• اخر تحديث : 2025-11-14 13:07
news-details
قراءات

على مدى عقود، شكّل نظام عدم الانتشار النووي إطاراً محورياً في هندسة الأمن الدولي، وهذا الإطار يستند إلى ثلاثة أركان مترابطة هي: حظر انتشار الأسلحة النووية، والتزام الدول النووية بالسعي نحو نزع السلاح، وضمان استخدام التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية تحت رقابة دولية. ويدعم هذا النظام بعض المعاهدات الدولية مثل: معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية أو معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT)، ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (CTBT). 
 
ومع ذلك، فإن فعالية نظام عدم الانتشار النووي ترتبط بشكل مباشر بمدى التزام القوى النووية الكبرى بالأعراف والقيود التي أقرتها، والالتزام بمعايير الشفافية والمصداقية أمام بقية المجتمع الدولي؛ لذا فإن إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في أواخر أكتوبر 2025، عن قرار إعادة اختبارات الأسلحة النووية من جانب الولايات المتحدة يُشكل تحدياً جوهرياً لهذا النظام؛ إذ إن العودة إلى التجارب أو حتى التهديد بها أو الإعلان عنها، تحمل دلالات استراتيجية وسياسية، حيث تأتي في سياق تحديث منظومة التسلح الروسي الصيني، وتصاعد المنافسة النووية؛ مما قد يُضعف بذلك الأعراف التي قامت عليها معاهدات منع الانتشار، ويثير احتمال ردود أفعال من الدول الأخرى، سواء من الدول النووية أم غيرها. ولعل هذا من شأنه أن يؤدي إلى العودة لسباق تسلح نووي جديد.
 
ومن هذا المنطلق، فإن النظام الدولي لمنع الانتشار النووي يقف عند مفترق حرج؛ إذ إن استمرار القوى الكبرى في الامتثال لالتزاماتها (بما فيها الالتزام الضمني بوقف التجارب الانفجارية) يُمثل خياراً يرسخ الاستقرار الدولي والشرعية المؤسساتية. بينما قد يؤدي أي تراجع أو تغير مؤسسي أو في السياسات العامة إلى المساس بصلابة هذا النظام من خلال العودة إلى تنافس نووي أكثر حدة، والتحول إلى سيناريو يتضمن تآكل الأعراف وازدياد التجارب أو الأنشطة النووية، وتفريغ الاتفاقيات القانونية الدولية من مضمونها.
 
الآثار والتحديات:
 
بينما نفت الصين اختبار أسلحة نووية بعدما اتهمها الرئيس ترامب بإجراء تجارب تحت الأرض دون الإعلان عنها، أمر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بإعداد مقترحات مضادة لاستئناف التجارب الروسية؛ إذا مضت واشنطن قُدماً في خطتها.
 
وهكذا يطرح أمر ترامب وزارة الحرب "البنتاغون" باستئناف تجارب الأسلحة النووية الأمريكية فوراً، وردود الفعل على ذلك؛ العديد من الآثار والتحديات، كالتالي:
 
1- تآكل مصداقية النظام الدولي لمنع الانتشار: يُشكل قرار الولايات المتحدة استئناف التجارب النووية ضربة قاسية لأسس النظام الدولي لمنع الانتشار الذي يقوم على أعراف عدم التجريب منذ أكثر من ثلاثة عقود، فالاتفاقيات الدولية مثل معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (CTBT) كانت تُعد حجر الزاوية في الحد من سباق التسلح النووي، حتى وإن لم تدخل حيز التنفيذ رسمياً؛ إذ أسهمت في ترسيخ قاعدة سلوكية مفادها أن أي تجربة نووية تُعد تجاوزاً لخط أحمر سياسي وأخلاقي. 
 
ومن ثم، فإن إقدام واشنطن على كسر هذا التوافق التاريخي لا يضعف مكانتها القيادية فقط في النظام الدولي؛ بل يقوض مصداقية المعايير التي طالما دافعت عنها، فالمجتمع الدولي - ولا سيّما الدول غير النووية- يعتمد على نموذج "القدوة النووية" الذي تُظهر فيه القوى الكبرى التزاماً طوعياً مقابل التزام الآخرين بعدم السعي لامتلاك السلاح النووي. وبالتالي، فإن التراجع الأمريكي يُعيد طرح تساؤلات حول عدالة النظام وعدم توازنه. وقد يؤدي هذا التآكل في الثقة على المدى البعيد، إلى تفكك تدريجي للهيكل القيمي الذي قام عليه نظام الحد من الانتشار النووي. فغياب الالتزام الرمزي من جانب الدول النووية الكبرى قد يفضي إلى تطبيع التجارب النووية مجدداً؛ مما سيُضعف المصداقية القانونية والسياسية للنظام القائم برمته.
 
2- عودة سباق التسلح النووي بين القوى الكبرى: يُعد استئناف التجارب النووية في هذا السياق جزءاً من سباق جديد على التفوق التكنولوجي بين الولايات المتحدة وروسيا والصين؛ إذ تتخذ كل من موسكو وبكين القرار الأمريكي ذريعة لتطوير أنظمة أكثر تقدماً، بما في ذلك الأسلحة فرط الصوتية والقدرات النووية الصغيرة منخفضة القوة، بحجة تحقيق التوازن الاستراتيجي. ويُعيد هذا الاتجاه إلى الأذهان ديناميات الحرب الباردة، حين قادت الدورات المتعاقبة من التجارب إلى تصعيد غير منضبط في القدرات النووية، إلا أن السياق الحالي أكثر تعقيداً بسبب دخول الفضاء والفضاء السيبراني كمجالات جديدة للتنافس العسكري؛ ما يضاعف المخاطر ويجعل التحكم في التصعيد أمراً شبه مستحيل. 
 
لذلك، فإن عودة سباق التسلح النووي لا تُهدد فقط الأمن الاستراتيجي العالمي؛ بل تُضعف أيضاً الحوافز الدبلوماسية نحو نزع السلاح، فكل جولة جديدة من الاختبارات أو التحديثات العسكرية تزيد من صعوبة إقناع الدول الأخرى بجدوى الالتزامات القانونية؛ مما ينعكس بالسلب على الأمن الدولي.
 
3- ضعف آليات الرقابة الدولية: تضع التحولات في سلوك القوى الكبرى، منظومة الرقابة الدولية أمام تحديات مؤسسية وعملياتية غير مسبوقة. فمع تقلص التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا ضمن اتفاقية "نيو ستارت" وتعليق تبادل البيانات، قد يتراجع الامتثال لاتفاقية الحظر الشامل للتجارب النووية، ويهمش دور منظمة الحظر الشامل للتجارب النووية؛ مما يجعل من الصعب التأكد من الأنشطة النووية السرية، خصوصاً في ظل محدودية وصول المفتشين وصعوبة التحقق الفني من التجارب الصغيرة. 
 
ومع اتساع الفجوة بين القدرات التقنية والآليات القانونية، تصبح الرقابة الدولية مجرد إجراء شكلي. وقد يقود ذلك على المدى الطويل إلى "تسييس" أجهزة الرقابة نفسها؛ أي استخدامها كأدوات للضغط بدلاً من كونها ضمانات أساسية للأمن الجماعي. وهنا تبرز الحاجة إلى إعادة صياغة نموذج رقابي أكثر استقلالاً، يعتمد على الذكاء الاصطناعي والمراقبة الفضائية؛ لضمان الاستمرار في الكشف المبكر عن الأنشطة النووية غير المصرح بها.
 
4- تزايد الضغوط على الدول غير النووية: يخلق تراجع القوى النووية الكبرى عن التزاماتها حالة من الازدواجية في النظام؛ حيث تظل الدول النووية متمسكة بترساناتها في الوقت الذي تُطالب فيه الآخرين بالامتناع عن السعي نحو امتلاك السلاح النووي. ولعل هذا الخلل الأخلاقي والسياسي يهدد بتقويض الركيزة التعاقدية لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT) التي بُنيت على مبدأ "المعاملة بالمثل". 
 
ويمكن أن يؤدي هذا التراجع إلى إعادة التفكير في الخيارات الدفاعية في الشرق الأوسط وشبه الجزيرة الكورية وجنوب آسيا، بما في ذلك برامج التخصيب أو التسليح الخفية، فالدول الإقليمية قد تبرر مثل هذه الخطوات باعتبارها رداً على انهيار الضمانات الدولية، خاصةً إذا استُشعر أن القوى الكبرى لا تلتزم بالقيود التي تفرضها على الآخرين. وعلى المستوى البنيوي، يهدد ذلك بتفجير سلسلة من ردود الفعل النووية الإقليمية، وهو ما يُعرف في أدبيات الأمن الدولي بـ"التأثير الدوميني للانتشار"؛ وهو سيناريو بالطبع سيؤثر في أحد أهم إنجازات النظام الدولي في العقود الماضية، وهو الحد من انتشار السلاح النووي بين الدول الجديدة.
 
5- تراجع فرص نزع السلاح وتآكل فكرة "الردع المستقر": تاريخياً، ارتكز مفهوم "الردع المستقر" على امتلاك عدد محدود من الأسلحة ذات القدرة التدميرية الكافية لردع الخصم دون نية استخدامها فعلياً. غير أن الاتجاه نحو تطوير رؤوس نووية مصغرة أو "ذكية"، يزيد من احتمالات الاستخدام الفعلي، ويقلل من عتبة الردع. ويزيد استئناف التجارب النووية هذا الخطر؛ إذ يوفر المبرر لتطوير أنظمة جديدة قابلة للنشر في النزاعات المختلفة، وبذلك يتحول الردع إلى سياسة هشة يمكن أن تنهار عند أول أزمة إقليمية أو سوء تقدير استراتيجي. 
 
ومن الجدير بالذكر أنه في ظل التطور التكنولوجي المتسارع، قد يشهد العالم تحولاً في مفهوم الأمن النووي من "الاستقرار عبر الردع" إلى "الردع عبر الهيمنة التقنية"، وهو تحول خطر ينسف المبادئ التي قامت عليها الاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف منذ الحرب الباردة، ويعيدنا إلى منطق القوة الخالصة بدلاً من القانون.
 
خياران متناقضان:
 
يقف النظام الدولي لمنع الانتشار النووي اليوم أمام نقطة تحوّل تاريخية حاسمة تتجاوز مجرد أزمة سياسية ظرفية، لتمس جوهر فلسفته القانونية والأخلاقية، فالمسألة لم تعد فقط مرتبطة بقدرة المجتمع الدولي على منع انتشار الأسلحة النووية؛ بل بقدرته على الحفاظ على الإيمان بإمكانية الضبط الجماعي للسلوك الاستراتيجي للدول. فعلى مدار العقود الماضية، ترسخ في الأذهان تصور بأن ضبط التسلح والنزع التدريجي للسلاح يُمثلان وجهين للاستقرار الدولي، غير أن تصاعد النزعات القومية والتنافس بين القوى الكبرى يُهدد هذه الفلسفة، ويضع النظام أمام خيارين متناقضين تماماً، كالتالي:
 
- الخيار الأول يتمثل في إعادة إحياء التوافق الدولي حول مبادئ نزع السلاح والرقابة المتبادلة، من خلال تجديد الالتزامات القانونية وتعزيز الأُطر المؤسسية القائمة، مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA)، ومنظمة الحظر الشامل للتجارب النووية. ويتطلب هذا المسار قيادة مسؤولة من القوى النووية الكبرى، تعترف بأن الشرعية الاستراتيجية لا تُبنى على القوة الصلبة وحدها؛ بل على الثقة والشفافية والتوازن بين الردع والالتزام الأخلاقي. ومن شأن مبادرات كإحياء المحادثات الثنائية الأمريكية الروسية، أو صياغة "مدونة سلوك نووي" جديدة؛ أن تمنح النظام شرياناً جديداً للحياة وتمنع الانهيار الكامل.
 
- الخيار الثاني وهو الأكثر خطورة، فيتجسد في التحول نحو فوضى نووية مقنّعة، تُدار فيها المخاطر عبر ميزان القوة بدلاً من القواعد القانونية الدولية. وفي هذا السيناريو، قد تتحول القدرات النووية إلى أدوات تفاوضية تُستخدم لفرض النفوذ السياسي والإقليمي، فيما تتآكل فكرة "الردع المستقر" لصالح "الردع العدواني" القائم على التفوق التقني والتهديد المستمر. ولا يخفى أن ذلك سيؤدي إلى تزايد احتمالات سوء التقدير الاستراتيجي أو الاستخدام العرضي، خاصةً مع دخول الذكاء الاصطناعي وأنظمة القيادة الذاتية في بيئة القرار العسكري النووي.
 
وغني عن البيان أنه في ظل هذا الانقسام، يُتوقع أن يتخذ النظام منحى مزدوج المسار؛ حيث تواصل بعض الدول الكبرى التزاماتها التقليدية ضمن المنتديات الدولية، فيما تسعى دول أخرى إلى بناء ترتيبات ردع منفردة أو إقليمية. وهذا الازدواج النووي سيُضعف فكرة الأمن الجماعي التي بُنيت عليها معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، ويُحول العلاقات النووية إلى شبكة من التحالفات المؤقتة والمعاهدات الجزئية التي تستند إلى مبدأ المنفعة الآنية لا المصلحة المشتركة طويلة الأمد.
 
لهذا، فإن مستقبل النظام سيعتمد برمته على قدرة المجتمع الدولي على استعادة التوازن بين الردع والمسؤولية، فإما أن تعود القوى الكبرى إلى طاولة الحوار لإعادة صياغة عقد نووي عالمي جديد يربط بين التكنولوجيا، والشفافية، والأمن الإنساني؛ أو أن يدخل العالم عصراً من الفوضى النووية المقنّعة التي تُدار فيها المخاطر بالعسكرة والمفاجأة لا بالحكمة والتعاون. 
 
أخطر اختبار:
 
في ضوء التحولات الراهنة، يبدو أن النظام الدولي لمنع الانتشار النووي يواجه أخطر اختبار منذ نهاية الحرب الباردة، فقرار استئناف التجارب النووية لا يهدد فقط الأعراف القانونية التي تشكلت على مدى نصف قرن؛ بل يُعيد صياغة مفهوم الردع ذاته في سياق تتراجع فيه الثقة بين القوى الكبرى، وتتزايد فيه النزعات الأحادية في استخدام التكنولوجيا النووية والعسكرية. وإذا استمر هذا المسار، فإن النظام القائم على التعاون والالتزام الجماعي قد يتحول إلى نظام تنافسي تقوده حسابات القوة، لا التوافق؛ ما يعني تآكلاً تدريجياً لآليات الضبط الدولي وتوسع دوائر المخاطر الجيوسياسية.
 
ومع ذلك، فإن الطريق نحو الاستقرار لا يزال مفتوحاً إذا استطاعت القوى الكبرى إدراك أن شرعيتها النووية لا تُستمد من امتلاك السلاح؛ بل من مسؤولية استخدامه وضبطه. لذلك، فإن تجديد الالتزام بمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، واستئناف الحوار الأمريكي الروسي الصيني حول نزع السلاح؛ يُمثلان حجر الزاوية في إعادة بناء الثقة بالنظام الدولي، فاستعادة روح التعاون في هذا الملف الحيوي تصبح ضرورة أساسية للحفاظ على استقرار العلاقات الدولية، ولمنع انزلاق المجتمع الدولي إلى فوضى جديدة قد تعصف بقواعده ومؤسساته.