استضافت بريطانيا، في 18 يوليو 2024، القمة الرابعة للمجموعة الأوروبية السياسية التي دشَّنها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في 2022، عقب الحرب الروسية على أوكرانيا؛ بهدف التوصل إلى حلول بشأن قضايا الأمن الأوروبي بمفهومه الواسع. وتضم هذه القمة 47 رئيساً؛ منهم 27 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الأمين العام لحلف الناتو، والمفوض السامي للاتحاد الأوروبي لشؤون السياسة الخارجية والأمن، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وبحضور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وقد حاولت القمة تأكيد الترابط في تحركات السياسية البريطانية والتحركات الأوروبية، وهو ما سعى رئيس الوزراء البريطاني الجديد "كير ستارمر" إلى تأكيده عقب فوزه في الانتخابات التشريعية الأخيرة.
نتائج رئيسية
تناولت القمة مجموعة من القضايا الرئيسية، وهو ما ظهر في مخرجاتها التي يمكن تناولها على النحو التالي:
1– تأكيد الالتزام بدعم أوكرانيا ومواجهة موسكو: حيث أكد المجتمعون ضرورة استمرار الدعم لأوكرانيا، والبدء في محاولات التوصل إلى سلام عادل ودائم يضمن حقوق الأوكرانيين. وفي هذا الإطار، تناولت المناقشات مقترحاً بريطانياً حول مكافحة "الأسطول الشبح" – وهي مجموعة السفن تُمكِّن روسيا من الالتفاف حول عقوبات تصدير النفط– وكذلك "اقتصاد الحرب"، والتدابير المفروضة على السفن في حال خرق هذه العقوبات، كما توصل المجتمعون إلى ضرورة تبادل المعلومات الاستخباراتية بين الدول الأوروبية.
2– تقديم المساندة الأوروبية لمولدوفا: وفي هذا الصدد، انعقدت طاولة مستديرة بين الرئيس الفرنسي ونظيرته المولدوفية مايا ساندو أكد خلالها المجتمعون ضرورة حماية سيادة مولدوفا وأمنها ووحدة أراضيها، وهو ما تتبناه فرنسا وألمانيا من خلال دعم انضمام مولدوفا إلى الاتحاد الأوروبي، خاصةً أن منطقة غرب البلقان ومولدوفا هي الحلقة الأضعف، وتتعرض لضغوط أمنية كبيرة من جانب روسيا عقب اندلاع الحرب الأوكرانية.
3– استهداف تعزيز الأمن السيبراني للدول الأوروبية: ساد توجه في القمة بأن جزءاً من الهجوم الذي تتعرض له الديمقراطيات الأوروبية هو نشر المعلومات المغلوطة، وتوظيف الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي لهذا الغرض؛ لذا أسفرت النقاشات، فيما يتعلق بالأمن السيبراني، عن ضرورة إنشاء شبكة للتدخل السريع في حالة وجود هجوم سيبراني؛ لإرسال إنذارات سريعة على المستوى الأوروبي بما يسمح بمواجهة الهجمات السيبرانية والتصدي لنشر المعلومات المغلوطة والتلاعب بها بهدف التدخل الخارجي. وهنا، تناول الرئيس الفرنسي ورئيسة مولدوفا إنشاء آليات التعاون بين البلدين في مجال مكافحة التدخلات الرقمية وبث الأخبار الزائفة.
4– التركيز على قضية أمن الطاقة الأوروبي: وهي القضية التي تناولتها المائدة المستديرة التي رأستها النرويج وسلوفانيا. علاوةً على ذلك، عقد ستارمر ورئيس الوزراء البولندي اجتماعاً تناول أبعاد التعاون الثنائي بين البلدين فيما يتعلق بأمن الطاقة. وفي لقائه مع رئيس وزراء النرويج، تناول ستارمر إمكانية التعاون المتبادل بين الدولتين في مجال الطاقة الخضراء والمتجددة. علاوةً على ذلك، تناولت القمة سبل تنويع مصادر الطاقة داخلياً من خلال الاستثمار بالتوازي مع محاولة تقليل الاعتمادية على روسيا في مجال الطاقة.
5– أولوية مواجهة الهجرة غير الشرعية وتأمين الحدود: وهي القضية كانت محور الطاولة المستديرة التي رأسها رئيسا وزراء إيطاليا وألبانيا، لا سيما في ظل اتجاه الدول الأوروبية إلى الاعتماد على ترتيبات واتفاقيات تسمح بإرسال المهاجرين غير الشرعيين إلى دول أوروبية أخرى، مثل الاتفاقية التي تقضي بإرسال المهاجرين غير الشرعيين الذين يتم رصدهم على السواحل الإيطالية إلى ألبانيا، أو السماح لهم بالرسو في مالطا لإعادة توزيعهم؛ وذلك بعد أن بلغ عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا السواحل الإيطالية، 83 ألفاً تقريباً في 2023، وهو ضعف العدد الذي وصل إليها في 2022. ولم تَخْلُ المناقشات من استحضار الجانب الحقوقي والقانوني في عقد صفقات الدول الثالثة في إرسال واستقبال المهاجرين غير الشرعيين؛ حيث تم تأكيد ضرورة الالتزام بالأطر القانونية القائمة.
وكإحدى وسائل مكافحة الهجرة غير الشرعية في منابعها، أعلن ستارمر عن تمويل بقيمة 84 مليون جنيه إسترليني لمشروعات في أفريقيا والشرق الأوسط (كما كانت هذه هي المرة الأولى التي تم فيها الحديث عن النزوح السوري إلى لبنان) تشمل الدعم الإنساني والصحي وبرامج تدريب المهارات وخلق فرص عمل والتعليم.
6- إدارة الحدود في إقليم جبل طارق: تناولت بريطانيا وإسبانيا موضوع الاتفاق حول إدارة حدود إقليم جبل طارق في مرحلة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. جدير بالذكر أن الأمم المتحدة قد أقرت أن إقليم جبل طارق لا يتمتع بالحكم الذاتي، بل تديره بريطانيا، ولكن بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان لا بد من تسوية وضعه بين بريطانيا وإسبانيا، خاصةً أن بريطانيا لا تريد التنازل عنه، وترفض وضع مسؤولين إسبانيين في مطار جبل الطارق الذي يُعَد قاعدة سلاح جوي لبريطانيا. وعوضاً عن ذلك، اقترحت بريطانيا وضع مسؤولين تابعين للاتحاد الأوروبي في المطار لإتمام إجراءات التفتيش. جدير بالذكر أيضاً أنه وقت انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، صوَّت 96% من سكان جبل الطارق على البقاء في عضوية الاتحاد الأوروبي.
7– تمسك بريطانيا بتصنيف شبكات تهريب المهاجرين كجماعات إرهابية: فقد تبنَّت بريطانيا اتجاهاً لتصنيف مهربي المهاجرين غير الشرعيين وشبكات جرائم الهجرة المنظمة كجماعات إرهابية، وهو ما عبَّر عنه ستارمر في المؤتمر الصحفي الذي عُقد في ختام أعمال القمة. وفي هذا الصدد، سوف تزيد بريطانيا من وجودها في وكالة الاتحاد الأوروبي للتعاون في مجال إنفاذ القانون (المعروفة باسم يوروبول) في لاهاي؛ للعمل في المركز الأوروبي لتهريب المهاجرين، كما توصلت بريطانيا إلى ترتيبات تعاونية في مكافحة جريمة الهجرة المنظمة مع سلوفاكيا وسلوفينيا.
دلالات جوهرية
استدعت قمة المجموعة الأوروبية السياسية في لندن عدداً من الدلالات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1– تزامن انعقاد القمة مع تغيرات سياسية أوروبية مؤثرة: تأتي هذه القمة مباشرةً عقب فوز حزب العمال في الانتخابات العامة البريطانية، وهو ما يعني التزام ستارمر بالأجندة التي أعدَّها حزب المحافظين وقت كانوا في السلطة، وعدم تغييره الكثير فيها، كما فازت أورسولا فون دين لاين في إعادة التصويت لانتخابها رئيسةً للمفوضية الأوروبية في الاتحاد الأوروبي في يوم انعقاد القمة. ومن ثم، فإن هذه القمة قد جاءت في وقت عدم يقين بالنسبة إلى الفائزين في مواقعهم، وهو ما يجعلها فرصة لعقد الصداقات وتدعيم العلاقات الودية.
ومن ناحية أخرى، لا زال الغموض يكتنف مستقبل ماكرون رئيساً لفرنسا بعد ما أسفرت عنه الانتخابات التشريعية المبكرة، وهو ما يعني انشغاله بمصيره السياسي، واحتمالات الاستمرار والحفاظ على التعهدات التي يمكن قطعها؛ الأمر الذي يعني عزوفه عن بلورة التزامات محددة لدولته بخلاف القضايا العابرة للانتماءات الحزبية.
2– تأكيد أهمية القمة كإطار غير رسمي في إدارة العلاقات الأوروبية: فمن ناحية أولى يشير تنظيم فعاليات القمة إلى أولوية القضايا المشتركة التي يتم تناولها في ثلاث موائد مستديرة لمدة خمس ساعات، تعقبها اجتماعات ثنائية بين رؤساء الدول الأوروبية من أجل حل المشكلات الثنائية بفاعلية. ومن ناحية أخرى، يعمد الاتحاد الأوروبي، في بعض الأحيان، إلى توظيف قمة المجموعة الأوروبية السياسية كمنصة للإبقاء على الزخم الذي اكتسبته بعض القضايا، مثلما حدث في القمة الثانية للمجموعة في 2023 حينما أطلق الاتحاد الأوروبي حزمة دعم مولدوفا الخماسية لحمايتها من تأثير مواقع الأخبار الزائفة التي توظفها روسيا لزعزعة الاستقرار في مولدوفا.
وقد شملت الحزمة الخماسية تدابير خفض رسوم التجوال بين الاتحاد الأوروبي ومولدوفا، ودعم الخطة الاقتصادية والاستثمارية في مولدوفا، ودعم قطاع الطاقة على المديين القصير والطويل، ودعم الأمن والسلام من خلال زيادة دعم مقر السلام الأوروبي في مولدوفا، وزيادة دعم الإصلاح الإداري في مولدوفا لتتوافق مع المعايير الأوروبية. ولم تكن هذه المرة هي الأولى، وإنما حاول ماكرون، بالتعاون مع رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل قبل ذلك، استخدام قمة المجموعة الأوروبية السياسية كمنصة للتوصل إلى اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان في إسبانيا 2023. وأخيراً، تعمل هذه القمة كمنبر لتبادل أفضل الخبرات والممارسات الوطنية في مواجهة التحديات المشتركة، مثل التجارب الناجحة لفنلندا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا في مواجهة التهديدات السيبرانية.
3– توفير آلية لبريطانيا لتعزيز التواصل مع الاتحاد الأوروبي: فهذه القمة هي الطريقة الأساسية التي يمكن لبريطانيا من خلالها أن تكون طرفاً في الحوار الأوروبي، من دون الحاجة إلى العودة إلى عضوية الاتحاد الأوروبي بوجه عام، ولمواجهة التمدد الروسي في أوروبا في ظل غموض ملامح الدور الأمريكي في المستقبل القريب، والحاجة إلى توطيد العلاقات الأوروبية–الأوروبية كحل أكثر ثباتاً واستقراراً للأمن الأوروبي.
4– التعاطي مع تحركات رئيس الوزراء المجري المثيرة للجدل: فرغم الانتقادات الأوروبية للتدهور السياسي الذي تعانيه المجر، وتراجع حكم القانون، ورفض مقترح رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان للسلام، واعتزام الاتحاد الأوروبي معاقبته على تجاوزه الإطار المؤسسي للاتحاد الأوروبي من خلال نشاطه الدبلوماسي الأخير الذي شمل زيارتَيه للرئيسَين الروسي والصيني، ومطالبته الرئيس الأوكراني بوقف إطلاق النار في زيارته إلى كييف، ولقائه الأخير مع ترامب؛ فإن دول الاتحاد الأوروبي تدرك أن معاقبة المجر لا يجب بالضرورة أن يصل إلى حد التصادم الذي قد يدفع المجر إلى إعلان اصطفافها إلى الجانب الروسي بشكل صريح، وهو ما قد يهدد بأمن واستقرار أوروبا، ويضعف فاعلية الاتحاد الأوروبي كمؤسسة إقليمية.
وهذا ما يفسر إعلان ستارمر أن القمة الخامسة للجنة الأوروبية السياسية سوف تُعقَد في نوفمبر 2024 في بودابست كما كان مخططاً لها منذ البداية؛ أي أن الاعتراض الجماعي على السلوك السياسي للمجر لا يعني استبعادها من استضافة الحوار السياسي أو عزلها عن الجمع الأوروبي، خاصةً أن المجموعة الأوروبية السياسية ليست أحد الأجهزة التابعة رسمياً للاتحاد الأوروبي.
وإجمالاً، لا تمثل المجموعة الأوروبية السياسية جهة صنع قرار على غرار الاتحاد الأوروبي، وإنما هي صيغة جماعية أوروبية دبلوماسية، وهو ما يجعل قمتها الرابعة وتوقيت استضافتها في بريطانيا حدثاً مثالياً لستارمر لرفع الستار عن الدور البريطاني في أوروبا، وعزمه إعادة رسم ملامح العلاقات البريطانية الأوروبية. لقد حاز ستارمر استحسان الجميع في قمة الناتو، وهو الاستحسان الذي أعقبه ستارمر باستضافة رؤساء الدول الأوروبية في قصر بلينهايم مسقط رأس تشرشل، فكان استحضاراً لحال البيئة العالمية والإقليمية المضطربة وغير الآمنة، ودور بريطانيا في تحقيق النصر مع الحلفاء في الحرب العالمية الثانية بقيادة تشرشل آنذاك، واستعارةً مستقبليةً لدور بريطانيا بقيادته كما يراها.