار الدعوى في المحكمة الدولية في لاهاي، كما حثّت الدول على الانضمام إليها وتفعيل قرارات المحكمة.
خلاصة
تلخّص الورقة أبرز أدوار إيران في المحور؛ الأدوار التي تتكامل في بناء محور يتميّز بنبذ التبعية ومراعاة الخصوصية لدى كل الشبكات المنتمية إليه، ما يزوّده بالقوة اللازمة للاستمرارية والنمو. كما تضيء على دور إيران في المحور خلال الحرب على غزة.
أولًا: تؤمّن إيران العمق الاستراتيجي وتعمل على بنائه وتقويته لكل أطراف المحور بما يوفّر للجميع قدرًا من التفوّق يحول دون تشرذم المحور أمام أي مواجهة. هذا العمق تجسّد في عمل محور المقاومة والتطوّر الميداني في مفهوم "وحدة الساحات".
ثانيًا: تتحمّل إيران أعباء التذخير والتسليح والتمويل على مختلف أنواعه ومجالاته وفق سياسة مدروسة ومتوازنة المعايير ومحدّدة العناصر، تأخذ بعين الاعتبار الساحات والإمكانيات والاحتياجات والأهداف. وقد ظهر في ميادين الساحات المختلفة في نصرة غزة الدعم الإيراني بالصواريخ والذخائر على أنواعها.
ثالثًا: تقوم إيران بالتنسيق والتشبيك مع كل الأطراف والأعضاء ضمن حدود الحفاظ على سيادة القرار لدى الجميع، ما يوفّر للجميع هامشًا في العمل والقرار بناء على الوضع الخاص لكل جهة والظروف المحيطة والمحددات المعتبَرة. ساهمت هذه الميزة بتشكّل المحور بالدرجة الأولى، وتنامي نفوذه بالدرجة الثانية. برز هذا التنسيق بجهوزية الدعم من إيران وسائر جماعات المقاومة، ولو أن معركة طوفان الأقصى قامت بسريّة تامة دون علم المحور.
رابعًا: تؤمّن عملية استثمار إيران للطاقات والإمكانيات ومختلف الموارد البشرية والجغرافية والنفطية الموجودة لديها قوة داخلية في صمود النظام والدولة والشعب بوجه كل التحديات وفي مختلف المجالات، تمامًا كما تزوّدها بالقوة الخارجية اللازمة لها على الصعيد السياسي والدبلوماسي والعسكري. وتدفع أوراق القوة الإيرانية الاستراتيجية، وتحديدًا في ملفي النووي والقدرات العسكرية، إلى ردع الولايات المتحدة والكيان من خوض الحرب الشاملة في المنطقة. وطوال أشهر الحرب على غزة، قيّدت إيران أميركا عن التصعيد غير المحسوب، وأربكت الحركة الأمريكية في محاولات الرد وترميم الردع ودفعت به إلى الالتزام بخيار التصعيد في الهيمنة دون مستوى الحرب.
خامسًا: تقوم إيران بالاشتباك في المنطقة الرمادية ما بين الحرب والسلام بما تملك من أدوات مدنية وعسكرية، تربك الطرف الآخر، وتتملّص من المخاطر المحدقة بها، وتعرقل نجاعة الخصم في الالتفاف على آليات الاحتواء. ويوفّر لها موقعها التنافسي في النفوذ والحضور آليات وأدوات الاشتباك في المنطقة الرمادية، والحفاظ على الكلفة المنخفضة أو المقبولة، حتى تحسين شروط تحقيق الأهداف والمصالح. وخلال الحرب على غزة، تبادلت إيران والكيان المؤقّت الهجمات السيبرانية، وتحدث العدو الصهيوني عن اختراق جماعات السيبراني لمعلومات حساسة خاصة في مستشفى "زيف" الإسرائيلية.
سادسًا: وصل التفوّق الإيراني التكنولوجي وتراكم الخبرات على مدى العقود الماضية إلى حدّ مشاغلة إيران سيبرانيًّا للولايات المتحدة والكيان المؤقت، وخلق هاجس السلاح النووي لدى كل منهما. ويستفيد مختلف أعضاء المحور من هذه القدرات، بالحد الأدنى في عمليات تصنيع الأسلحة أو التزويد ببعض الشرائح اللازمة وغيرها، فضلًا عن الاستفادة من مجال التقدم في تقديم المساهمات الاقتصادية في مواجهة الحصار الأمريكي على بعض دول المحور. وفي طوفان الأقصى، كشفت المواجهات سواء ضد الكيان أو في الردود على القوات الأمريكية الاستفادة من التكنولوجيا في الصواريخ المتطورة والموجّهة بصريًّا والمسيّرات وأجهزة الاتصالات.
سابعًا: يسري استقرار المركز على بقية الأعضاء والأطراف، فالخلل الذي يصيب أي طرف تنخفض خطورة تداعياته أمام الخلل المركزي. وبذات الوقت يؤمّن أمن المركز القدرة على معالجة الخلل وإعادة التوازن إلى الطرف. من هنا، يشكّل استقرار إيران وأمنها حاجة أساس لكل المحور لأنها مركز الإمداد والدعم. وعليه، تدفع إيران ثمن نصرتها جماعات المقاومة من أمنها واستقرارها الداخلي، وهو ثمن لا تتنازل لأجله عما تراه من مبادئ ثورتها ونظامها، فتحاول احتواء الأزمات المتعمّدة والمدسوسة والتوازن ما بين تحديات الداخل والخارج. وتنطلق إيران من أمنها الداخلي كساحة للإمداد والدعم باتجاه بقية القوى والجماعات المقاومة.
ثامنًا: أثبتت إيران منذ قيام الثورة الإسلامية أنها لاعب قوي في المنطقة لا يمكن تجاوزه، واكتسبت نفوذًا في السياسة الخارجية في مسار طويل من الصبر والصمود والمواكبة. وقد أظهرت فعالية في المسار الدبلوماسي سواء في المفاوضات النووية أو احتواء النزاعات الخارجية، وقد نشطت حركتها الدبلوماسية خلال طوفان الأقصى في تعزيز موقف حركة حماس والدفاع عن مظلومية الشعب الفلسطيني ووقف الإبادة الجماعية.