الحسابات الإسرائيلية ومعطيات السياق الراهن
تفرض معطيات السياق الراهن لبيئة تطبيق خطة إيقاف الحرب في قطاع غزة، التي تم توقيعها في أكتوبر الماضي، وأقرّها مجلس الأمن من خلال مشروع القرار الأمريكي في 17 نوفمبر الجاري، جملة من التحديات التي لا ترتبط فقط بالصعوبات الكامنة في آليات تنفيذ بنود الخطة خاصة تلك المرتبطة بالمراحل التالية للمرحلة الأولى، وإنما تمتد لتشمل سياقات متعددة يأتي في مقدمتها سياق الداخل الإسرائيلي وتحدياته التي تؤثر بدورها على حسابات الحكومة الإسرائيلية وتجاوبها لاستكمال باقي مراحل الخطة.
يواجه الائتلاف الحكومي الإسرائيلي ضغوطًا متزايدة بشأن عدد من الملفات التي عادت لصدارة أجندته السياسية، والتي كان يعتمد في تأجيلها وتعزيز هامش الحركة للتعامل معها على حالة الحرب المستمرة في القطاع. بيد أنه مع خفوت ضجيج الحرب -والذي كان له تأثيره الإيجابي بالنسبة للحكومة في بعض الملفات ومنها تراجع حدة الاستقطاب المجتمعي والسياسي بشأن قضية الأسرى- تصاعد هذا الضجيج في ملفات داخلية أخرى ارتبطت بحالة الاستقطاب الناشئة بشأن مسألة تشكيل لجنة للتحقيق في أحداث السابع من أكتوبر، وكذلك تلك المتعلقة بملف قانون تجنيد الحريديم، الذي يسعى شركاء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من الأحزاب الحريدية لفرض مزيد من الضغوط لتمرير قانون يعفي الشباب الحريديم من التجنيد مع الحفاظ على امتيازات الدعم المادي الذي يتلقوه، وهو ما يقابل بالاعتراض سواء من جانب بعض مسئولي المؤسسة العسكرية، أو المؤسسة القضائية أو المعارضة، بالإضافة إلى رفض قطاع كبير من الشارع الإسرائيلي لأية تشريعات من شأنها إعفاء معظم الجمهور الأرثوذكسي المتطرف (الحريديم) من الخدمة العسكرية، حيث عبر أغلبية الجمهور (68%) عن معارضتهم لهذا التشريع وفقًا لنتائج استطلاع الرأي الذي أجراه معهد دراسات الأمن القومي، خلال الفترة من 9 إلى 13 أكتوبر الماضي.
يزيد من هذه الضغوط الهشاشة التي يعانيها الائتلاف الحكومي الذي أصبح يفتقد للأغلبية المطلوبة في ضوء الانسحابات الأخيرة للأحزاب الحريدية، التي ربطت عودتها بتمرير قانون لإعفاء الشباب الحريديم من التجنيد، وأدت هذه الانسحابات بدورها إلى زيادة الضغوط ضد نتنياهو من جانب الأحزاب الحريدية، وكذلك الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة الباقين في الائتلاف على غرار حزب "عوتسما يهودت" وحزب "الصهيونية الدينية"، وينعكس ذلك في ابتزاز قادة هذه الأحزاب لنتنياهو ومساومته من أجل تمرير مشاريع القوانين -التي تعزز حضورهم أمام قواعدهم الانتخابية لتحسين موقعهم على خريطة استطلاعات الرأي- خاصة في ظل تكدس أجندة الكنيست بمشاريع القوانين من الدورة السابقة، والتي أصيب فيها الائتلاف بالشلل أيضًا لعدم وجود أغلبية في الكنيست.
وفي الوقت الراهن، يبدو أن نتنياهو اختار الانحياز لصف الأحزاب الحريدية من أجل تعزيز تماسك الائتلاف وإنقاذه من حالة الشلل المرتبطة بتمرير التشريعات، وهو ما انعكس في الإعلان عن مسودة جديدة لمشروع القانون تعزز الاستمرار في منح الإعفاءات من الخدمة العسكرية لطلاب المدارس الدينية بدوام كامل، بينما تعمل ظاهريًا على زيادة التجنيد الإجباري بين خريجي المؤسسات التعليمية الحريدية. وحتى الآن من غير الواضح ما إذا كان سيتم تمرير هذا القانون بالقراءتين الثانية والثالثة، وإن كان من الناحية الشكلية يمكن تمريره في حال توافقت كتلة أحزاب الائتلاف لتمتعها بالأغلبية المطلوبة، إلا أنه لا يلغ حالة الاستقطاب والانقسام الناشئة حوله في الوقت الراهن، وكذلك الصدام المحتمل مع المحكمة العليا.
يترافق مع هذه التحديات السياقية المرتبطة بالداخل الإسرائيلي، تحديات أخرى على مستوى الضغوط الدولية، المتوقع أن تتزايد ضد الحكومة الإسرائيلية نتيجة مماطلتها في تنفيذ التزاماتها بشأن الانتقال للمرحلة الثانية من خطة إيقاف الحرب، خاصة في ظل تصاعد مؤشرات احتمالية استئناف الأعمال العسكرية، ارتباطًا ببعض التعقيدات الميدانية، ورفض الجانب الإسرائيلي إبداء المرونة بشأن خروج عناصر حركة حماس العالقين في منطقة رفح في إطار أية صفقات، بينما أشارت التقارير إلى إبداءها المرونة فقط على خروجهم عبر الاستسلام ونقلهم إلى السجون الإسرائيلية، وهو ما ترفضه حركة حماس، ويترتب على ذلك تصاعد التوترات نتيجة استهداف القوات الإسرائيلية للمقاتلين في حال خروجهم من الأنفاق. هذا فضلاً عن التعقيدات المرتبطة بالملفات الشائكة في المرحلة الثانية الخاصة بنزع سلاح المقاومة، وتشكيل القوة الدولية المؤقتة، بالإضافة إلى تمسك تل أبيب باستلام جميع جثث الرهائن -رغم أن الحديث يدور حول رفات آسيرين-على نحو يعرقل البدء في مفاوضات المرحلة الثانية، وكذلك تُثار الشكوك حول عزم تل أبيب المضي قدمًا في تلك المرحلة التي ستلزمها بموجب بنود الخطة باستكمال انسحابها التدريجي من باقي الأراضي التي تحتلها داخل القطاع، حيث تؤكد على ضرورة نزع سلاح المقاومة قبل ذلك، فضلاً عن تحفظها على مشاركة بعض الدول في القوة المقترحة. ورغم أن قرار مجلس الأمن الذي اعتمد خطة إيقاف الحرب، نظّم المسألة في إطار أقرب للرؤية الاسرائيلية، حيث ربط عملية انسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع بمعايير وأطر زمنية مرتبطة بنزع السلاح، يتم الاتفاق عليها بين الجيش الإسرائيلي والقوة الدولية والجهات الضامنة والولايات المتحدة، وهو ما رحبت به تل أبيب بحذر عبر بيان أصدره مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي باللغة الإنجليزية وليس العبرية، خشية ردة فعل شركاءه في الائتلاف -خاصة في ظل بيانات قادة المعارضة التي زايدوا فيها على موقفه من الخطة- إلا أن الحكومة الإسرائيلية لا تزال متأرجحة في موقفها لدفع المفاوضات للانتقال للمرحلة الثانية.
أيضًا، يتكامل مع هذا الضغط المحتمل نتيجة المرواغة الإسرائيلية، احتمال تصاعد التوتر بين تل أبيب وواشنطن نتيجة رغبة الأخيرة في تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار الذي حققته كإنجاز لها، ولحاجتها لتسريع وتيرة الصفقات الإقليمية التي تستهدف من خلالها تأسيس بنية تحتية إقليمية جديدة لضمان استمرار هيمنتها في المنطقة في مواجهة القوى الصاعدة.
مسارات التحرك الإسرائيلي وحدود التأثير
ارتباطًا بالمعطيات السابقة، وكذلك التطورات المتلاحقة في الوقت الراهن حول الانتهاكات الإسرائيلية لالتزامها بوقف إطلاق النار، وتصاعد الحديث حول احتمال استئناف العمليات العسكرية، فإنه يمكن رصد بعض المسارات التي تتحرك من خلالها الحكومة الإسرائيلية لإدارة هذه التعقيدات بما يجنبها ارتفاع عامل التكلفة، عبر الموازنة بين ضغوط الداخل والخارج، على نحو يساعد في تفسير سلوكها واستشراف مآلاته خلال المرحلة القادمة، وذلك عبر عدة طبقات أو مستويات للتحليل، من أبرزها:
1- المستوى الاستراتيجي ومسارات الحل النهائي للصراع: تتقيد الحكومة الإسرائيلية الراهنة في هذا المستوى بهدف القضاء على فرص إقامة دولة فلسطينية، وهو ما سيكون هدفًا تشترك فيه أيضًا الحكومات القادمة خاصة في ضوء مكتسبات الحرب الحالية التي عززت الهوى اليميني في الشارع الإسرائيلي (جمهور الناخبين) لرفض أية مسارات للسلام والتسوية مع الفلسطينيين، وهو ما تعكسه نتائج استطلاعات الرأي. وبالتالي، يعد هذا المحدد حاكمًا في توجهات الحكومات الإسرائيلية إزاء أية صيغ للتسوية والحل، وتعمل الحكومة الراهنة على مواجهة هذا التحدي عبر عدة مسارات:
- المسار الأول: الأكثر حدة والمتمثل في مخطط تهجير الفلسطينيين (لتصفية القضية مرة واحدة وللأبد)، وهنا شكّل الموقف المصري تحديًا واضحًا لإعاقة هذا المخطط، حيث تمكنت من حشد تأييد ودعم إقليمي ودولي يقف حائل أمام هذا المسار، خاصة في ضوء خطة السلام التي تم التوصل إليها.
- المسار الثاني: يتمثل في إعادة تشكيل جغرافيا القطاع للحفاظ على حالة الفوضى والانقسام، الذي يحول مستقبلاً دون توافر فرص تسلم السلطة الفلسطينية للقطاع، وهو ما سيجنب بدوره إسرائيل من مواجهة طرف واحد يمكن التفاوض معه بشأن مسارات الحل النهائي لتسوية للقضية. وفي الوقت نفسه، يحافظ هذا المسار لتل أبيب على السيطرة الأمنية وإدارة المشهد بشكل غير مباشر حتى في حال تطبيقها لباقي المراحل التي ستتطلب انسحابًا إسرائيليًا من الأراضي التي تحتلها في الوقت الراهن.
- المسار القائم في الوقت الراهن: ينصرف إلى الإبقاء على الوضع الحالي من خلال المراوغة والتأرجح في الموقف دون التقدم في مراحل الخطة، كمسار بديل لكسب الوقت، والتذرع برفض الفصائل الفلسطينية نزع السلاح، في ضوء ما يتدفق بشأن تقيد الفصائل بأن تتم عملية نزع السلاح في إطار يقود للتأسيس لدولة فلسطينية، ولعل هذا القيد انعكس في إعلان حركتي حماس والجهاد رفض قرار مجلس الأمن، وهذا بدوره يرتب تحديًا بشأن بند نزع السلاح وتشكيل قوة دولية مؤقتة، حيث حدد القرار من ضمن مهام الأخيرة العمل على نزع السلاح، وهو ما سيشكل تحديًا للدول المشاركة في هذه القوة، لما سيترتب على ذلك من صدام محتمل مع عناصر الفصائل إذا لم يؤطر عمل هذه القوة ضمن إطار سياسي يُتفق عليه مع الفصائل في إطار مفاوضات المرحلة الثانية التي لم تبدأ بعد.
- ومن ثم، يعزز تقيد الحكومة الإسرائيلية بأهداف هذا المستوى من هامش حركتها وتخفيف الضغوط الداخلية على رئيس الوزراء من جانب جناح اليمين المتطرف للأحزاب الأرثوذكسية التي أبدت اعتراضًا على الخطة لما تضمنته من بند يؤكد على احتمال تهيئة مسار موثوق يتيح للفلسطينيين تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية، إذا ما توافرت الظروف لذلك، وهو ما يؤكد نتنياهو على رفضه في تصريحاته، التي يستهدف بها مغازلة شركاءه في الائتلاف، ويتماهى مع ميول الشارع الإسرائيلي الرافض لمسارات التسوية مع الفلسطينيين، وكذلك يقطع الطريق على مزايدة المعارضة من أحزاب اليمين في حملاتها الانتخابية القادمة.
2- المستوى التكتيكي والحسابات السياسية: يتكامل هذا المستوى المعني به قادة الائتلاف الإسرائيلي، مع المستوى الاستراتيجي لتحركاتهم التي يحاولون تصديرها كغطاء لتوجهاتهم المدفوعة سياسيًا بحساباتهم الانتخابية ومرحلة ما بعد انتهاء الحرب، والتي تتزامن مع الانتخابات القادمة التي يتبقى عليها شهور معدودة. وفي هذا الإطار، ينظر المستوى السياسي الإسرائيلي إلى أن السماح بتقدم الخطة التي تم إقرارها وتنفيذ التزاماتها بالانسحاب من أراضي القطاع التي تحتلها في الوقت الراهن، سيكون له أثره المباشر على شعبية أحزاب الائتلاف بين أوساط الجمهور اليميني. وهنا تعتمد الحكومة الإسرائيلية في هذا المستوى على مسارين لإدارة الضغوط وتعزيز شرعية موقفها -بهدف كسب الوقت وترحيل الحسم لما بعد الانتخابات- وهما:
- تعزيز سردية الانتصار: تحرص الحكومة على نزع أي انتصار معنوي ممكن أن تروجه حركة حماس بشكل سيضر بشكل مباشر بالحكومة في أوساط الجمهور اليميني، ويعزز من السردية التي تتردد بأن الموافقة على خطة السلام شكل هزيمة وليس انتصارًا، لذلك يبرز تمسكها بمسألة نزع السلاح وعدم المرونة بشأن أية أمور متعلقة بالمقاتلين العالقين في رفح بل اشترطت -بحسب ما يتدفق من تقارير- استسلامهم بشكل انهزامي لتوظيف ذلك داخليًا بما يخدم سرديتها للنصر.
- استيعاب ضغوط اليمين المتطرف عبر الأجندة التشريعية: يعمل قادة الائتلاف على استيعاب الضغوط المتولدة نتيجة الموافقة على خطة السلام في الأوساط اليمينية، عبر تعزيز الأجندة التشريعية بعدد من مشروعات القوانين التي تغازل الهوى اليميني، ومنها على سبيل المثال، مشاريع قوانين تعزيز الاستيطان وضم الأراضي بالضفة الغربية، ومشروع قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين، بالإضافة إلى مشروع قانون تجنيد الحريديم، وصولًا إلى مشروع قانون تقليص صلاحيات النائب العام. ورغم كون هذه المشروعات بالقوانين من شأنها زيادة حدة الاستقطاب السياسي والمجتمعي نظرًا لعدم وجود إجماع أو توافق بشأنها خاصة تلك المرتبطة بقانون التجنيد والإصلاحات القضائية، بالإضافة إلى أن المشاريع الأخرى -وإن توافر لها الإجماع- من شأنها زيادة الضغوط الدولية ضد الحكومة الإسرائيلية. ولذلك، يُنظر إلى أن تضمين الأجندة التشريعية بهذه المشروعات يساعد في عمليات الحشد والتعبئة في أوساط اليمين المتطرف، وتجعل قادة الأحزاب اليمينية في الائتلاف أكثر اتساقًا مع أجندتها الانتخابية، والتزاماتها تجاه جمهورها، بصرف النظر عما إذا قد تم المصادقة النهائية على هذه المشروعات أم تم الاكتفاء بالمصادقة بالقراءة التمهيدية.
- أقلمة النزاع: تدفع عدد من التقديرات والتحليلات الإسرائيلية إلى ضرورة ربط الحكومة الإسرائيلية نموذج التسوية اللبناني، بنموذج التسوية في قطاع غزة، خاصة فيما يتعلق بحرية العمل العسكري داخل القطاع على غرار ما تقوم به في الداخل اللبناني، بالإضافة إلى تشديد موقفها بشأن مسألة نزع السلاح عبر إجراءاتها الخاصة، والترويج لكون نموذج التسوية في الحالتين ينبغي أن يتأسس على مسار واحد، وأن الاستثناء سيكون سابقة تضر بالموقف الإسرائيلي، والأهم الإضرار بعوامل الاستقرار والاستدامة لبنية السلام الإقليمي، ومشروعات البنية التحتية الاقتصادية التي تسعى واشنطن لتنفيذها باعتبارها ستمثل البنية التحتية الجديدة لاستمرار هيمنتها في المنطقة في مواجهة القوى الصاعدة، وهو ما يبدو أن الحكومة الإسرائيلية، تعمل على تبنيه لتخفيف الضغوط الدولية والإقليمية المحتملة بشأن انتهاكاتها بالتصعيد العسكري في القطاع والخروقات التي تقوم بها، وذلك عبر تعزيز عوامل الرفض والممانعة في المرونة مع مسارات الحل للتسوية داخل القطاع، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الشائكة للمرحلة الثانية.
يساعد في ذلك وجود مؤشرات توافق إقليمي حول وحدة هدف تحييد البنية المسلحة للتنظيمات والفواعل المسلحة دون الدولة، التي تنتمي لمحور المواجهة سواء تلك التي رعتها إيران في إطار مشروع "الهلال الشيعي" أو تلك التي رعتها تركيا وقطر في إطار مشروع "الإسلام السياسي". وارتباطًا بهذا السياق، وكذلك السردية التي تعمل تل أبيب على ترويجها تحديدًا لدى الإدارة الأمريكية لموازنة الضغوط، فقد برزت الاستجابة الأمريكية في هذا الصدد، عبر إصدارها أمرًا تنفيذيًا في 24 نوفمبر الجاري يقضي بدراسة تصنيف بعض من فروع جماعة الإخوان المسلمين كمنظمات "إرهابية أجنبية",
- تعزيز خطاب استقلالية القرار الإسرائيلي عن الإدارة الأمريكية: يعمل نتنياهو على موازنة ضغط الإدارة الأمريكية خاصة على وقع الأثر السلبي المتولد نتيجة القبول بالخطة الأمريكية لإنهاء الحرب في قطاع غزة، في أوساط الأحزاب اليمينية في الائتلاف، وكذلك جمهور الناخبين من اليمين المتطرف، وذلك عبر تعزيز خطاب استقلال القرار خاصة فيما يتعلق باعتبارات الأمن القومي، وهو ما يحاول نتنياهو تصديره في بعض المسائل الإقليمية المتعلقة بسوريا ولبنان، وكذلك التسوية داخل القطاع تجاه بعض المسائل التي لا تشكل حرجًا للإدارة الأمريكية.
ختامًا، يمكن القول إن تعقيدات السياق الراهن خاصة تلك المرتبطة بمعادلة الداخل الإسرائيلي، تدفع الحكومة الإسرائيلية نحو المماطلة في دفع المفاوضات بشأن مراحل خطة إنهاء الحرب في القطاع، لكسب مزيد من الوقت عبر تثبيت الوضع الراهن تمهيدًا لاحتمال الدعوة لانتخابات مبكرة، خاصة إذا تصاعدت أزمة قانون تجنيد الحريديم، والتي يبدو أن نتنياهو انحاز فيها لصف الأحزاب الحريدية لتعزيز تماسك الائتلاف.
ومن ثم، تركز معظم إجراءات الحكومة الإسرائيلية في الوقت الراهن على موازنة الضغوط الداخلية وتخفيفها، حيث من شأن ذلك أن يساعد في التعامل مع الضغوط الخارجية المحتملة بشأن مماطلتها في دفع المفاوضات المتعلقة بخطة إنهاء الحرب، خاصة أن هذا التطور الأخير بشأن قانون التجنيد الذي سيلعب دورًا في عودة الأحزاب الحريدية مرة أخرى للحكومة -إذا ما نجح الائتلاف في تمرير القانون- سيساعد في تأجيل خيار الانتخابات المبكرة في ظل التفاعل الإيجابي من جانب الأحزاب الحريدية مع المسودة الجديدة، كما أنه سيسهم في تخفيف ضغوط الأحزاب الصهيونية الدينية التي استغلت حالة هشاشة الائتلاف بعد انسحاب الأحزاب الحريدية لممارسة مزيد من الضغوط ضد نتنياهو بشأن موقفه من خطة إنهاء الحرب في القطاع، وكذلك المسائل الشائكة في الوقت الراهن المتعلقة بموقف المقاتلين الفلسطينيين العالقين في رفح.
وبالتالي، قد يساعد هذا الوضع في تعزيز هامش حركة نتنياهو ومرونة موقفه إزاء الضغوط الأمريكية المحتملة بشأن المسائل العالقة للمضي قدمًا في باقي مراحل الخطة، خاصة إذا ما أبدت الفصائل الفلسطينية مرونة بشأن التفاوض حول المسائل المرتبطة بنزع السلاح ونشر القوة الدولية المؤقتة، وكذلك تسليم رفات باقي جثث الرهائن، وهو ما سيضيق هامش المماطلة التي تتعمدها الحكومة الإسرائيلية وتتذرع بتعنت الفصائل. غير أن هذا سيظل مرهونًا أيضًا بالحسابات السياسية للائتلاف المرتبطة بالانتخابات القادمة التي تجعل الإبقاء على الوضع الراهن للخطة، وكذلك الواقع العملياتي والميداني في القطاع المتمثل في القيام بعمليات عسكرية نوعية دون عتبة العمليات العسكرية الواسعة، هو الخيار الأمثل للحفاظ على مستويات الدعم والتأييد لدى قواعد الناخبين في الأوساط اليمينية، إذا لم يتصاعد الضغط الخارجي من جانب الإدارة الأمريكية والشركاء الإقليميين والدوليين، على نحو يستوجب الاستجابة من الحكومة الإسرائيلية.