شهد يوم 15 سبتمبر 2024 محاولة اغتيال ثانية للرئيس الأمريكي السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب للانتخابات الرئاسية 2024، وهي المحاولة التي جاءت في سياق تنافس انتخابي محتدم بين ترامب وكامالا هاريس، ناهيك عن مجيء المحاولة بعد أيام قليلة من المناظرة التي جرت بين ترامب وهاريس، والتي بدت فيها هاريس بموقف أفضل؛ نظراً إلى حصولها على استحسان العديد من المتابعين. ولا يمكن إغفال أن محاولة الاغتيال الجديدة قد يحاول ترامب استغلالها من أجل تعزيز فرصه الانتخابية وتصدير المزيد من الضغوط إلى إدارة بايدن.
تهديد متكرر
تُشير المعلومات الأولية حول حادث إطلاق النار قُرب المرشح الجمهوري دونالد ترامب في ملعب "ترامب" للجولف في ويست بالم بيتش بولاية فلوريدا، إلى عدد من الدلالات، بينها:
1- القبض على المشتبه به عقب هروبه من مكان الحادث: ذكرت الشرطة الأمريكية أن شخصاً أطلق النار خارج نادي الجولف في منطقة بالم بيتش المجاورة لمنتجع "ترامب" في فلوريدا. وأعلنت شرطة بالم بيتش بولاية فلوريدا، أن أحد أفراد الخدمة السرية تمكَّن من رصد فوهة بندقية بارزة من سياج ملعب "ترامب" للجولف، ورد بإطلاق النار على المشتبه به، الذي يعرف باسم ريان ويسلي روث، واشتبك أفراد الجهاز مع المسلح وأطلقوا ما لا يقل عن أربع خزائن طلقات. وتشير الشرطة إلى أن المشتبه به كان على بُعد يتراوح بين 365 و457 متراً تقريباً من مكان "ترامب" في الملعب؛ حيث كان مُطلق النار يختبئ بين الشجيرات على مسافة قريبة منه.
وذكر قائد الشرطة في بالم بيتش "ستيف برادشو"، في مؤتمر صحفي أنه عقب إطلاق أعيرة نارية تم إغلاق المنطقة على الفور، وتمكنت الشرطة من تحديد موقع المشتبه به بعدما قال شاهد إنه رأى رجلاً يركض بالقرب من بعض الأشجار، وقفز داخل سيارة سوداء. وأرسلت السلطات إنذاراً للأجهزة في أنحاء الولاية مع بيانات السيارة. وفيما لم يذكر المسؤولون في المؤتمر الصحفي تفاصيل حول هوية المشتبه به أو أي دافع محتمل، فإن تقارير إعلامية أمريكية نقلت عن مصادر أن المشتبه به يدعى "ريان ويسلي روث".
2- إطلاق النار باستخدام كلاشينكوف من طراز "إيه كيه-47": كشفت المعلومات الأمنية الرسمية أن المشتبه به في تنفيذ الهجوم قُرب "ترامب" كان بحوزته سلاح من نوع كلاشينكوف روسي من طراز "إيه كيه-47" وحقيبتا ظهر في الموقع الذي كان موجوداً فيه وسط الأشجار، وهو السلاح الذي كان على الأرجح أن يستخدمه المشتبه به حال المضي قُدماً نحو استهداف "ترامب"، وهو سلاح من عيار كبير، يمكن من خلاله ضرب أهداف على مسافة تصل إلى 800 متر، وهو من أكثر الأسلحة المستخدمة في حوادث العنف السياسي والحوادث الإرهابية، وأحد أكثر الأسلحة النارية انتشاراً في العالم، ويتميز برخص سعره وسهولة استخدامه.
3- تخطيط المتورط في محاولة الاغتيال لتوثيق الحادث بكاميرا: وفق المعلومات التي كُشف عنه خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده عمدة مقاطعة بالم بيتش وممثل عن جهاز الخدمة السرية ومكتب التحقيقات الفيدرالي، فإن المشتبه به كان يحمل كاميرا من نوع "جو برو"، وهو ما يُرجِّح أنه كان سيستخدم تلك الكاميرا لتوثيق الحادث بعد إطلاق النار على المرشح الجمهوري "دونالد ترامب"، لترويجه سياسياً، مثلما يقوم العديد من المتورطين والمجرمين في حوادث العنف السياسي.
4- امتلاك المتورط في محاولة الاغتيال سجلاً أمنياً إشكالياً: تكشف البيانات المتاحة عن المتورط في محاولة الاغتيال – وهو ريان ويسلي روث، البالغ من العمر 58 عاماً – امتلاكه سجلاً أمنياً إشكالياً، وبحسب التقارير، سبق أن دخل في عشرات المصادمات مع الشرطة، يعود بعضها إلى التسعينيات. وتشمل قائمة الاعتقالات التي جرت بحقه، وفقاً لتقرير لسكاي نيوز، حيازة مخدرات، والقيادة بدون رخصة، وتشغيل مركبة بدون تأمين. وألقت الشرطة القبض على روث في عام 2002 بعدما دخل في مواجهة مع قوات الأمن، استمرت لثلاث ساعات، استخدم خلالها سلاحاً نارياً كان عبارة عن مسدس. وتداولت مواقع إعلامية لقطات لروث تعود إلى مقابلة أجراها في عام 2022 مع "نيوزويك رومانيا"؛ حيث تحدث صراحة عن آرائه المؤيدة لأوكرانيا في حربها مع روسيا، وجهوده لتجنيد مقاتلين أجانب للقتال بجانب كييف. كما تشير المعلومات المتاحة عنه تبنيه مواقف مضادة لترامب، والانتقاد المتكرر له على منصات التواصل الاجتماعي.
5- تعامل حملة ترامب بصورة حذرة مع المعلومات المتعلقة بمحاولة الاغتيال: يُلاحظ أن البيانات الأولية التي صدرت عن المرشح الجمهوري دونالد ترامب وحملته الانتخابية تجنبت تفسير هذا الحادث حتى الآن على أنه محاولة اغتيال متعمدة للمرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب، وربما يكون ذلك رغبة في عدم استباق التحقيقات في ظل عدم حدوث إصابات من جراء إطلاق النار، على عكس الحادث الأول الذي وقع في يوليو 2024، أمام عدسات الكاميرات التي وثَّقت إصابته.
وقد أكد ستيفن تشيونج المتحدث باسم الحملة الانتخابية للمرشح الجمهوري دونالد ترامب أنه "آمن بعد إطلاق نار على مقربة منه" مضيفاً أنه "لا توجد تفاصيل أخرى في هذا الوقت"، وهي لغة متوافقة مع تصريحات الرئيس السابق دونالد ترامب في رسالة بالبريد الإلكتروني قال فيها: "سمعت طلقات نارية بالقرب مني، لكن قبل أن تبدأ الشائعات في الانتشار بشكل خارج عن السيطرة، أردت أن أقول: أنا بخير وبصحة جيدة"، بما يشير إلى حرص "ترامب" وحملته الانتخابية على عدم استخدام مُفردات من قبيل "إطلاق النار تجاهه" أو "محاولة استهدافه" بشكل واضح.
ولكن بعد اتضاح المزيد من المعلومات بخصوص محاولة الاغتيال تغيرت هذه المقاربة؛ فعلى سبيل المثال، كتب مستشارا الحملة الرئيسيان كريس لاسيفيتا وسوزي وايلز، رسالة يوم 15 سبتمبر 2024 قالا فيها: "اليوم، وللمرة الثانية في شهرين، حاول وحش شرير أن يودي بحياة الرئيس ترامب... لحسن الحظ، لم يصب أحد في ملعب الجولف. الرئيس ترامب وكل من يرافقه ممنون بفضل العمل الرائع لجهاز الخدمة السرية للولايات المتحدة".
6- تحذيرات سابقة بشأن أمان "ترامب" في ملاعب الجولف: في حين سبق أن أبدى مسؤولو جهاز الخدمة السرية قلقهم بشأن احتمالات تعرُّض "دونالد ترامب" للخطر في ملاعب الجولف الخاصة به، باعتبارها ملاعب مفتوحة للجمهور، وتقع بالقرب من مناطق ذات حركة مرور كثيفة، وفق ما تكشف تقارير؛ فإن حادث إطلاق النار بالقرب من نادي الجولف في "ويست بالم بيتش" بولاية فلوريدا، من شأنه أن يتسبب في تصاعد القلق بشأن أمان "ترامب" في تلك الملاعب، وتعزيز التحذيرات من وجوده هناك، وإثبات صحة شكوك جهاز الخدمة السرية بشأن مخاطر وجود "دونالد ترامب" في تلك الملاعب المفتوحة.
وربما يدفع ذلك الحادث الأجهزة الأمنية الأمريكية إلى مطالبة المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية بقصر وجوده على ملاعب جولف محددة ذات مستوى تأمين مرتفع. وقد أكد قائد الشرطة في بالم بيتش "ستيف برادشو" بالفعل اتخاذ إجراءات من أجل تعزيز الأمن في ملعب "ترامب" للجولف.
7- تفكير عناصر في استهداف "ترامب" قُرب أماكن إقامته خلال العطلات: في حين وقع حادث إطلاق النار، في ملعب "ترامب" للجولف في ويست بالم بيتش بولاية فلوريدا، فإن دلالة الموقع الجغرافي لا تتعلق بالملعب ذاته فقط، بل تتعلق بكونه يقع على مقربة من مقر إقامة "ترامب" في مارالاجو، بما يُشير إلى اقتراب العناصر التي تستهدف "ترامب" من المناطق المحيطة بمقر إقامته، واستغلال الأيام التي ينقطع فيها عن الحملة الانتخابية الرئاسية، وليس فقط استغلال التجمعات الانتخابية الحاشدة، التي تم تشديد إجراءاتها الأمنية عقب حادثة يوليو 2024.
التداعيات المحتملة
تحمل محاولة اغتيال ترامب الثانية عدداً من التداعيات المحتملة، التي قد يكون لها تأثير على مشهد الانتخابات الرئاسية. وبوجه عام يمكن تناول أهم هذه التداعيات على النحو التالي:
1- مساعي ترامب لتأكيد قدرته على مواجهة التهديدات: سيعمل ترامب عقب محاولة الاغتيال الجديدة على تأكيد قدرته على مواجهة التهديدات المختلفة، ولعل هذا ما اتضح من تصريحاته بعد محاولته الاغتيال؛ حيث ذكر: "سمعت طلقات نارية في محيطي، ولكن قبل أن تبدأ الشائعات في الخروج عن السيطرة، أردت أن تسمعوا هذا أولاً: أنا آمن وبصحة جيدة.. لا شيء سيوقفني لن استسلم أبداً".
2- إمكانية التوظيف الانتخابي لمحاولة الاغتيال من قبل الجمهوريين: ربما يعمل الجزب الجمهوري على توظيف محاولة الاغتيال الجديدة لترامب من أجل دعم فرص مرشحهم في الانتخابات القادمة، بحيث يتم تصويره في صورة المرشح المستهدف من قبل خصومه، أو بمعنى آخر استخدام ديناميات الضحية الداعمة لترامب، وهو الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى حصول ترامب على المزيد من التعاطف من قبل الناخبين المترددين.
3- محاولة ترامب التقدم على منافسته هاريس: سيعمل الرئيس السابق ترامب على استغلال حادث الاغتيال الثاني من أجل التقدم على منافسته هاريس؛ فمن خلال تصديره خطاب الصمود أمام التحديات وعدم الاستسلام، يسعى ترامب إلى دعم فرص التقدم على منافسته هاريس، وخاصة أن محاولة الاغتيال جاءت بعد أيام قليلة من المناظرة التي جرت بينهما في 10 سبتمبر 2024، وهي المناظرة التي أضفت صورة إيجابية كبيرة على هاريس التي لاقت استحساناً كبيراً تجاه أدائها خلال المناظرة؛ إذ أظهر استطلاع للرأي أجرته "سي إن إن" عقب المناظرة أن أغلبية 63% من مشاهدي المناظرة الرئاسية يعتقدون أن هاريس تفوقت على ترامب.
4- التشكيك الجمهوري المحتمل في عمليات تأمين ترامب: صحيح أن الحادث كشف عن القدرات الجيدة للأجهزة الأمنية الأمريكية التي نجحت في التعامل مع المتورط في محاولة الاغتيال وتأمين الرئيس السابق، بيد أن تكرار محاولات اغتيال الرئيس السابق، وما بدا من ضعف الرقابة والتأمين لترامب، قد يدفع الحزب الجمهوري إلى توجيه المزيد من الانتقادات للإدارة الأمريكية ومدى التزامها الفعلي بتأمين ترامب.
5- زيادة الضغوط على جهاز الخدمة السرية الأمريكي: واجه جهاز الخدمة السرية الأمريكي المكلف بحماية الرؤساء والرؤساء السابقين وغيرهم من كبار الشخصيات في الولايات المتحدة، انتقادات كبيرة بعد حادثة إطلاق النار السابقة على "ترامب" في بنسلفانيا. ونتيجة تلك الضغوط، اضطرت مديرة الجهاز "كيمبرلي شيتل" إلى الاستقالة من منصبها، كما جرى وضع ما لا يقل عن خمسة من موظفي الجهاز في إجازة إدارية.
ومن شأن تكرار حوادث إطلاق النار المرتبطة بـ"ترامب" تكثيف تلك الضغوط على جهاز الخدمة السرية الأمريكي، وإثارة الشكوك في الداخل الأمريكي حول قدرته على حماية أمن "ترامب" قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ولكن من الجانب الآخر، سيعمل جهاز الخدمة السرية على تأكيد قدرات أفراده، عبر الإشارة إلى أن أحد أفراد الخدمة السرية هو من تمكَّن من رصد فوهة البندقية، وتعامل مع المشتبه به، دون حدوث أي تهديد لترامب.
6- حرص هاريس على إضعاف أي محاولات لتوظيف الحادث: تكشف ردود الأفعال على محاولة اغتيال ترامب على حرص كامالا هاريس على تقويض محاولات توظيف ترامب للحادث؛ حيث قالت المرشحة الديمقراطية' "لقد تم إطلاعي على تقارير عن إطلاق أعيرة نارية بالقرب من الرئيس السابق ترامب وعقاراته في فلوريدا، وأنا سعيدة لأنه آمن"، مضيفة: "لا مكان للعنف في الولايات المتحدة"؛ وذلك فيما وجَّه الرئيس "بايدن" جهاز الخدمة السرية بضمان أمن "ترامب".
7- تنامي القلق من العنف السياسي في الولايات المتحدة: تُسلط المحاولة الثانية لإطلاق النار على المرشح الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة خلال 3 شهور، الضوء على مخاطر العنف السياسي في الولايات المتحدة، وتُشير إلى أن بعض الآراء الترامبية التي يتم تفسيرها على أنها آراء "عنصرية" أو "متطرفة" ومناهضة للأقليات والمهاجرين في الولايات المتحدة، من شأنها إثارة غضب بعض الفئات في المجتمع الأمريكي، ودفع المتطرفين داخل تلك الفئات إلى العنف، بما يرفع معدلات العنف السياسي في الولايات المتحدة، ويهدد بردود فعل انتقامية. ولعل ذلك ما دفع جهاز الخدمة السرية إلى وصف الحالة الأمريكية الحالية بقوله إن البلاد تعيش "في أوقات خطيرة".
خلاصة القول: تدلل محاولة الاغتيال الجديدة للرئيس السابق والمرشح الجمهوري ترامب على استمرار معضلة الأمن في الداخل الأمريكي، وهي المعضلة التي ترتبط بصورة رئيسية بتركيبة المجتمع الأمريكي وانتشار الأسلحة بصورة واسعة، علاوة على تفاقم حالة الاستقطاب السياسي، التي تلعب دور المحفز على العنف ضد الخصوم، ناهيك عن دور المجموعات المتطرفة، وخطابها الراديكالي، المتصاعد في الولايات المتحدة والدول الغربية عامةً.