غزة كانت وما زالت مادلين كبرى، صغيرةٌ في الجغرافيا، لكنّها تُبحر منذ عقود في محيطٍ عالميٍّ يفيض بالغطرسة، تُقاد بعنجهية نحو مصيرٍ مجهول، وتُعامل كأنها خارج الخريطة، لا يحق لها الحياة، ولا حتى الجوع بكرامة.
ما جرى لسفينة كسر الحصار الأخيرة لم يكن مفاجئًا، فمنذ متى احترم "الكيان" القانون الدولي أو شعارات الإنسانية؟
اعتقال النشطاء وسط البحر، على مرأى من العالم، يختصر حكاية الحق حين يُجرد من كل سلاح إلا الإيمان. لكن ما هو أشد قسوة من الاعتقال نفسه، هو هذا الصمت الإسلامي والعربي الذي بات يُشبه رضا العبيد، لا سكوت الأحرار.
الخذلان في زمن الوفرة.
نحن في زمنٍ يملك فيه المسلمون قرابة 40% من ثروات العالم، يسيطرون على مواقع استراتيجية حاسمة، وتكفي إمكاناتهم الجماعية لا لرفع الحصار عن غزة فقط، بل لردع كل معتدٍ يفكر في التطاول على كرامة طفل فيها، لكنّ الحقيقة المُرّة أن مليارين من المسلمين باتوا مشلولين، لا يستطيعون – أو لا يريدون – إيصال كيس طحين، أو قافلة دواء، بينما أطفال غزة يحفرون الأرض بأظافرهم بحثًا عن رمق حياة.
هل حقًا نحن عاجزون؟ أم أننا اخترنا العجز سياسة؟
هل باتت الشعوب تُطبع على الخنوع كما تُطبع البضائع في الموانئ؟
ما معنى العروبة إن لم تكن في فم طفل يقول "جائع"؟
وما معنى الإسلام إن لم يُترجم إلى غوث الملهوف وإنقاذ الأسير وكسر قيود الحصار؟
أما الكيان الصهيوني، فهو كعادته، لا يُفاجئنا، غطرسته ليست جديدة، بل تتغذى على تواطؤ العالم وصمت الأنظمة.
يختطف سفينة إغاثة، يعتقل نشطاء سلام، يمنع الطحين، ويقصف المستشفيات، ثم يقف على منصة الأمم المتحدة متبجحًا بـ"حق الدفاع عن النفس"، أي نفسٍ هذه التي تدافع عن نفسها بقتل أطفال بلا أحذية ولا كهرباء؟
ما لا يفهمه الصهاينة، وما يتجاهله العالم، أن غزة لا تُهزم.
هي تنهك، نعم تتألم، تجوع، تُدفن أحياؤها تحت الركام، لكنّها لا تنكسر، لأنها ببساطة لا تعيش على أوكسجين الدعم الدولي، بل على شهيق الكرامة، وزفير المقاومة، حين يسقط القناع.
ما جرى في البحر لم يكن مجرد حادث، بل فضيحة أخلاقية عالمية.
سقوط آخر لأقنعة الأمم المتحدة، سقوط للضمير الأوروبي، وسقوط مريع لكل الأنظمة التي اكتفت بالتنديد الشكلي أو بلّغت أسفها إلى السفارات.
لكن السقوط الأكبر كان في عيوننا.
حين رأينا سفينةً إنسانية تُختطف، وقلنا في سرنا: "لا جديد".
حين لم نحرك جيوش التغريد، ولا حتى شاحنات القلوب، واكتفينا بالدعاء كمن يُشيّع فلسطين لا من يُقاتل لأجلها.
غزة ليست وحدها لكنها آخر من تبقّى رغم كل شيء، غزة ليست وحدها، بل هي آخر من تبقّى فينا من الحياة.
آخر النبض، وآخر المعاني، وآخر ما يثبت أننا لسنا مجرد ظلال بشر تمشي فوق الأرض.
من يراهن على استسلامها، يجهل التاريخ، ومن يظن أن البحر سيبتلعها، لم يقرأ جيدًا أن الغرقى هم من لا يملكون بوصلة.
غزة ستبقى.
لكن السؤال، هل سنبقى نحن على قيد الأخلاق؟