قبل فورة وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار "السوشيال ميديا" واكتساحها غالبية وسائل الإعلام التقليدية كانت إحدى أهم معاناة الكتّاَب والمحللين تكمن في الحصول على المعلومة، والاطمئنان لها للبناء عليها، واليوم غدت المشكلة الأكثر تعقيداً تتبلور في الإغراق بالمعلومات، واختلاط السم في الدسم فعلى مدار الساعة ــ إن لم يكن على مدار الدقيقة ــ يجد المتابع المهتم نفسه أمام سيل جارف من المعلومات والأخبار المسوقة سواء عبر المقالات أو مقاطع الفيديو أو غير ذلك مما يتم نشره وتعميمه، لاقتحام هدوء التفكير، وتعقيد عملية القراءة الموضوعية لخلفيات ما يجري من أحداث وتداعيات محتملة.
لا غض النظر عن كل ذلك يمكن الركون إليه، ولا متابعة كل ما يُنْشَر ممكنة، فضلاً عن الوقت المطلوب هدره لتمييز الغث من السمين، وفوق هذا وذاك، وكما يقول المثل: "فوق الموتة عصَّة القبر" حيث يختلط في المقالة الواحدة ما يصلح لمخاطبة الجمهور وعموم القرَّاء، مع ما يمكن تخصيصه للنخب الفكرية والسياسية، مع ذاك الجزء الذي يجب أن يكون مكرساً لوضع الرؤى والخلاصات والاستنتاجات بشكل أو بآخر على طريق الوصول إلى مفاصل صنع القرار في هذا الطرف أو ذاك، وهذا يعني ازدياد صعوبة ما ينبري له المقاومون الشرفاء بالكلمة والفكرة وتحصين الوعي، وهي المعركة الأشد ضراوة والأكثر خطورة.
يتكرر في الآونة الأخيرة تداول أفكار تبدو عادية، لكنها في منتهى الخطورة، وعلى سبيل المثال لا الحصر يتساءل بعضهم بحسن نية، أم بغير ذلك ويقول بما معناه: إذا كانت المقاومة في غزة استطاعت أن تصمد كل هذه الشهور في مواجهة الكيان وداعميه، وإذا كانت بقية أطراف جبهة المقاومة قادرة وتمتلك ما تستطيع أن تواجه به ترسانة القتل والتدمير الصهيو ــ أمريكية فعلاً، وإذا ... وإذا فما السر في تأخر إيران عن الرد على اغتيال الشهيد إسماعيل هنية في قلب عاصمتها؟ ولماذا اكتفى حزب الله بالرد الموضعي؟ وماذا عن رد المقاومة في العراق واليمن؟ ومتى يتم تفعيل جبهة إسناد في سورية؟ وتساؤلات أخرى تشير إلى أن تحرير فلسطين من البحر إلى النهر بات قاب قوسين أو أدنى، أو كأن إزالة الكيان السرطاني واجتثاثه من الوجود في متناول يد جبهة المقاومة اليوم قبل الغد، لكنه يحجم عن ذلك، أو أن ما يتم الإعلان عنه من قدرات المقاومة تهويل أدى إلى كارثة في غزة، وتكاد تتكرر في الضفة الغربية، وتفنيد مثل هذه الطروحات أمر مهم، وإن كان مروجوها لن يعدموا الوسيلة للاستمرار بإعادة ابتلاع ما يتقيؤونه مرة بعد أخرى، وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى بعض الأفكار التي تساعد على توضيح الصورة أكثر، ومنها:
* لم يسبق لأي طرف من أطراف جبهة المقاومة أن أشار تلميحاً أو تصريحاً ولا حتى همساً بينه وبين نفسه بأن ما يجري مقدمة للدخول المباشر في حرب التحرير، وما استحضار البوارج والأساطيل والمدمرات والغواصات الأطلسية ــ بما في ذلك النووية منها ــ إلا قرينة من قرائن متعددة على من تواجه جبهة المقاومة.
* الفرق كبير بين إدارة الصراع وحسم الصراع، والجميع أصبح على يقين بأن صراعنا مع المحور الصهيو ــ أمريكي صراع وجودي، ومحددات الصراع الوجودي تختلف عنها في بقية أنواع الصراعات الآنية أو المحدودة، فكل ما تفعله المقاومة في شتى جبهاتها ما يزال ضمن الحرب الدفاعية وليس الهجومية، وحتى ملحمة طوفان الأقصى يتم تصنيفها ضمن الدفاع الإيجابي الفاعل وليس الهجوم الهادف لتحرير الأراضي المغتصبة، بل لإجبار العدو ما أمكن على التخلي عن حلمه بإقامة كيانه من النيل إلى الفرات، وواهمٌ من يظن أن من يقف وراء هذا الكيان يعارضه في إحكام السيطرة على كامل المنطقة إذا استطاعوا ذلك.
* ليست أطراف جبهة المقاومة وحدها التي تتعرض للعدوانية الصهيو ــ أمريكية، بل كل من لا يذعن لإرادة متوحشي العصر الذين لا يمتُّون لإنسانية الإنسان بصلة قط، ولعل أبلغ توصيف لحالة الصراع الدولي المزمن قد وردت على لسان الرئيس السوري بشار الأسد في كلمته أمام مجلس الشعب في الدور التشريعي الرابع عندما قال: (صراع الغرب مع بقية العالم، قوى الهيمنة والإرهاب مقابل قوى السيادة والاستقرار.... وبالتالي لا خيار لأحد على الإطلاق أن يتجنب تأثيرات هذا الصراع، كل القطاعات في كل المجالات، في السياسة، في الاقتصاد، في الأمن في الثقافة وفي غيرها..) وأضاف في مكان آخر توضيحاً في منتهى الدقة والصواب عندما قال: (ردة فعل الغرب الهستيرية غير المسبوقة التي أكدت أن "إسرائيل" هي مجرد جزء من مشروع استعماري، إذا سقطت يسقط معها المشروع، وهذا المشروع الذي دائماً نتحدث عنه مشروع نهاية التاريخ..). نعم هم يريدون أن ينتهي تاريخ جميع الشعوب والأمم على بوابات واشنطن، والدور الوظيفي للكيان "الإسرائيلي" إبقاء هذه المنطقة "الجيوستراتيجية" من العالم ضمن المجال "الجيوبولتيكي" الأمريكي، أي السيطرة التامة ليس فقط على غزة والضفة وكامل فلسطين، ولا على ما ورد في الشعار الصهيوني: من النيل إلى الفرات، بل على كامل غرب آسيا وكل إفريقيا، وطالما هذه الحدود التقريبية للمطلوب تنفيذه، فمن الطبيعي أن نرى هذا السعار والهلع والمسارعة لحماية "تل أبيب"، وهذا دليل أيضاً على خطورة ما يحققه المحور المقاوم على أرض الواقع.
•تفجير الصراع بدلاً من المهارة في إدارته في مثل هذه اللحظة التاريخية الحرجة يعني المغامرة بإمكانية التفريط بكل ما تم إنجازه حتى الآن، وهو كبير جداً، والمقامرة بخسارته تعني التنكر للدماء الطاهرة التي سفكت على طريق كسر الصلف والعنجهية "الإسرائيلية" وقد كسرت بحق، ولا قرائن دالة تشير إلى إمكانية تلحيم ما تهشم لا بالأوكسجين الأمريكي، ولا بالصمغ اللاصق الذي تفرزه ماكينات الخيانة والعمالة والتواطؤ لدى بقية الأطراف التي جنّدت نفسها وسخرت إمكانيات بلدانها لخدمة أعداء المنطقة والإنسانية جمعاء.
* إذا استطاعت أطراف محور المقاومة معاً، كل من موقعه وقدراته ومحددات تكامل عمله المثمر أن تحافظ على خمسين بالمئة مما تم إنجازه حتى الآن تمهيداً لخلق البيئة الإستراتيجية الكفيلة بتوفير إمكانية الانتقال من الدفاع الإيجابي إلى الهجوم، فإنها بذلك تكون قد حجزت لنفسها مكاناً متقدماً في النظام العالمي الجديد القادم، لا بل من شأن ذلك أن يسرع ولادة هذا النظام، والعكس صحيح، فقد لا تفكر القوى العظمى المرشحة لشغل القطب المكافئ في الإقدام على خطوة متقدمة في هذا الطريق ما لم تطمئن إلى قدرة جبهة المقاومة على تحصين ما أنجزته، وهذه نقطة في غاية الأهمية، وليست مجرد كلمات تقال.
* قد يكون من المبكر الحديث عن حرب التحرير، لكن القدرة على صيانة بعض ما أنجز، ومنع المحور المعادي من تفريغ المعطيات الميدانية التي فرضها أداء جبهة المقاومة، وحرمان واشنطن و"تل أبيب" من تشويه المنجزات بغطاء سياسي أياً كان ذاك الغطاء هو الأهم اليوم، وهذا يعني أن العنوان الأكثر قلقاً لحكومة نتنياهو اليوم يتبلور باشتعال الضفة الغربية بدلاً من استمرارية الإبادة التدريجية والتنسيق الأمني مع العدو، ومع كل جندي أو مستوطن يستهدفه المقاومون تضعف أكثر فأكثر قوائم الكيان التي استند عليها منذ ما قبل إنشائه، وهنا يصبح الوضع الميداني التكتيكي جزءاً فاعلاً وأساسياً في رسم المعالم الإستراتيجية.
* كل ما نراه أو قد نراه من متغيرات تصب في صالح جبهة المقاومة ما كان له أن يتبلور بهذه الصورة لو استطاعت أعاصير ربيعهم المزعوم أن تجرف سورية كما جرفت غيرها من دول المنطقة، ولو استطاع الخبث البريطاني الأمريكي الصهيوني أن يغير تموضع الدولة السورية لكانت المنطقة برمتها أمام لوحة أخرى مغايرة عمّا نراه اليوم، لكن بفضل تكامل جهود وإمكانيات محور المقاومة مجتمعاً بدأ العالم يتحدث عن نظام عالمي جديد، ومِن حق مَن لهم الفضل في تهيئة ما يلزم ليصبح الحديث عن هذا متاحاً ومقبولاً ـــ من حقهم ـــ أن يحددوا المكانة التي تليق بهم لشغلها بعد الارتدادات العاصفة لتسونامي انكسار مشروع "نهاية التاريخ".