مقدمة:
منذ السابع من أكتوبر 2023، دخلت فلسطين والمنطقة طورًا جديدًا من المواجهة الكبرى.
لم تكن مواجهةً عسكرية فحسب، بل صدامًا بين مشروع تحرري شعبي ممتد، ومشروع هيمنة صهيوني–أميركي يسعى لإعادة تشكيل الشرق الأوسط سياسيًا وجغرافيًا.
لكن حين نقول "جردة حساب"، فنحن لا نُصدر أحكامًا حاسمة بالنصر أو الهزيمة، بل نمارس تفكيكًا موضوعيًا لأهداف الأطراف، وقراءة متزنة لما تحقق وما لم يتحقق، بعيدًا عن التهويل أو التهوين.
فهذه جولة من جولات صراع طويل لا يُحسم بلحظة ولا بخطاب.
أولًا: ماذا أرادت المقاومة الفلسطينية من "طوفان الأقصى"؟
الهدف المركزي كان كسر معادلة الردع التي شكّلت جوهر نظرية الأمن الصهيوني منذ نشأة الكيان، وترسّخت عبر الحروب المتلاحقة، لا سيما في العقدين الأخيرين. وقد تلقت هذه المعادلة ضربة استراتيجية كبرى في السابع من أكتوبر.
لكن لا بد من التأكيد أن حجم الدمار يفوق أي توصيف خطابي.
لقد خاض الاحتلال حربًا توصف قانونيًا بأنها:
-إبادة جماعية (Genocide)،
-إبادة بيئية (Ecocide)،
-تدمير معرفي ممنهج (Infocide).
فأكثر من 50 ألف شهيد، وما يزيد عن 120 ألف جريح، غالبيتهم من الأطفال والنساء.
آلاف الأطنان من الذخائر والأسلحة المحرّمة دوليًا أُلقيت على رؤوس المدنيين.
شهدنا تجويعًا قاتلًا، وإذلالًا ممنهجًا عبر توزيع المساعدات بطريقة مهينة أمام الكاميرات، وسط صمت دولي باهت ومخزٍ.
ما جرى لم يكن ردًّا عسكريًا فحسب، بل عقابًا جماعيًا وانتقامًا وجوديًا، أرادوا به كسر الإرادة أكثر من كسر السلاح.
ثانيًا: ماذا أراد محور المقاومة؟
1. حزب الله – لبنان:
-فتح جبهة إسناد متزامنة لمنع استفراد العدو بغزة، إدراكًا بأن الدور القادم عليه إذا سقطت غزة.
-فرض معادلة استنزاف دائمة، تسببت في هجرة عشرات آلاف المستوطنين من الشمال.
-جسّد عمليًا مبدأ وحدة الجبهات، رغم تعرضه لضربات مؤلمة وعمليات اغتيال، بما فيها محاولة استهداف أمينه العام وخليفته.
2. أنصار الله – اليمن:
-فتحوا جبهة بحرية أربكت الملاحة الإسرائيلية والدولية.
-فرضوا كلفة اقتصادية غير مسبوقة على إسرائيل والغرب.
-وجهوا رسالة بأن فلسطين قضية عربية–إسلامية، لا تخص الفلسطينيين وحدهم.
3. إيران:
-دعمت دون الانجرار إلى مواجهة شاملة، مما حافظ على توازن استراتيجي حساس.
-امتصت الضربات الإسرائيلية والأمريكية، ورغم فداحتها (اغتيال قيادات وعلماء، وتدمير مواقع حساسة)، لم تنكفئ، ولم توقف مشروعها النووي، بل ووفق تقديرات مراقبين، احتوت الضربات دون تغيير استراتيجي في تموضعها أو نفوذها.
ثالثًا: ماذا أراد الكيان الإسرائيلي؟
-تحطيم "حماس" عسكريًا وشعبيًا.
-تكريس الانقسام الفلسطيني أفقيًا وعموديًا بشكل نهائي.
استعادة الردع بسرعة وبأقل كلفة.
-إعادة تسويق نفسه كشريك أمني لا غنى عنه.
لكن الواقع جاء مغايرًا:
-المقاومة لم ترفع الراية البيضاء، ولم تُجتث بنيتها أو سلاحها.
-الردع سقط سياسيًا وعسكريًا.
-المجتمع الإسرائيلي يعيش حالة تفكك داخلي غير مسبوقة، وأزمة قيادة وثقة ومصير.
وفي ذروة العدوان، قَبِلت حماس بـ صيغة اللجنة الإدارية المؤقتة لإدارة شؤون غزة لحين ترتيب البيت الفلسطيني.
لكن المنظمة والسلطة – بمنطق "الوصي الشرعي" أمام العرب والغرب – رفضت الصيغة وأصرت على إخراج حماس من المشهد بالكامل، في موقف يظهر ثقافة إقصائية عقيمة تُعرقل أي أفق للوحدة الوطنية رغم خطورة المرحلة.
رابعًا: ماذا أرادت أميركا؟
-احتواء الصراع ومنع تمدده إقليميًا.
-دعم إسرائيل دون التورط في مواجهة مباشرة.
-استعراض الهيبة العسكرية عبر ضربات دقيقة، خصوصًا ضد إيران.
لكن:
-غاصت واشنطن في مستنقع الدعم دون نتائج حاسمة.
-تآكلت صورتها كوسيط أو قوة عظمى عادلة.
-قواعدها العسكرية تعرضت لهجمات متتالية من العراق إلى البحر الأحمر.
-فشلت في إخماد أي من الجبهات المفتوحة.
وفي عملية مركبة، نفّذت أمريكا ضربات مركزة على ثلاثة مواقع نووية إيرانية، وسُوّق إعلاميًا كأنها أنهت البرنامج النووي.
نتنياهو انتشى واعتبرها إنجازًا شخصيًا، مروّجًا لفكرة أنه مهّد الطريق لأميركا كي تضرب، فـ"خلّص المنطقة من شرّ إيران"، واستعاد الدور والمكانة.
بل الآن، وبدعوى هذا الإنجاز، يستطيع الخروج من غزة باتفاق سريع دون معارضة حقيقية، بل وقد ساعده ما حصل في حفظ تماسك الحكومة، وربما تُخفف عنه الملاحقة القضائية.
وتقديري أنه لن يُحل الكنيست في المدى المنظور.
خامسًا: التيارات الفكرية المتقابلة
الصراع ليس على الهوية، بل على المنهج.
تيار المقاومة:
-يرى ما جرى ضرورة تاريخية أعادت الاعتبار للقضية وكشفت زيف الاحتلال.
تيار الواقعية السياسية:
يرى ما حدث مغامرة باهظة، ويفضّل المسارات السياسية حتى لو كانت دون عدالة.
الحقيقة:
-لا أحد ربح كل شيء، ولا أحد خسر كل شيء.
-الجولة كانت win–win مؤقتة، مشروطة بنَفَس طويل واستدامة الإرادة.
سادسًا:
-الخلاصة – لا تهويل ولا تهوين
-المقاومة لم تُحقق نصرًا نهائيًا.
-الكيان لم يتلقَّ هزيمة ساحقة.
لكن:
-مشروع “الشرق الأوسط الجديد” سقط أخلاقيًا واستراتيجيًا.
-الردع الإسرائيلي تآكل.
-محور المقاومة تجذّر ميدانيًا وشعبيًا.
-القضية استعادت نبضها وشرعيتها في الوعي العالمي.
خاتمة:
-جردة الحساب ليست إعلان نهاية، بل دعوة لفهم أعمق.
-هذا صراع ممتد، لا يغيّره بيان، ولا يختصره خبر.
-هو طريق مرير من الدم والتضحيات، لا ينتهي إلا حين يُحقّ الحق ويُبطل الباطل.
وهذه سنّة الله في أرضه… وسنن التاريخ لا ترحم من يجهلها.