• اخر تحديث : 2024-10-25 18:15
news-details
أبحاث

ورقة سياسات: قانون احتجاز المقاتلين غير الشرعيين": اعتقال تعسفي وانتهاك صارخ لمفهوم المراجعة القضائية الحقيقية وللمواثيق الدولية


منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، قامت إسرائيل بعدة تعديلات قانونية على قانون احتجاز المقاتلين غير الشرعيين القائم منذ سنة 2002، وذلك لتشريع اعتقال آلاف الفلسطينيين من داخل قطاع غزة، وذلك كجزء من أنظمة طوارئ تم تفعيلها مع إعلان حالة الحرب. وجرت هذه التعديلات على 3 مراحل، آخرها دخل حيز التنفيذ مع بداية شهر آب/أغسطس، ويسري مفعوله حتى نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024. 
 
تفصّل هذه الورقة التعديلات المذكورة، ويتطرق إلى تداعياتها القانونية على الأسرى المعتقَلين منذ ذلك الحين في سجونها العسكرية، وعلى رأسهم سجن سديه تيمان، وباقي السجون العسكرية، وتلك التابعة لمصلحة السجون، ويبيّن كيف أدت التعديلات إلى تحويل هذه المعسكرات إلى معسكرات تنكيل وتعذيب أسرى عزّل عن العالم كلياً داخلها ضمن ما يشبه الثقب الأسود، من دون أي رقابة قانونية، ومنع ممثلي الصليب الأحمر من دخول السجون. وفي ظل هذه الأوضاع من الإخفاء القسري وانتهاك حقوق الأسرى وكرامتهم، فقد تحولت حياتهم في هذه السجون والمعسكرات إلى جحيم أودى بحياة العشرات منهم، كما حدث مع الطبيب عدنان البرش، كما يتم احتجاز الآلاف منهم حتى نهاية الحرب من دون محاكمة.
 
وتتطرق الورقة إلى أصل تسمية القانون منذ بداية طرح مسودة قانون احتجاز أعضاء قوات العدو التي لا تستحق مكانة أسرى حرب في سنة 2000، والمسوغات والأوضاع السياسية والتاريخية والقانونية التي أدت إلى إقراره بصيغته الأولى سنة 2002، ويشرح كيف تعاملت المحكمة العليا الإسرائيلية مع إشكالية تعارضه مع القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف الثالثة والرابعة فيما يتعلق بحماية المدنيين، والحلول التي أوجدتها والتعديلات التي اقترحتها على الحكومة لتتمكن من التعايش مع هذا القانون بشكله الحالي. وقد اعتمد المقال منهجية قراءة وتحليل نصوص قانونية (القوانين ومسوداتها وقرارات محاكم)، وقراءة وتحليل تقارير وإصدارات لمؤسسات رسمية حكومية ومؤسسات حقوقية، كما اعتمد على تصريحات أسرى ومحررين وإفادات محامين.
 
أصل التسمية
يتعامل القانون الدولي الإنساني مع مجموعتين من السكان في حالة النزاع المسلح والحروب، وهما المدنيون الواجبة رعايتهم وحمايتهم وفق اتفاقية جنيف الرابعة، والمقاتلون وفق اتفاقية جنيف الثالثة، ويعطيهما مكانة قانونية خاصة في حال تم أسرهما كأسرى حرب، ويضمن عدم التنكيل بهما أو تعذيبهما أو قتلهما، مع التشديد على ضرورة الرعاية وتبليغ الأهالي بالاعتقال، وعدم التقديم إلى محاكمات جنائية، والإعادة إلى البلد الأم ضمن صفقات تبادل أو مع انتهاء حالة الحرب. 
 
أمّا مصطلح المقاتل غير الشرعي (unlawful combatant)، فيشير إلى شخص ينتمي إلى جماعة مسلحة، لا يعتبره الطرف الآخر مقاتلاً شرعياً، وبالتالي، فإنه عند اعتقال الفرد وأسره، لا تسري عليه اتفاقية جنيف، ويُعتبر أفراد الجماعة خطراً على أمن الدولة، إذ يشرع اعتقالهم واحتجازهم إلى أجل غير مسمى، كما هو الحال مع آلاف الغزيين الذين اعتقلتهم إسرائيل من داخل القطاع. كما استخدمت إدارة الرئيس الأميركي، جورج دبليو بوش، هذا الأمر فيما سمّته حربها العالمية على "الإرهاب".
 
المسوغات والأوضاع السياسية
بدأت الخطوة الأولى لسن القانون مع قرار محكمة العدل العليا الإسرائيلية الصادر في 12 نيسان/أبريل 2000، برئاسة القاضي أهرون باراك في قضية رقم 97/7048 المعروفة باسم فلان وآخرون ضد وزير الأمن، والذي أقر بأن إسرائيل لا تقدر على الاستمرار في احتجاز مواطنين لبنانيين أنهوا حكمهم فقط لكونهم ورقة مساومة ورهائن لاستعادة جنود إسرائيليين مفقودين في لبنان. ولا يجوز إبقاء معتقَل محجوزاً بالاعتماد على قانون صلاحيات ساعة طوارئ (الاعتقالات 1979، والمعروف بقانون الاعتقالات الإدارية الذي استُعمل في حالة الملتمسين)، إذا كان هذا هو الهدف الوحيد من اعتقاله، ولا يشكل بنفسه خطراً على أمن الدولة، وقد أُفرج عقب صدور الحكم عن الأسرى الملتمسين.
 
وما أكدته المحكمة العليا في قرارها أنه لا يمكنها كمحكمة قبول قانون الاعتقالات كمصدر قانوني لهذا الاحتجاز، بمعنى أن على الدولة سن قانون آخر لهذا الهدف. وفي قرار لاحق للمحكمة العليا باستئناف على القرار الأول، قدمته عائلة الجندي رون أراد المعروفة بقضية رقم 00/2967 (باتيا أراد وآخرون ضد كنيست إسرائيل وآخرين)، أشار رئيس المحكمة أهرون باراك إلى أن قرار الكابينت السياسي الأمني في 18/4/2000 "بتوظيف كل الإمكانات للحصول على معلومات عن المختطَفين والمفقودين الإسرائيليين" يجب أن يكون ضمن القانون، ومن هنا، جاءت المبادرة إلى قانون "اعتقال المقاتلين غير الشرعيين" الذين لا تعتبرهم إسرائيل أسرى حرب، وأكد باراك أنه لا يرى في مسار سن قانون كهذا أي التفاف على قرار المحكمة العليا في القضية الأولى رقم 97/7048، وأن للكنيست الحق في تغيير الوضع القائم.
 
ونرى هناك عملياً كيف حث القاضي باراك الدولة على سن هذا القانون، وكيف شكلت قراراته ونقاشه المحرك للبدء بسن القانون، إذ طُرحت عقب ذلك بشهرين فقط مسودة قانون احتجاز أعضاء قوات العدو التي لا تستحق مكانة أسرى حرب، وسُوغت في تفسيرات القانون باعتمادها على ما جاء في قرارَي المحكمة العليا المذكورَين، وبأنها جاءت "لتنظم صلاحية وقانونية هذا الاعتقال." ولقي المقترح انتقادات دولية ومحلية واسعة، ولم يتحول إلى قانون، لكن بعد فترة وجيزة من إقرار الحكومة الأميركية استعمال مصطلح "مقاتلين غير شرعيين"، أُعيد طرح مسودة القانون الإسرائيلي من جديد على طاولة النقاش في شباط/فبراير 2002، وهذه المرة تحت مسمى "قانون احتجاز المقاتلين غير الشرعيين"، وأُقر في آذار/مارس، وتم البدء باستعماله ضد فلسطينيين اعتُقلوا من قطاع غزة. وجاء في تعريف أهداف القانون أنه "يأتي ليضبط إجراءات احتجاز مقاتلين غير شرعيين، والذين لا يستوفون شروط معاملتهم كأسرى حرب." وبذلك، صنعت إسرائيل مجموعة ثالثة ليست مدنية ولا من المقاتلين الشرعيين، ملتفة على اتفاقيات جنيف.
 
ويجيز القانون الجديد للسلطات العسكرية احتجاز الأفراد بصورة تعسفية حتى نهاية الحرب أو حالة الصراع، وينطلق من منطلق أن إطلاق سراح فرد يمس بأمن الدولة ما دامت الحرب جارية، كما ينص البند 7 من القانون، وذلك بناءً على افتراض انتماء المعتقل إلى الجماعة من دون ضرورة إثبات ذلك، ويتم الاعتقال وفق أمر صادر عن قائد الأركان، ومعنى هذا أن المعتقل يمكن أن يبقى سنوات في الأسر حتى من دون محاكمة أو معرفة موعد انتهاء الاعتقال.  وأتاح القانون إمكان اعتقال شخص من جانب قوات عسكرية لمدة تصل إلى 96 ساعة من دون أمر اعتقال، وعدم إحضاره أمام قاضٍ لمراقبة قانونية لمدة تصل كحد أقصى إلى 14 يوماً (يُشار إلى أنه في القانون الإداري العادي الحد الأقصى هو 48 ساعة)، مع منعه من لقاء محامٍ إلى مدى يصل إلى 21 يوماً كحد أقصى.
 
وعلى الرغم من أن القانون يوجب على السلطات إحضار المعتقل أمام محكمة مدنية، ومراجعة الاحتجاز في غضون 14 يوماً من الاعتقال، ثم كل ستة أشهر، ويمنحه حق الطعن أمام المحكمة العليا، فإن قبول المحكمة تعريف المعتقَل كمقاتل غير شرعي وقبول تعريف وزارة الدفاع بأن مجموعة ما تشكل قوة معادية وأن الانتماء إليها يجعل إطلاق سراحه يضر بأمن الدولة، ويضاف إلى ذلك استعمال أدلة سرية كما في الاعتقال الإداري، كله يجعل إمكان إثبات عكس ذلك، وإطلاق سراح المعتقَل أمراً مستحيلاً، ويعفي القانون الدولة من إثبات التهمة كما في المسار الجنائي، وهذا الإجراء يقوض مفهوم العدالة والإجراءات العادلة، ويحول الاعتقال إلى تعسفي.
 
التحولات القانونية
على الرغم من فك الارتباط مع قطاع غزة في أيلول/سبتمبر 2005، فقد قام قائد الأركان بإصدار أمر استمرار اعتقال فلسطينيين كانوا قد اعتُقلوا إدارياً من غزة في الفترة 2002 – 2003، معتمداً على قانون المقاتل غير الشرعي الذي أقرته المحكمة المركزية في تل أبيب، فقدّم المعتقلون التماساً إلى المحكمة العليا ضد القرار (قضية رقم 06/6659 – فلان ضد دولة إسرائيل)، وقد قُدّم الالتماس من جانب مركز الدفاع عن الفرد، بالإضافة إلى أمر الملتمسين الشخصي، وطالب الالتماس بمناقشة قانون المقاتل غير الشرعي، وعدم قانونيته وعدم تماشيه مع القانون الدولي، وادعى أنه مع فك الارتباط وإلغاء الحكم العسكري، فإنه لا صلاحية لإسرائيل في إصدار أوامر اعتقال إدارية كهذه، إلاّ إن المحكمة رفضت الالتماس، وأقرت في 11/6/2008 أن القانون يعطي السلطات صلاحية اعتقال من لهم دور في أعمال عدائية ضد إسرائيل، أو ينتمون إلى قوى معادية لها، والذين لا تنطبق عليهم مكانة أسير حرب، وأكدت أنه لا يوجد خلل في القانون، وأنه ينجح في امتحان المعقولية.
 
كما أكدت رئيسة المحكمة، القاضية دوريت بينيش، في نقاشها أن القانون لا يستعمل المعتقَلين كورقة مساومة، إنما يهدف إلى إبعاد من لهم دور في القتال ضد إسرائيل وليسوا مواطنين أبرياء عن دائرة القتال. ونوهت القاضية بأن مصطلح "مقاتل غير شرعي" لا يتناقض مع القانون الدولي، إنما يشكل آلية جديدة للتعامل مع المواطنين، وفسرت ذلك بأن التعريف القانوني الدولي للمواطن هو بالسلب، أي أنه مَن ليس محارباً، وبناء عليه، فقد فسرت أن المقاتل غير الشرعي ينتمي إلى فئة المواطنين، وليس فئة المحاربين، وأشارت إلى أن المحكمة أقرت هذا الأمر سابقاً في ملف 02/769 لجنة مناهضة التعذيب ضد حكومة إسرائيل وآخرين، المعروف بالتماس الاغتيالات الصادر في 14/12/2006.[9] ومع أن المحكمة نوهت بأن المواعيد الواردة في القانون تمس بحرية المعتقلين جدياً، إلاّ إنها أكدت على لسان رئيستها القاضية بينيش أنه بسبب وضعية الحرب، فإن الإجراءات والمواعيد فيما يتعلق بإصدار أمر اعتقال (96 ساعة) وإحضار المعتقَل إلى الرقابة القانونية أمام قاضٍ (14 يوماً) ومنع لقاء محامٍ (21 يوماً) هي معقولة، لكنها نصحت الكنيست بواجب تقصيرها، لكنها لم تعدلها بنفسها. ومرّ القانون بعدة تعديلات إضافية في الفترة (2008 - 2016) قبل أن يتم تعديله بصورة صارخة مع بداية الحرب سنة 2023. 
 
التداعيات والتوظيف السياسي منذ سنة 2023
فور إعلان حالة الحرب بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أعلنت حكومة نتنياهو حاجتها إلى تعديلات مجدداً في القانون تمكنها من اعتقال فلسطينيين من قطاع غزة، فأُقر التعديل الأول في 18/12/2023 لمدة أربعة أشهر، سارياً إلى 18/4/2024، وشمل التعديل تغييراً جارفاً في المواعيد المذكورة في القانون الأساسي، وبصورة غير منطقية وغير معقولة، وجعلت حياة المعتقَلين الغزيين في السجون الإسرائيلية غير معقولة، ووضعتهم في دائرة الخطر المباشر. وجاء في تفسير التعديل الأول أن هذه التعديلات جاءت لضرورات أمنية لإتاحة إمكان استيفاء التحقيقات التي اعتبرتها صعبة ومركبة في مقابل آلاف المعتقَلين من قطاع غزة.
وكانت هناك تقارير منشورة، وبينها ما اقتُبس من مسؤولين إسرائيليين أنفسهم، قد أكدت حجم الاعتقالات الهائل ومضاعفته من شهر إلى آخر، واعترفت الدولة في النقاش الذي أجرته لجنة الخارجية والأمن في الكنيست في 18/12/2023 بأن أغلبية المعتقَلين الذين اعتُقلوا بناء على قانون المقاتل غير الشرعي (80% منهم) تم اعتقالهم من داخل قطاع غزة، وأغلبيتهم (بين 85% و90%) مدنيون. ويُشار إلى أن بينهم نساء وأطفالاً اعتبرتهم إسرائيل مقاتلين غير شرعيين، وتم اعتقالهم في أوضاع مهينة، وزجُهم جميعاً في معسكر سديه تيمان.
 
التعديل الأول: وسُمي بتعديل رقم 4 في قانون المقاتلين غير الشرعيين (قانون ساعة "سيوف حديدية")، ويتيح تفعيل بند "10 أ" في قانون المقاتلين غير الشرعيين، في حالة إعلان حالة حرب، ويكون من صلاحية الحكومة تفعيله. وقد سمح التعديل باعتقال شخص لمدة 45 ساعة بدلاً من 96 ساعة من دون إصدار أمر اعتقال، وتأجيل إحضاره إلى الرقابة القضائية أمام قاضٍ لمدة 75 يوماً بدلاً من 14 يوماً، وسمح بعقد اللقاء عبر "V.C"، وعدم إحضار المعتقَل إلى قاعة المحكمة أمام القاضي، كما رفع مدة إمكان منع لقاء محامٍ كحد الأقصى من 21 يوماً إلى 180 يوماً. وهذه التعديلات شكلت انتهاكات لمفهوم الإجراء القانوني العادل، وانتهاكاً صارخاً لحقوق المعتقَلين، ووضعتهم في دائرة الخطر المباشر. وينطبق مفهوم الإخفاء القسري على هذه التعديلات، إذ يُعتقل فيه الشخص من دون إصدار أمر لمدة طويلة، وفي إمكان الجندي اعتقاله واعتباره مقاتلاً غير شرعي، ولا يكون لديه إمكان لمقابلة قاضٍ أو لقاء محامٍ لمدة طويلة من دون أي رقابة أو إمكان إجراء عادل، في انتهاك صارخ لحقوقه كمعتقَل.
 
وقامت مؤسسات فلسطينية وإسرائيلية ودولية بانتقاد التعديلات القانونية واعتبارها صارخة، ونوهت بمخاوفها وتبعاتها على المعتقَلين، وقدمت التماساً إلى المحكمة العليا ضد هذه التعديلات؛ التماس رقم 24/1414 - لجنة مناهضة التعذيب وآخرون ضد الكنيست وآخرين - واعتبرتها غير قانونية وغير معقولة، وتنتهك حقوق المعتقَلين بصورة جارفة، وتحول الاعتقال إلى اعتقال اعتباطي تعسفي، من دون رقابة قانونية، وتزيد من إمكان تعرض المعتقَلين للتنكيل والتعذيب. وأُثيرت ضجة إعلامية بشأن الموضوع، فعقدت المحكمة جلستها في 27 أيار/مايو 2024، وطلبت من الدولة إعطاء إجابات وتفسيرات للتعديلات والنقاط التي طرحها الملتمسون.
 
التعديل الثاني: نُشر في 7/4/2024، وبدأ سريانه في 19/4/2024، إلى غاية 31/7/2024. وقد قامت الدولة بتقليص المدة القصوى لمنع لقاء المعتقَل بمحامٍ من 180 يوماً (في التعديل الأول) إلى 90 يوماً، لكنها لم تعده إلى ما كان عليه في القانون الأساسي (21 يوماً). ومن الممكن أن تكون هذه الضغوط (اتهام إسرائيل في محكمة العدل الدولية بارتكاب جرائم حرب وإبادة في غزة، وانتشار الأخبار عن التعذيب في المعتقلات العسكرية، ووفاة معتقلين داخل السجون) كلها أثرت في القيام بهذه التعديلات.
 
عملياً، أتاح التعديل الثاني إمكان لقاء محامٍ لأول مرة للمعتقَلين المعزولين عن العالم في أوضاع لا يعلم أحد بها، لكن تسربت معلومات وشهادات عن خطورتها، لكن المحامين الذين طلبوا زيارة المعتقَلين واجهوا سلسلة من الإجراءات التي أدت عملياً إلى عرقلة الزيارات فعلياً، منها: مطالبة السلطات المحامين بالحصول على توكيل من العائلات المقربة، وفي ظل الحرب، كان من الصعب جداً الحصول عليها والتواصل معها في ظل انقطاع الكهرباء وشبكة الإنترنت ونزوح العائلات، وأحياناً عدم وجود أقارب من الدرجة الأولى للتوقيع على التوكيل. كما واجه المحامون عدداً من الصعوبات في أثناء محاولة تحديد الزيارات، منها: تحديد زيارات لفترات بعيدة جداً، وخصوصاً في السجون التابعة لمصلحة السجون، كسجن النقب (كتسيعوت) الذي فيه عدد كبير من أسرى غزة، أو إعلان حالة طوارئ مع وصول المحامين إلى السجن وإلغاء الزيارة وغيرها من الإجراءات التي أعاقت فعلياً بدء زيارات المحامين للأسرى لشهر إضافي على الأقل من سريان التعديل الثاني.
 
التعديل الثالث: نشرت الدولة التعديل الثالث عشية جلسة نقاش ثانية عُقدت في 11 حزيران/يونيو 2024 بشأن القانون في الالتماس رقم 24/1414، الذي نُشر في 30/7/2024 وحُدد سريان مفعوله بتاريخ 1/8/2024، ليشمل تقليصاً إيجابياً في كل المواعيد التي تم تمديدها مسبقاً، متضمناً تقليص المدة القصوى لإصدار أمر اعتقال إلى 30 يوماً (وفي حالة القاصرين إلى 20 يوماً)، ومدة منع إحضار المعتقَل أمام قاضٍ من 75 يوماً إلى 45 يوماً (وللقاصرين 30 يوماً)، ومدة منع لقاء محامٍ من 90 يوماً إلى 75 يوماً. كما شمل التعديل الأخير وجوب دخول لجان مراقبة ومراقبين المعتقلات والمعسكرات، لكن جميعهم من مؤسسات الدولة ذاتها، سواء السياسية أم القضائية، وهو ما يضع قدرتها على أن تكون حيادية تجاه وضع السجون وما يحدث مع المعتقَلين موضع مسائلة وفحص. قبل أن تصدر المحكمة قرارها، طالبت بأن تعطي تفسيرات لبعض النقاط، وخصوصاً فيما يتعلق بتأجيل الرقابة القانونية لمدة 45 يوماً.
 
للوهلة الأولى، يمكن الظن أن التقليصات التي طرحها التعديل الثاني والثالث جيدة، لكن علينا ألاّ نغفل عن أن التعديل الأول بعد الحرب، وحتى القانون الأساسي بحد ذاته، فيه انتهاكات فظة لحقوق المعتقَلين الأساسية، وللإجراءات العادلة والمسائلة القانونية، وبعيدة كل البعد عما تنص عليه قوانين الاعتقال العادية، وحتى الاعتقال الإداري الظالم بحد ذاته.
 
وقد اعترفت الدولة في ردها على الالتماس في جلسة حزيران/يونيو 2024 بأنها اعتقلت نحو 4000 فلسطيني من غزة إلى غاية حزيران/يونيو، وأطلقت سراح نحو 1900 منهم إلى غزة. وفي هذا تأكيد أن جميع من أطلقت سراحهم على الأقل هم مواطنون وليسوا مقاتلين. كما أكدت أنه لا يزال هناك نحو 2100 معتقَل تحت مسمى مقاتل غير شرعي حتى نهاية الحرب، ونحو 200 معتقَل بأمر موقت، أي لم يروا قاضياً بعد.
 
شروط الاعتقال: تنكيل وتعذيب يصل إلى حد الموت
يتحدث القانون في بنده العاشر عن أوضاع الاحتجاز وضرورة احتجاز المعتقَل في أوضاع ملائمة لا يكون فيها أي أذى لصحته أو كرامته، لكن ما يحدث على أرض الواقع، وخصوصاً منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، هو عكس ذلك، بل أيضاً يصل إلى حد التنكيل والتعذيب، كما أدى إلى موت عشرات الأسرى داخل السجون. ولا تفي شروط اعتقال الغزيين في سجون إسرائيل بالحد الأدنى من شروط الاعتقال، وبشرط المحافظة على كرامة الإنسان وحقوقه التي تحدث عنها القانون بصيغته الأولى سنة 2002، كما أنها تنتهك المواثيق الدولية، ومنها الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري، واتفاقيات جنيف، وقواعد مانديلا لمعاملة السجناء، واتفاقية حقوق الطفل؛ إذ بين المعتقلين الغزيين عشرات القاصرين، منهم 20 في السجون التابعة لمصلحة السجون بناءً على تقريرها الصادر في نيسان/أبريل 2024. وبناءً على إحصاءات نشرتها هيئة شؤون الأسرى والمحررين ومؤسسات فلسطينية، فقد وصل عدد المعتقَلين الكلي في 1/8/2024 إلى 9900 معتقَل، بينهم 250 طفلاً. ومنهم من هو في السجن العسكري عوفر وسديه تيمان، وهناك آخرون في السجون التابعة لمصلحة السجون، كعوفر والنقب. ويخضع المعتقَلون لأوضاع اعتقال ومعاملة لاإنسانية ومهينة وقاسية، تصل في كثير من الحالات إلى حد التعذيب بصورة تتنافى مع اتفاقية مناهضة التعذيب.
 
وكانت هناك وسائل إعلام متعددة، وضمنها إسرائيلية ومؤسسات حقوقية، قد نشرت عن أوضاع الاعتقال التي وصلت إلى التعذيب وإفادات من أُطلق سراحهم وعادوا إلى قطاع غزة وشهاداتهم بشأن التعذيب والتنكيل الذي كانوا قد تعرضوا له في هذه المعتقلات، كما كشفت رسالة طبيب عمل هناك عما يدور في معتقل سديه تيمان، وفضحت قضية اغتصاب معتقل فلسطيني في ذلك المعسكر، والممارسات الوحشية ضد المعتقَلين. هذا إذ أكد المتحدث باسم المفوضية السامية لحقوق الإنسان ضرورة فتح تحقيق بالأمر، وعلى الرغم من خطورة التهم، فقد تم تحويل المتهَمين إلى الحبس المنزلي.
 
 وجاء تقرير منظمة بتسيلم بعنوان "أهلاً بكم في الجحيم" الصادر في آب/أغسطس 2024 لينقل إفادات 55 أسيرة وأسيراً فلسطينياً؛ 21 منهم هم من سكان قطاع غزة، ممن احتُجزوا في السجون ومرافق الحبس الإسرائيلية، وتحرروا في الأشهر الأخيرة، وأغلبيتهم الساحقة من دون محاكمة. ويصف التقرير واقع التنكيل القاسي والتعسفي، والاعتداء الجنسي، والإهانة، والتحقير، والتجويع المتعمد، وأيضاً أوضاع النظافة الصحية المتردية، والحرمان من النوم، ومصادرة جميع المتعلقات المشتركة والشخصية، والمنع من العلاج الطبي المناسب، ودور وحدة "كيتر" الوحشية التي يسميها الأسرى "وحدة الموت" (قوات من الملثمين مع كلابهم يقومون بالتنكيل والتعذيب). وتُبين إفادات الأسرى كيف تحوّل أكثر من 12 من مرافق الحبس الإسرائيلية، مدنية وعسكرية، إلى شبكة معسكرات هدفها الأساسي التنكيل بالمعتقَلين المحتجَزين داخلها، وتصفها بأنها تحولت فعلياً إلى معسكرات تعذيب. ويؤكد التقرير وجود سياسة ممنهجة رسمية للتنكيل بالأسرى وتعذيبهم، كما أُعلن وفاة أكثر من 60 معتقلاً داخلها. وكانت "هآرتس" قد نشرت في آذار/مارس خبر وفاة 27 معتقلاً فلسطينياً من غزة في المعسكرات والسجون الإسرائيلية. ويشير تقرير بتسيلم إلى أنه مَن يفترض أنهم سيكونون بحكم مهنتهم العين الساهرة على حراسة سلطة القانون والمحافظة عليها والدفاع عن حقوق الإنسان، فإنهم غضّوا النظر عن سياسة بن غفير في السجون، وسمحوا بمحو كرامة الأسرى، وتحويل تعذيبهم إلى منهج يحوّل كل الجهاز إلى مختص في التعذيب باعتقال آلاف الأشخاص من دون محاكمة، وفي أوضاع لاإنسانية.
 
خاتمة
مع إعلان حالة الحرب منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أُعلنت حالة طوارئ اعتقاليه داخل السجون الإسرائيلية، وأُغلقت السجون أمام الزائرين من عائلات ومحامين وممثلي الصليب الأحمر. وضمن أنظمة الطوارئ، أُجريت عدة تعديلات على قانون احتجاز المقاتلين غير الشرعيين أدت إلى اعتقال أكثر من أربعة آلاف فلسطيني من داخل قطاع غزة، أغلبيتهم من المدنيين، وضمنهم نساء وأطفال، وتم الزج بهم في المعسكرات والسجون، التي تحولت إلى معسكرات تنكيل وتعذيب؛ الأسرى داخلها عزّل عن العالم كلياً، والعشرات منهم فقدوا حياتهم فيها، ويُحتجز الآلاف منهم كما قيل لهم: "حتى نهاية الحرب"، من دون محاكمة.
 
لقد أوضح المقال كيف يلتف مصطلح المقاتل غير الشرعي - الذي استعملته إسرائيل وقبلها أميركا - على القانون الدولي، على الرغم من أن المحكمة العليا لا ترى في ذلك التفافاً على القانون، وتعطي تفسيراً آخر؛ إذ تراه يتماشى مع القانون الدولي باعتبار المقاتل غير الشرعي جزءاً من المدنيين. كما بيّن هذا المقال دور المحكمة العليا الإسرائيلية في حث الحكومة على سن قانون المقاتل غير الشرعي وعدم قبولها تنفيذ الاعتقالات بموجب قانون الاعتقال الإداري، إذ إن مشكلتها مع المصدر القانوني للاعتقال، وليس مع الاعتقال أو التعريف القانوني للمعتقَل. وعليه، فإن المحكمة تقبل بالبند الذي يتيح إمكان الاعتقال حتى نهاية الحرب، إذ يخدم هذا القانون سياسات وحاجات الدولة الأمنية، لكنه يبقي آلاف المعتقَلين في السجون إلى غاية انتهاء حالة الحرب، وهو أمر يمكن أن يطول لسنوات في أوضاع تم الكشف عن كونها تنكيلاً وتعذيباً، واختفاءً قسرياً وموتاً. ومع استمرار الكشف عن حالات التنكيل والتعذيب ووفاة الأسرى داخل السجون، يحق للأسرى وعائلاتهم القيام بكل الخطوات القانونية لفضح هذه الممارسات وتحصيل حقوقهم والمطالبة بإدانة المسؤولين عن تعذيبهم والمسؤولين عن إعطاء الأوامر والتوجه إلى كل المحافل الدولية بالشكاوى وطلب الحماية، فالتعذيب والاختفاء القسري ممنوع منعاً باتاً وفق القانون الدولي، ولا توجد استثناءات له.