ما زالت تحليلات إسرائيلية كثيرة منشغلة حتى النخاع بالخلافات في الرأي القائمة بين الحكومة الإسرائيلية والولايات المتحدة في ما يتعلق بالحرب المستمرة على قطاع غزة منذ أكثر من خمسة أشهر وما ستؤول إليه، وهي خلافات انعكست مؤخراً بكيفية ما في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي جو بايدن عن "حال الاتحاد" أمام الكونغرس الأميركي في نهاية الأسبوع الماضي، وكذلك في التصريحات التي أدلى بها إلى وسائل إعلام في إثر الخطاب، واستمر عبرها في إبداء تحفظاته وإن ضمنياً من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو متهّماً إياه بـ "الإضرار بإسرائيل أكثر من نفعها"، إنما جنباً إلى جنب تأكيد دعمه إسرائيلَ وما وصفه بأنه حقّها في الدفاع عن نفسها، على ما يحمله ذلك من إشارة إلى تبدّد أوهام الرهان على حدوث تحوّل جوهري في موقف أميركا الثابت من الحرب ضد غزة وأهدافها.
وقد رأى البعض أن دعوة رئيس تحالف "المعسكر الرسمي" والوزير في "كابينيت الحرب" الإسرائيلي بيني غانتس إلى زيارة واشنطن قبل هذه التطورات الأخيرة، من خلال الالتفاف على نتنياهو، تنطوي على رسالة من الإدارة الأميركية الحاليّة فحواها أنها ترى في ضيفها الزائر بديلاً لنتنياهو، علماً بأن هذا الأخير لم يتلق مثل هذه الدعوة لزيارة الولايات المتحدة حتى الآن، منذ إقامة حكومته الحالية في أواخر العام 2022 ("يديعوت أحرونوت"، 10/3/2024)، وذلك بخلاف ما هو متبع عادة في سياق تاريخ العلاقات الثنائية بين الدولتين، ولدى كل معركة انتخابات عامة.
وكانت أكثر نقطة لفتاً للاهتمام من بين نقاط الانشغال المتواتر بزيارة غانتس إلى الولايات المتحدة ووقائعها، من ضمن نقاط كثيرة، هي تلك التي رأت أنها لا تحمل أي دلالات جوهرية على المدى السياسي البعيد باستثناء قرص أذن نتنياهو، ذلك أن الزائر نفسه لم يغرّد خارج سرب السياسة العامة حيال القضية الفلسطينية التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية الحالية. وبحقّ كتب محرر الشؤون العربيّة في صحيفة "هآرتس" تسفي برئيل يقول: إن السؤال الأهم الذي تطرحته هذه الزيارة هو: عمّا سيتحدث غانتس مع مستضيفيه الأميركيين؟ هل سيتحدث عن حل الدولتين؟ إنه يعارضه؛ أم سيتكلم عن وقف إطلاق النار الدائم؟ إنه يعارضه أيضاً؛ أو عن إدخال المساعدات الإنسانية أكثر إلى غزة؟ هنا يمكنه أن يعرب عن دعمه، لكنه ليس هو مَن يقرّر في هذا الشأن ولا نتنياهو أيضاً. فهذا المجال يتحكّم فيه بالأساس، وفقاً لما يؤكده برئيل وغيره من المحللين الإسرائيليين، الوزيران إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش؛ وهل سيتحدث معهم عن ترتيبات الدخول إلى المسجد الأقصى في شهر رمضان؟ في هذا السياق، هو ليس أكثر من ذبابة على الجدار في غرفة "الكابينيت" ("هآرتس"، 6/3/2024).
ولا شك في أن هذه الزيارة التي قام بها غانتس إلى الولايات المتحدة ساهمت إلى حدّ كبير، وربما أكثر من أي شيء آخر، في إبراز الإجماعات التي ما زالت متحكمة في الساحة الإسرائيلية السياسية والحزبية، وفي مقدمها الإجماع على استمرار الحرب ضد قطاع غزة.
وعلى صعيد الموقف من الحرب في غزة تحديداً، وأيضاً الموقف العام من الاحتلال والاستيطان في أراضي 1967، أعاد الوزير الإسرائيلي السابق حاييم رامون ("معاريف"، 1/3/2024) التذكير بأنه ليس هناك فارق جوهري بين الوزيرين بن غفير وسموتريتش وبين قادة سياسيين يتظاهرون بمعارضة نتنياهو، على غرار الوزير الحالي جدعون ساعر، وعضو الكنيست أفيغدور ليبرمان، رئيس حزب "إسرائيل بيتنا"، ورئيس الحكومة السابق نفتالي بينيت. وبرأيه، المواقف السياسية التي يتبناها ساعر وبينيت وليبرمان هي مواقف اليمين الإسرائيلي المتطرف ذاتها، والفرق بينهم وبين سموتريتش وبن غفير هو فقط في الأسلوب. ومنذ عملية طوفان الأقصى يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يعمل بن غفير وسموتريتش على الدفع قدماً بالخطوات التالية: محاولة فرض سيطرة إسرائيلية دائمة في قطاع غزة، وترحيل طوعي لسكان غزة، وحلّ السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، واستيطان متسارع في القطاع وفي الضفة. ويعود السبب في عدم سماع ساعر وليبرمان وبينيت يختلفون مع هذه الخطوات إلى أنهم يوافقون عليها. فقد انتقدوا أسلوب سموتريتش وبن غفير وتوقيته، لكنهم امتنعوا عن كل التحفظ على جوهر الأمور، وحتى خطة الترحيل الطوعي لم يشجبوها. صحيح أن سموتريتش وبن غفير يعبرون عن مواقف هذا اليمين المتطرف بفظاظة وعلى نغمات رقصات وأغان حسيدية، غير أن ساعر وبينيت وليبرمان يعبرون عن المواقف إياها بلسان يقطر عسلاً، وعلى نغمات موسيقى كلاسيكية. أما الخلافات بين الجانبين فهي متعلقة فقط بمسائل داخلية مثل مسألة العلاقة بين الدين والدولة، لكن في نهاية المطاف كلهم يتطلعون إلى أن تستعيد إسرائيل سيطرتها الكاملة على قطاع غزة والضفة الغربيّة.
ولئن كانت الحرب الراهنة على قطاع غزة أعادت التذكير بكل ذلك فإن هذه المواقف لم تكن غائبة عن الأبصار قبل الحرب كذلك وحتى في عزّ المواجهة مع الحكومة الإسرائيلية الحالية بشأن قضايا تتعلق بالحلبة السياسية الداخليّة لا أكثر.
وبالعودة إلى غانتس تحديداً وتحالفه ("المعسكر الرسمي")، ينبغي ملاحظة أن هناك ازدياداً مضطرداً في الأصوات الإسرائيلية التي تدعوهما إلى الانسحاب من حكومة الطوارئ الآن لأن إطالة أمد بقائهما فيها، وبغض النظر عن أي سبب أو مبرّر، تجعلهما يلبسان عباءة الحكومة ويبدوان كجزء منها.