• اخر تحديث : 2025-04-16 15:04
news-details
قراءات

ما تداعيات تصاعد الصراع التجاري بين واشنطن وبكين؟


منذ تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منصبه في يناير 2025، شهد العالم تصعيداً غير مسبوق في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، لتتحول إلى واحدة من أبرز النزاعات الاقتصادية وأكثرها حدة في القرن الحادي والعشرين، وهو النزاع الذي بدأ تطوره منذ يوم 2 أبريل 2025، فيما عرف بـ "يوم التحرير"، وبلغ ذروته حين فرضت واشنطن رسوماً جمركية تراكمية وصلت إلى 145%، يوم 9 أبريل 2025، على قائمة طويلة من الواردات الصينية. في المقابل، لم تتأخر بكين في الرد، فرفعت بدورها الرسوم الجمركية التراكمية على السلع الأمريكية لتصل إلى 125%، يوم 11 أبريل، وأقدمت على توسيع قائمة الكيانات غير الموثوقة لديها، وشددت القيود المفروضة على تصدير مواد استراتيجية مثل العناصر الأرضية النادرة؛ الأمر الذي ينذر ببدء مرحلة جديدة تتسم بجرأة غير معهودة في مسار الانفصال الاقتصادي بين أكبر اقتصادين في العالم.
تصعيد تجاري
تشهد العلاقات التجارية بين الصين والولايات المتحدة واحدة من أسوأ أزماتها على الإطلاق، نتيجة الارتفاع المستمر في وتيرة فرض الرسوم الجمركية المتبادلة على الواردات من كلا الطرفين. ويمكن تلخيص أبرز ملامح هذا التصعيد على النحو الآتي:
 
1- استمرار اختلال الميزان التجاري لصالح الصين: يُصر الرئيس ترامب وأنصاره على أن هذه الحرب التجارية تمثل أداة لاستعادة التوازن في التجارة العالمية، التي يُحملها المسؤولية عن فقدان ملايين الوظائف في قطاع التصنيع الأمريكي على مدار العقود الماضية، ويؤكدون أن المتاعب الحالية، وإن بدت مؤقتة، بدأت ثمارها تظهر بالفعل من خلال ارتفاع معدلات التوظيف وزيادة تدفق الاستثمارات. بالإضافة إلى ذلك، فإنه لطالما نادى ترامب بتضرر اقتصاد بلاده نتيجة اختلال الميزان التجاري مع الصين لصالح الأخيرة؛ إذ بلغت صادرات الولايات المتحدة من السلع إلى الصين 143.5 مليار دولار، في حين وصلت وارداتها من الصين إلى 439 مليار دولار؛ ما أسفر عن عجز تجاري كبير بلغ 295.5 مليار دولار، وفقاً لبيانات مكتب الإحصاء الأمريكي عن عام 2024.
 
ومع ذلك، فإن قراءة الميزان التجاري الثنائي لا تكفي وحدها للتنبؤ بالطرف "الفائز" في هذه الحرب؛ فاليد العليا غالباً ما تكون للدولة صاحبة الفائض، كما في حالة الصين، التي تتخلى عن الإيرادات فقط، وهي بطبيعتها قابلة للتعويض، مقارنة بالولايات المتحدة، التي تخسر سلعاً وخدمات لا تُنتج محلياً أو تُنتج بتكلفة عالية. وبما أن المال أصل مرن، يمكن تعويض فقدانه عبر خفض الإنفاق، أو البحث عن أسواق جديدة، أو تقاسم الأعباء داخلياً، أو حتى من خلال السحب من المدخرات الوطنية.
 
2- فرض واشنطن تعريفات جمركية مرتفعة: تميزت الجولة الأخيرة من الحرب التجارية، التي اشتدت حدتها مجدداً في عام 2025، بعودة قوية إلى سياسات الرسوم الجمركية العقابية؛ حيث أعلن الرئيس ترامب عن حزمة جمركية جديدة تضمنت زيادة غير مسبوقة في الرسوم؛ حيث ارتفع المتوسط العام للرسوم المفروضة على السلع الصينية إلى نحو 145%، وفقاً لما أوضحه البيت الأبيض يوم 9 أبريل 2025. وكان الهدف من هذه الخطوة، وفقاً للإدارة الأمريكية، هو دفع الرئيس الصيني شي جين بينج إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، رغم إعلان بكين الواضح أنها "ستقاتل حتى النهاية".
 
هذا وقد شملت الإجراءات الأمريكية فئات استراتيجية من الواردات، منها الإلكترونيات والآلات ومكونات الطاقة الخضراء. ويستند ترامب في استراتيجيته إلى اعتقاده بأن الصين تمر بأزمة فائض في المعروض، وتحاول بشتى الطرق إنعاش اقتصادها المعتمد على التصدير، على حساب الاقتصاد الأمريكي.
 
3- رد بكين بتعريفات جمركية مماثلة: لم يكن الرد الصيني أقل حدة أو مفاجأة، بل جاء سريعاً ووفقاً لتوقعات كثير من المحللين؛ حيث أعلنت بكين عن فرض رسوم جمركية على مجموعة من السلع الأمريكية الاستراتيجية، شملت المنتجات الزراعية، والآلات الصناعية، وسلع الطاقة، لتصل إلى 125%، يوم 11 أبريل 2025، كما أقدمت وزارة التجارة الصينية على إدراج شركات أمريكية جديدة ضمن "قائمة الكيانات غير الموثوقة"، وفرضت قيوداً مشددة على تصدير معادن استراتيجية، مثل الجاليوم والجرمانيوم، اللذين يعدان من المكونات الرئيسية في صناعات أشباه الموصلات والتقنيات الدفاعية المتقدمة.
 
كما تركَّز الرد الصيني على قطاعات أمريكية حساسة سياسياً، من بينها صادرات فول الصويا، والغاز الطبيعي المسال، والسيارات؛ ما يشير إلى سعي واضح للضغط على مراكز النفوذ السياسي داخل الولايات المتحدة. ولم تكتف بكين بذلك، بل لجأت أيضاً إلى أدوات تنظيمية، مثل فتح تحقيقات لمكافحة الاحتكار، ومراجعة التراخيص للشركات الأمريكية العاملة داخل الصين، مضيفةً ست شركات أمريكية إلى قائمة الكيانات غير الموثوقة، ووسعت قائمة مراقبة الصادرات لتشمل 12 كياناً أمريكياً جديداً.
 
إضافة إلى ذلك، تمتلك الصين أدوات أخرى غير مُعلنة، يبدو أنها تتحرك على أساسها تدريجياً؛ ففي يوم 8 أبريل 2025، نشر مدونان وطنيان معروفان في الصين قائمتين متطابقتين تضمان ردوداً محتملة. ورغم امتناع وزارة الخارجية الصينية عن التعليق على هذه التقارير، فإنها لم تنفِ ما ورد فيها؛ ما أعطى مصداقية كبيرة للمحتوى. وقد شملت الاقتراحات تعليق التعاون مع واشنطن في ملف مكافحة الفنتانيل، وفتح تحقيقات في أرباح شركات أمريكية من حقوق الملكية الفكرية داخل الصين، وفرض حظر على دخول أفلام هوليوود إلى السوق الصينية.
 
4- تصعيد الخطاب المتبادل حول ضرورة التعريفات الجمركية: يتزامن التصعيد الحالي في الحرب التجارية مع تصاعد حدة الخطاب العدائي المتبادل بين واشنطن وبكين؛ ففي العاصمة الأمريكية، تُقدَّم الإجراءات الاقتصادية الأمريكية على أنها رد حتمي لمواجهة ما تعتبره الإدارة ممارسات تجارية غير عادلة من قبل الصين؛ إذ تعتبر واشنطن أن فرض الرسوم الجمركية ضرورة لحماية الصناعة الوطنية وتعزيز القدرة التنافسية للولايات المتحدة واستعادة سيادتها الاقتصادية. علاوة على ذلك، ترى إدارة ترامب أن ثمة بعداً استراتيجياً في الحد من الصعود الصيني في مجالات التكنولوجيا المتقدمة؛ إذ أصبحت قطاعات مثل شبكات الجيل الخامس، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، والسيارات الكهربائية، ساحةً مفتوحة للتنافس الجيوسياسي بين القوتين.
 
وعلى الجهة المقابلة، تُصوِّر القيادة الصينية ردودها بأنها دفاعية وضرورية لحماية الاقتصاد الوطني مما تسميه "التنمر الاقتصادي" الأمريكي؛ حيث تعرض قراراتها التجارية كإجراءات مبدئية لحماية الصعود السلمي للصين من محاولات الكبح الخارجي، كما استخدمت الحكومة الصينية خطاباً قومياً لتأطير النزاع التجاري باعتباره "مسيرة طويلة جديدة"، تتطلب من الشعب الصيني الوحدة والتضحية والصمود، في مواجهة ما يُصوَّر كعدوان اقتصادي غير مبرر من جانب الولايات المتحدة.
 
5- التداخل بين أزمة الرسوم الجمركية وصفقة "تيك توك": أصبحت قضية تطبيق "تيك توك" رمزاً للتداخل المتزايد بين الاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة في إطار الحرب التجارية الدائرة؛ إذ تعكس التطورات المرتبطة به التحول من نزاع تجاري تقليدي إلى محاولة لفك الارتباط الاقتصادي. وكانت بكين قد أوقفت المساعي الأمريكية لإجبار شركة "بايت دانس" الصينية المالكة لتطبيق "تيك توك" على بيع عملياتها داخل الولايات المتحدة لكيانات أمريكية. ولكن لا يزال مصير الصفقة معلقاً في ظل التصعيد المتبادل؛ إذ لم توافق الصين حتى الآن على الخطة الأمريكية التي تقضي بأن تحتفظ "بايت دانس" بحصة أقلية في الشركة الجديدة. ومن اللافت أن ممثلي "بايت دانس" أبلغوا البيت الأبيض في 3 أبريل 2025 أن السلطات الصينية لن تصادق على الصفقة ما لم يتم فتح باب التفاوض حول الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب.
 
6- إعفاء ترامب الواردات الإلكترونية من الرسوم الجمركية: في خطوة لاحقة، أعفى الرئيس دونالد ترامب الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر وغيرهما من الأجهزة والمكونات التقنية من الرسوم الجمركية المتبادلة، باعتبار أن الرسوم المرتفعة المرفوعة على الصين تهدد عمالقة التكنولوجيا مثل شركة "أبل"، التي تصنع هواتف آيفون ومعظم منتجاتها الأخرى في الصين.
 
وتتضمن الإرشادات أيضاً استثناءات للأجهزة والمكونات الإلكترونية الأخرى، وتشمل أشباه الموصلات، والخلايا الشمسية، وشاشات التلفزيون ذات اللوحة المسطحة، ومحركات الأقراص المحمولة، وبطاقات الذاكرة. من جانبه، أوضح نائب السكرتير الصحفي للبيت الأبيض كوش ديساي، أن هذه الإعفاءات قد جاءت لأن ترامب يريد ضمان حصول الشركات على الوقت لنقل الإنتاج إلى الولايات المتحدة، مضيفاً أن ترامب قد أوضح أن "أمريكا لا تستطيع الاعتماد على الصين في تصنيع التقنيات الحيوية مثل أشباه الموصلات والرقائق والهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة".
 
تداعيات التصعيد
من الناحية الاقتصادية، أثارت هذه المرحلة بالفعل تقلبات هائلة في الأسواق المالية؛ حيث خسرت الأسهم العالمية تريليونات من قيمتها، وأصبح انخفاض قيمة العملات، وتحولات تدفقات رأس المال، وتزايد خطر تجزئة سلسلة التوريد، هي القاعدة. ومن ثم يمكن قراءة أبرز مآلات هذا التصعيد التجاري على النحو التالي:
 
1- صدمات مباشرة للاقتصاد والأسواق العالمية: فور الإعلان عن جولة فرض الرسوم الجمركية المتبادلة بين الجانبين، حدثت اضطرابات عميقة في الأسواق المالية العالمية؛ حيث تراجعت قيمة الأسهم العالمية بمعدلات هائلة وصلت إلى تريليونات الدولارات، كما شهدت الأسواق تقلبات حادة في أسعار العملات وتغيرات كبيرة في تدفقات رؤوس الأموال، بجانب تزايد المخاوف من تفكك سلاسل الإمداد العالمية.
 
ويأتي هذه الاضطرابات مطابقة مع تحذيرات وزيرة الخزانة الأمريكية السابقة جانيت يلين، من أن انهيار العلاقات التجارية مع الصين سيكون "كارثياً"؛ تجلت فعلياً في حدوث تذبذبات حادة في مؤشرات الأسهم والسندات والسلع، قبل أن تشهد الأسواق بعض الاستقرار عقب قرار ترامب تجميد فرض رسوم إضافية على الدول التي لم ترد بالمثل لمدة 90 يوماً، كما هبطت أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها منذ أربع سنوات في 9 أبريل 2025، وسط تصاعد المخاوف من أن الحرب التجارية الممتدة ستؤدي إلى تراجع الطلب العالمي وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي.
 
وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة والصين تستحوذان مجتمعتين على نحو 43% من الاقتصاد العالمي، وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي لعام 2025، فإن أي تدهور كبير في نموهما، أو دخولهما في حالة ركود اقتصادي، سيخلِّف تداعيات واسعة النطاق تطال اقتصادات العالم بأسره، من خلال تباطؤ التجارة العالمية وتراجع الاستثمار الدولي.
 
2- تفاوت التأثير على الاقتصاد الأمريكي: أسفر فرض رسوم جمركية مرتفعة على السلع الصينية عن زيادة ملحوظة في تكاليف الاستيراد، لا سيما بالنسبة إلى السلع الوسيطة والاستهلاكية مثل الإلكترونيات، والآلات، والملابس، والأثاث، وهو ما سينتقل فوراً إلى المستهلك النهائي؛ ما سيساهم في تعزيز الضغوط التضخمية وتقليص القوة الشرائية الفعلية للمواطن الأمريكي، وهو ما يضعف بدوره من جهود مجلس الاحتياطي الفيدرالي في الحد من التضخم والسيطرة على الأسعار. وفي سياق تبريره لهذه السياسة، عبر ترامب عن استعداده لتحمل الأعباء الداخلية لتحقيق الأهداف المرجوة من الرسوم؛ إذ صرَّح قائلاً: "أحياناً، يجب تناول الدواء لإصلاح شيء ما".
 
أما على المستوى الصناعي، فمن المتوقع أن يعاني المصنعون الأمريكيون من ارتفاع تكاليف المدخلات وتعطُّل سلاسل التوريد؛ ما سيضعف من تنافسية المنتجات الأمريكية في الأسواق العالمية؛ إذ تشكل السلع الرأسمالية والوسيطة قرابة 43% من مجمل الواردات القادمة من الصين؛ ما يعني أن انقطاع تدفق هذه السلع إلى السوق الأمريكية قد يفضي إلى تباطؤ في قطاع التصنيع، بل قد يؤدي إلى خسائر وظيفية على المدى القريب، كما سيتكبد القطاع الزراعي خسائر جسيمة، خاصة منتجي فول الصويا ولحم الخنزير الذين فقدوا إمكانية الوصول إلى السوق الصينية بسبب الرسوم الانتقامية.
 
ويبدو أن العامل الأكثر حسماً في تحديد مدة استمرار رسوم ترامب الجمركية، يتمثَّل في حجم الأثر الاقتصادي الداخلي الذي تُحدثه؛ حيث توقع بنك "جي بي مورجان" أن تدخل الولايات المتحدة مرحلة ركود خلال عام 2025، في حين أعرب 92% من الاقتصاديين الذين شملهم استطلاع "بلومبرج نيوز" عن اعتقادهم أن هذه الرسوم تُعزز من احتمال حدوث تباطؤ اقتصادي كبير.
 
3- توقعات بقدرة الاقتصاد الصيني على امتصاص صدمة الرسوم: في الوقت الذي تشير فيه بعض التقديرات إلى أن الرسوم الجمركية الأمريكية قد تُلحق ضرراً ملموساً بالاقتصاد الصيني، تتباين هذه التأثيرات من حيث الحجم والشدة؛ فبحسب تقديرات "سيتي جروب"، من المرجح أن تخسر الصين ما يقرب من 2.4% من ناتجها المحلي الإجمالي هذا العام نتيجة هذه الرسوم، فيما تشير بيانات "بلومبرج إيكونوميكس" إلى إمكانية تراجع النمو السنوي بمقدار نحو 3%، لا سيما بفعل خسائر محتملة في الوظائف داخل المناطق ذات الاعتماد الكبير على التصدير.
 
ومع ذلك، تسمح طبيعة النظام الاقتصادي الصيني القائم على مركزية القرار والتحكم في المفاصل المالية، بامتصاص جزء كبير من هذه الصدمات؛ فقد سبق أن أتاحت قدرة الحكومة على إعادة توجيه الموارد وتعبئتها داخلياً، التعامل مع التداعيات بشكل أسرع وأكثر مرونة؛ ما جعل آثار الأزمة أقل حدة في المدى القصير.
 
ولمواجهة هذه التحديات، سارعت الحكومة الصينية إلى تطبيق مجموعة من السياسات التحفيزية الصارمة، شملت زيادة الإنفاق على مشروعات البنية التحتية، وتقديم تخفيضات ضريبية، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، كما روجت الدولة لنموذج "التداول المزدوج" الذي يركز على تعزيز الاستهلاك المحلي كمحرك بديل للنمو، وتقليل الاعتماد على الأسواق الخارجية. ورغم نجاح هذه السياسات في تخفيف حدة الأزمة، لا تزال معدلات النمو الاقتصادي في الصين تعاني من تباطؤ ملموس، ولا تزال ثقة المستثمرين المحليين والأجانب تعاني من التردد وعدم اليقين بسبب غموض آفاق العلاقة التجارية مع الولايات المتحدة.
 
4- إعادة تنظيم سلاسل التوريد الأوروبية: أدى التصاعد المستمر في الرسوم الجمركية بين الولايات المتحدة والصين إلى وضع الشركات الأوروبية أمام تحديات مباشرة، خاصة تلك التي تعتمد على التصنيع في الصين أو التصدير إلى الأسواق الأمريكية؛ فقد واجهت هذه الشركات زيادات ملموسة في التكاليف، واضطرابات في سلاسل التوريد؛ الأمر الذي انعكس سلباً على قطاعات حيوية، مثل صناعة السيارات الأوروبية التي تعتمد بشكل أساسي على المعادن الأرضية النادرة الصينية، أو تلك التي تراهن على استمرار نفاذها إلى السوق الأمريكية.
 
وفي ظل هذا المشهد، لا يُستبعد أن تميل بعض الدول الأوروبية نحو توثيق علاقاتها مع بكين، على الرغم من استمرار التوترات التجارية بين الجانبين. ويُعزز هذا الاحتمال تزامن احتدام النزاع التجاري العالمي مع زيارة رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز إلى الصين، ليكون بذلك أول زعيم أوروبي يقوم بهذه الخطوة عقب فرض الرئيس ترامب حزمة واسعة من الرسوم الجمركية على شركاء واشنطن التجاريين، وعلى رأسهم الصين والاتحاد الأوروبي. وقد عبر سانشيز خلال زيارته عن قناعته بأن السياسات التجارية التي ينتهجها ترامب ينبغي أن تدفع أوروبا إلى البحث عن شركاء جدد وأسواق بديلة، وهو ما يستدعي بالضرورة إعادة تقييم مواقفها تجاه الصين.
 
ومع ذلك، فإن استبدال تفاهمات تجارية بديلة مكانَ السوق الأمريكية يظل معقداً؛ نظراً إلى ضخامة حجم السوق الأمريكية، التي تُقدَّر قيمتها بـ18.8 تريليون دولار في عام 2024 بحسب بيانات البنك الدولي، بينما يأتي الاتحاد الأوروبي في المرتبة الثانية بنحو 10 تريليونات دولار، تليه الصين بقيمة 7 تريليونات دولار.
 
5- التأثير على مكانة الولايات المتحدة دولياً: بالنسبة إلى الرئيس الصيني شي جين بينج، يبدو أن الضرر الذي ألحقته سياسات ترامب بالولايات المتحدة يشكل فرصة استراتيجية لتعزيز النفوذ الصيني عالمياً؛ ففي الوقت الذي تبدو فيه واشنطن أقل التزاماً بالنظام الدولي القائم على القواعد الذي ساهمت في تأسيسه، تحاول بكين طرح نفسها كبديل أكثر اتزاناً ووداً في العلاقات التجارية والاستثمارية، خصوصاً مع الدول التي تمثل 85% من الاقتصاد العالمي خارج النطاق الأمريكي، وهذا من شأنه أن يُقرِّب الحلم الصيني بتجاوز الولايات المتحدة كقوة اقتصادية مهيمنة عالمياً.
 
6- إمكانية توجه الطرفين إلى إجراء مفاوضات تجارية: رغم محاولة ترامب الضغط على بكين للجلوس إلى طاولة المفاوضات، فإن المعطيات الراهنة تشير إلى أن هذه الحرب التجارية قد تنتهي بتراجع كبير في حجم التجارة الثنائية بين أكبر اقتصادين عالميين؛ نظراً إلى غياب اتفاق واضح بين الطرفين حول شروط بدء التفاوض؛ فبينما يتطلب البروتوكول السياسي للحزب الشيوعي الصيني تمهيداً على مستويات أدنى قبل أن ينخرط الرئيس شي في محادثات مباشرة، يُفضِّل ترامب إبرام الصفقات شخصياً وبشكل مباشر مع نظرائه.
 
وتجدر الإشارة إلى أن لدى كلا البلدين حوافز هائلة للتوصل إلى اتفاق من شأنه على الأقل تهدئة الحرب التجارية؛ فبينما تقول وزارة التجارة الصينية إنها منفتحة على "الحوار والتشاور"، يقول ترامب إنه يريد مناقشة اتفاق مع شي، واصفاً نظيره الصيني بأنه "رجل ذكي"، ويريد عقد صفقة لكنه لا يعرف كيف، على حد تعبيره.
 
من ناحية أخرى، تكشف تقديرات بنك "جولدمان ساكس" أن نحو 36% من الواردات الأمريكية من الصين يصعب استبدال موردين بديلين مكانها، حتى في ظل فرض رسوم جمركية مرتفعة؛ ما يعني محدودية قدرة الولايات المتحدة على التحرر الفوري من الاعتماد على السوق الصينية. أما في الحالة الصينية، فإن الاعتماد على السوق الأمريكية أقل بكثير؛ إذ تشكل 10% فقط من وارداتها، وهو ما يفسر تردد القيادة الصينية في تقديم تنازلات مستعجلة أو الخضوع لمطالب ترامب التفاوضية.
 
7- تعزيز مرونة التحركات الاقتصادية الصينية: في خطوة محسوبة، سمح البنك المركزي الصيني يوم 8 أبريل 2025 بانخفاض قيمة اليوان أمام الدولار الأمريكي، وهو ما يمكن أن يقلص من أثر الرسوم الجمركية الأمريكية على الصادرات الصينية؛ إذ يسمح هذا الانخفاض بخفض أسعار المنتجات الصينية بالدولار؛ ما يُعزز تنافسيتها في الأسواق العالمية. ومع ذلك، يحذِّر خبراء الاقتصاد من أن هذه الاستراتيجية تحمل مخاطر، أبرزها احتمال هروب رؤوس الأموال من الصين نتيجة تراجع الثقة بالعملة المحلية.
 
وفي موازاة ذلك، تمتلك بكين أسواقاً متنوعة وواسعة لتوجيه صادراتها إذا أُغلق الباب الأمريكي إغلاقاً شبه كلي. ويعود ذلك إلى الاستراتيجية المسبقة التي انتهجتها لتعزيز شراكاتها التجارية، سواء مع الاتحاد الأوروبي أو رابطة دول جنوب شرق آسيا أو الاتحاد الأفريقي أو أمريكا اللاتينية، وهي سياسة مشابهة لما تبنته خلال المرحلة الأولى من الحرب التجارية مع واشنطن في 2018 و2019، كما تواصل بكين توسيع نفوذها الاقتصادي الخارجي عبر مبادرة الحزام والطريق، من خلال الاستثمار في البنية التحتية، وتعزيز الاتصال الرقمي، وتوفير التمويل.
 
8- احتمالية استغلال دول ترانزيت لتصدير المنتجات الصينية إلى الولايات المتحدة: بما أن الولايات المتحدة تفرض الآن رسوماً جمركية بنسبة 145% - في المتوسط - على جميع الواردات من الصين، و10% فقط على البضائع الواردة من العديد من الدول الأخرى، فإن هناك حافزاً هائلاً للمنتجين الصينيين يمكن استغلاله من أجل التهرب من الرسوم الجمركية؛ وذلك عن طريق شحن البضائع عبر دولة ثالثة؛ الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض حاد في قيمة الرسوم الجمركية التي يعتمد عليها ترامب لتمويل أجندته.
 
خلاصة القول: تحولت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين من نزاع اقتصادي ثنائي يتمحور حول الرسوم الجمركية واختلال ميزان التجارة، إلى مواجهة استراتيجية شاملة ذات تداعيات متزايدة على النظام الدولي. ومع استمرار الطرفين في تبني مواقف متصلبة، تتعمق الأضرار التي تنال الاقتصادَين الأمريكي والصيني، ولن تنال هذين الاقتصادين فقط، بل تمتد أيضاً إلى البنى المؤسسية للنظام التجاري العالمي؛ حيث إن الاتجاه الراهن لا يعكس مجرد تصعيد في التنافس الاقتصادي بين القوتين، بل إمكانية حدوث انفصال ممنهج قد يفضي إلى تراجع أسس النظام التجاري الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية.