قرر الاتحاد الأوروبي خلال اجتماع لوزراء خارجية الدول الأعضاء في بروكسل، يوم 27 يناير الماضي، تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا منذ اندلاع الأزمة السورية في العام 2011. وتهدف هذه الخطوة إلى حض الحكومة السورية الجديدة على الشروع في عملية انتقال سياسي شاملة. وقد تم التوصل إلى توافق سياسي أوروبي على تخفيف العقوبات في قطاعي الطاقة والنقل، في حين لم يُحسم بعد ما إذا كان القطاع المالي سيُدرج ضمن هذا التخفيف فوراࣧ.
أسباب رئيسية
يستند قرار الاتحاد الأوروبي بتخفيف العقوبات عن سوريا إلى مجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية والاستراتيجية:
1- التغير السياسي في سوريا: أدى سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 إلى تغييرات جوهرية في المشهد السياسي السوري. وكان الاتحاد الأوروبي في موقف حرج بعد هذه التغييرات، حيث لم يعد بالإمكان الإبقاء على العقوبات دون إعادة النظر في جدواها وتأثيراتها، خصوصاࣧ أن السلطات الجديدة تعهدت بإجراء إصلاحات سياسية شاملة بما في ذلك احترام الحريات وحقوق الإنسان، وهو ما دفع الدول الأوروبية إلى تبني نهج أكثر مرونة لدعم هذه المرحلة الانتقالية. وفي هذا السياق، اعتبرت وزيرة الخارجية الفنلندية إلينا فالتونين أنه لدى الأوروبيين الكثير من الأمل، ولكن في الوقت نفسه يريدون تشجيع الحكومة السورية الجديدة على أن تكون شاملة في جميع قراراتها من خلال التخطيط للمستقبل.
كما أكدت المفوضة الأوروبية للمساواة حاجة لحبيب، في 17 يناير 2025، التي كانت أول ممثلة للمفوضية الأوروبية تزور سوريا بعد سقوط نظام الأسد، على رغبة الاتحاد الأوروبي في رؤية حكومة شاملة تمثل جميع مكونات المجتمع السوري بدلاً من نظام ديكتاتوري جديد. وتعكس هذه التصريحات موقف الاتحاد الأوروبي الذي يشترط أن تكون الإدارة الجديدة شاملة وتمثل جميع الأطياف لضمان نجاح المرحلة السياسية المقبلة. علاوةً على ذلك، بدأت الحكومة السورية الجديدة باتخاذ خطوات عملية لتحسين الوضع الداخلي من خلال دعوة المنظمات الدولية والإقليمية للمشاركة في جهود إعادة البناء. كما أبدت رغبتها في تطبيع العلاقات الخارجية مع الدول الغربية، مما وفر دافعاࣧ قوياࣧ للأوروبيين للنظر في رفع العقوبات كجزء من عملية دعم الانتقال السياسي. من جهة أخرى، فإن تغير القيادة السورية منح الأوروبيين فرصة لإعادة ترتيب أولوياتهم في المنطقة، بعد أن كانت السياسات السابقة تعتمد على عزل النظام السابق مما دفع نحو تبني نهج أوروبي جديد.
2- تحفيز إعادة الإعمار والاستقرار في سوريا: تهدف الخطوة الأوروبية إلى دعم جهود إعادة الإعمار؛ حيث دُمرت البنية التحتية الحيوية خلال الحرب. ويمثل رفع العقوبات فرصة لجذب الاستثمارات الأجنبية وإنعاش الاقتصاد السوري المنهك، مما يسهم في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي. وكان وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني قد أكد خلال مناقشة مع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير في منتدى دافوس في سويسرا، في 22 يناير 2025، على أن رفع العقوبات الاقتصادية هو مفتاح الاستقرار في سوريا. وقد أصبحت إعادة الإعمار ضرورة ملحة في ظل الحاجة إلى إصلاح الطرق، وإعادة تأهيل شبكات الكهرباء والمياه، وتوفير السكن للنازحين. ويرى الاتحاد الأوروبي أن تخفيف العقوبات قد يُسهم في تسهيل تدفق الموارد اللازمة لهذه المشاريع. فضلاً عن ذلك، فإن تعزيز النشاط الاقتصادي قد يقلل من الضغوط الاجتماعية، حيث ستتاح فرص عمل جديدة للمتضررين من الحرب، مما يحد من حالة الفقر المنتشرة.
يُضاف إلى ذلك أن استقرار سوريا يخدم المصالح الأوروبية، حيث إن الفوضى الاقتصادية والسياسية في البلاد قد تؤدي إلى موجة جديدة من اللاجئين إلى أوروبا، وهو سيناريو تسعى الدول الأوروبية إلى تفاديه. وعليه، فإن رفع العقوبات يشكل خطوة استباقية لدعم الاستقرار والتقليل من احتمالات حدوث أزمات إنسانية جديدة في المنطقة. وفي هذا السياق، أكدت رئيسة الدبلوماسية الأوروبية كاجا كالاس أن رفع بعض العقوبات قد يحفز الاقتصاد السوري ويساعد البلاد على النهوض مجدداࣧ، مضيفة أن الاتحاد الأوروبي سيعمل أيضاࣧ على زيادة المساعدات الإنسانية ودعم إعادة الإعمار.
3- تأثير الاعتبارات الإنسانية على القرار الأوروبي: وفقاࣧ لأرقام وكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، يعاني أكثر من 90% من السوريين من الفقر، وقد أدى الحصار الاقتصادي والعقوبات إلى تفاقم الأزمة الإنسانية. وتسعى أوروبا إلى تخفيف المعاناة من خلال السماح بتدفق المساعدات الإنسانية، ودعم القطاعات الأساسية مثل الغذاء والوقود. فالعقوبات المفروضة سابقاࣧ جعلت من الصعب استيراد السلع الأساسية، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع المعيشية للسكان.
وأدت هذه القيود إلى نقص حاد في المواد الغذائية والوقود والأدوية، وهو ما دفع العديد من المنظمات الإنسانية إلى المطالبة بإعادة النظر في هذه السياسات. ونتيجة لذلك، رأت الدول الأوروبية أن استمرار العقوبات لم يعد يؤدي إلى تحقيق أهدافه السياسية، بل أصبح عاملاً يؤثر سلباࣧ على الشعب السوري. ومع دخول سوريا في مرحلة انتقالية، فإن تخفيف العقوبات يسمح بوصول الدعم الإنساني بطريقة أكثر فاعلية، مما يُسهم في تحسين الظروف المعيشية، ويحد من معاناة المدنيين. إضافة إلى ذلك، فإن رفع العقوبات يتيح لمنظمات الإغاثة الدولية العمل بحرية أكبر في سوريا، دون الخوف من العواقب القانونية التي كانت مفروضة سابقاࣧ.
4- محاولة الحفاظ على النفوذ الأوروبي في الملف السوري: منحت الولايات المتحدة بعض الاستثناءات للعقوبات على التعاملات المالية مع الحكومة السورية الجديدة ولمدة 6 أشهر، مما دفع الاتحاد الأوروبي إلى العمل لاتخاذ خطوة مماثلة. ويسعى الأوروبيون إلى الحفاظ على نفوذهم في الملف السوري، وعدم ترك الساحة خالية أمام الولايات المتحدة وروسيا. فالموقف الأمريكي المتغير، الذي شهد تخفيفاࣧ جزئياࣧ للعقوبات، جعل الأوروبيين أمام خيار صعب: إما الاستمرار في العزلة الاقتصادية لسوريا، أو اتباع نهج أكثر مرونة يضمن لهم موطئ قدم في المستقبل السياسي والاقتصادي للبلاد. كما أن روسيا، التي كانت الداعم الرئيسي للنظام السابق، قد بدأت في تقليل تدخلها المباشر في سوريا، مما فتح الباب أمام الأوروبيين للعب دور أكثر فاعلية. في هذا السياق، يمكن تفسير رفع العقوبات الأوروبية كمحاولة لضمان دور أوروبي مؤثر في مرحلة إعادة الإعمار والتأثير في صياغة مستقبل البلاد.
5- إمكانية لعب سوريا دوراً في أمن الطاقة الأوروبي: يمثل قطاع الطاقة أحد أهم العوامل التي ساهمت في قرار الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات عن سوريا، حيث يمكن لسوريا أن تلعب دوراࣧ في سوق الطاقة الإقليمي، مما قد يساهم في تحقيق استقرار نسبي لأوروبا في هذا المجال، خاصة بعد الأزمات التي سببتها الحرب الروسية الأوكرانية. وقبل الحرب في سوريا، كانت سوريا أكبر مصدر للنفط في شرق المتوسط، لكن الصراع المستمر أدى إلى تحولها إلى مستورد للنفط، خاصة من إيران، وهو ما يغير من طبيعة دورها في معادلة الطاقة الإقليمية. كما أن إنتاج سوريا من النفط انخفض بشكل حاد، حيث كان يصل إلى 400 ألف برميل يومياࣧ قبل الحرب. وترى أوساط أوروبية أن إعادة تشغيل قطاع الطاقة السوري قد يساعد في استقرار الأسواق الإقليمية، كما يمكن لسوريا أن تصبح مجدداࣧ مورداࣧ محتملاࣧ للطاقة أو نقطة عبور للغاز والنفط بين الشرق الأوسط وأوروبا. ومع ذلك، فإن هذه الرؤية تصطدم بتحديات سياسية وأمنية، أبرزها الوضع في الشمال الشرقي للبلاد.
تداعيات ممتدة
يُتوقع أن يترك قرار الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات عن سوريا تداعيات ملحوظة:
1- تعزيز العلاقات الاقتصادية بين سوريا وأوروبا: من شأن رفع العقوبات إعادة القنوات المالية والتجارية بين سوريا والاتحاد الأوروبي، مما يسمح بعودة الاستثمارات الأوروبية ويساهم في إنعاش الاقتصاد السوري المتضرر. إن انفتاح الأسواق السورية على الشركات الأوروبية قد يوفر فرصاࣧ اقتصادية مهمة للطرفين، حيث ستتمكن الشركات الأوروبية من دخول سوق جديدة تبحث عن إعادة الإعمار والتطوير، بينما تستفيد سوريا من استثمارات تدعم قطاعي البنية التحتية والصناعة. كذلك، فإن العلاقات الاقتصادية المعززة يمكن أن تسهم في تعزيز التعاون الدبلوماسي، حيث سيجد الجانبان أرضية مشتركة للعمل على قضايا سياسية وأمنية ذات اهتمام مشترك. وفي هذا السياق، أشاد وزير الخارجية السوري أسعد حسن الشيباني بقرار الاتحاد الأوروبي الإيجابي، مؤكداً عبر منصة X أنه سيكون له تأثير إيجابي على جميع جوانب الحياة اليومية للشعب السوري.
2- إعادة تأهيل البنية التحتية في سوريا: سيتيح قرار رفع بعض العقوبات الأوروبية للحكومة السورية إعادة تشغيل المرافق الحيوية، مثل محطات الكهرباء والمواصلات، مما يساعد في تحسين مستوى المعيشة في البلاد، وبالتالي تعزيز الاستقرار الداخلي. فبعد سنوات من الحرب، تضررت معظم البنية التحتية الأساسية، مما أدى إلى انقطاع الخدمات الأساسية كالمياه والنقل والكهرباء (حيث تتلقى معظم المناطق أقل من ثلاث ساعات تغذية يومياࣧ من منشآت الدولة).
إن تخفيف العقوبات سيمكن سوريا من استيراد المعدات والمواد اللازمة لإعادة بناء شبكات الطرق والجسور والمطارات والموانئ، مما يُسهم في تحسين سبل العيش اليومي للسكان. إضافة إلى ذلك، فإن تطوير البنية التحتية يُساهم في خلق فرص اقتصادية جديدة، حيث إن تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار سيوفر فرص عمل للعمال المحليين. وعلى الرغم من أن هذا المسار يبدو واعداࣧ، إلا أن تنفيذ هذه المشاريع يتطلب إدارة فعالة وشفافة لضمان الاستفادة القصوى من الاستثمارات. ومع ذلك، لا يزال قانون قيصر الأمريكي يُشكل عائقاࣧ أمام بعض المشاريع الاستثمارية، حيث يفرض قيوداࣧ صارمة على أي تعامل اقتصادي مع الحكومة السورية، مما قد يحد من قدرة الشركات الأوروبية على الدخول في السوق السورية بشكل فاعل.
3- تزايد الانقسامات داخل أوروبا بشأن التعامل مع دمشق: واجه القرار انتقادات ملحوظة من بعض الدول الأوروبية والمنظمات الحقوقية التي تخشى من عدم التزام السلطات السورية الجديدة بالتزاماتها الإصلاحية. فهناك مخاوف من أنّ تخفيف العقوبات قد يمنح الشرعية لحكومة لم تحقق بعد تقدماࣧ كافياࣧ في مجال حقوق الإنسان والحريات السياسية. كما أن استمرار تصنيف "هيئة تحرير الشام" كمنظمة إرهابية من قبل الاتحاد الأوروبي يعقد التعاون بين الطرفين، حيث تخشى بعض الدول الأوروبية من أن يؤدي رفع العقوبات إلى تعزيز موقع الجماعات المتطرفة في سوريا، مما قد يؤثر على استقرار المنطقة.
وفي هذا السياق، صرح وزير الخارجية الفرنسي جان-نويل بارو بأن تعليق العقوبات يجب أن يرافقه انتقال سياسي يشمل جميع السوريين، بالإضافة إلى إجراءات حاسمة لمنع تنظيم داعش من إعادة تشكيل صفوفه. وتشير بعض القراءات إلى أن الاتحاد الأوروبي يربط دعمه للحكومة الجديدة بمدى قدرتها على منع إعادة انتشار التنظيمات المتشددة التي كانت فاعلة خلال السنوات الماضية. وبينما ترى بعض الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا وهولندا في هذا القرار فرصة لإعادة دمج سوريا في المنظومة الدولية، فإن دولاࣧ أوروبية أخرى كدول أوروبا الشمالية تفضل نهجاࣧ أكثر حذراࣧ، وتخشى أن يسهل هذا القرار من إعادة تمويل الإرهاب.
4- إمكانية عودة اللاجئين إلى سوريا: قد يشجع رفع العقوبات وتحسن الأوضاع الاقتصادية بعض اللاجئين السوريين على العودة إلى بلادهم. ولكن هذا يعتمد بشكل أساسي على مدى قدرة الحكومة السورية على توفير بيئة آمنة ومستقرة تضمن حقوق العائدين، وتؤمن لهم فرص العمل والسكن. فالكثير من اللاجئين يخشون العودة في ظل عدم وضوح الضمانات الأمنية أو وجود بنية تحتية كافية لاستقبالهم.
كما أن المجتمع الدولي سيراقب مدى قدرة الحكومة السورية على تنفيذ سياسات تستوعب العائدين وتوفر لهم سبل العيش الكريم. من جانب آخر، فإن العودة الطوعية للاجئين ستخفف من الأعباء التي تواجهها الدول الأوروبية المستضيفة، حيث يشكل ملف اللاجئين تحدياࣧ سياسياࣧ واقتصادياࣧ كبيراࣧ. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا السيناريو يعتمد على مدى جدية الحكومة السورية في تهيئة الظروف الملائمة للعودة الطوعية.
5- إبقاء احتمالية إعادة فرض العقوبات على دمشق: لا يعد رفع العقوبات قراراࣧ نهائياࣧ، بل هو مشروط باحترام الحكومة السورية لحقوق الإنسان وحقوق الأقليات، إضافة إلى تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية تضمن الاستقرار. وفي حال حدوث انتهاكات جسيمة أو اتخاذ قرارات تتعارض مع المعايير الأوروبية، قد يعيد الاتحاد الأوروبي فرض العقوبات، مما يضع الحكومة السورية تحت ضغط مستمر للالتزام بتعهداتها.
وفي هذا السياق، حذرت رئيسة الدبلوماسية الأوروبية كاجا كالاس من أن "الاتحاد الأوروبي يريد التحرك بسرعة، ولكن يمكن إلغاء رفع العقوبات إذا تم اتخاذ قرارات سيئة". يعكس هذا التصريح السياسة الأوروبية الحذرة التي تعتمد على نهج تدريجي، حيث يتم رفع العقوبات على مراحل مع مراقبة دقيقة لأداء الحكومة السورية.
ختاماً، يمثل قرار الاتحاد الأوروبي برفع بعض العقوبات عن سوريا خطوة استراتيجية مشروطة تهدف إلى تشجيع الانتقال السياسي في البلاد، دون أن يكون تخفيف العقوبات نهائياࣧ أو غير قابل للتراجع. وتندرج هذه الخطوة ضمن نهج أوروبي قائم على التوازن بين الانفتاح المشروط والحذر الأمني، حيث لا تزال بعض القيود قائمة، ولا سيما على الأسلحة والتكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج.