في مشهد سياسي يعكس استمرار تحولات خارطة النفوذ الدولي في منطقة غرب أفريقيا، وانحسار النفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية، أعلنت باريس في 17 يوليو 2025، إنهاء وجودها العسكري في السنغال في إطار توافقي بين البلدين، وذلك عبر تسليم معسكر "جيلي"، وهو أكبر موقع عسكري فرنسي في البلاد، والقاعدة الجوية في مطار داكار، إلى السلطات السنغالية، وذلك خلال حفل رسمي بحضور رئيس أركان القوات المسلحة السنغالية الجنرال "مباي سيسيه"، ورئيس قيادة الجيش الفرنسي في أفريقيا الجنرال "باسكال ياني"، وذلك بعد انسحابات فرنسية متتالية من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد، وهو ما يُثير تساؤلات حول دوافع ودلالات هذه الخطوة، إضافةً إلى تداعياتها المحتملة على خارطة النفوذ في منطقة غرب أفريقيا، ومستقبل الشراكة بين باريس وداكار.
دوافع متبادلة
ثمة جملة من الدوافع والدلالات التي تفسر عملية الانسحاب الفرنسي من السنغال، وترتبط بالجانبين الفرنسي والسنغالي، ويمكن بيانها على النحو التالي:
1- تغيُّر توجهات العقيدة الدفاعية السنغالية: جاء الانسحاب الفرنسي العسكري الكامل من السنغال في إطار تحول العقيدة الدفاعية السنغالية نحو الاعتماد على الذات، مع بروز نخبة سياسية وعسكرية جديدة تستهدف تعزيز القدرات الدفاعية الوطنية، وتقليل الاعتماد على الخارج، وخاصةً القوات العسكرية الفرنسية، وهو النهج الذي يدفع القوات المسلحة السنغالية إلى تعزيز قدراتها الدفاعية لتعزيز الردع العسكري بالاعتماد على القدرات الوطنية.
2- سعي الرئيس السنغالي إلى تنفيذ وعوده الانتخابية: ترتبط عملية الانسحاب الفرنسي من السنغال ارتباطاً وثيقاً بتولي الرئيس السنغالي "باسيرو ديوماي فاي" مقاليد الحكم، في أبريل 2024م، حيث تطلّع "فاي" إلى إنهاء الوجود العسكري الأجنبي في البلاد، وهو ما برز بوضوح في وعوده الانتخابية التي تعهد خلالها بإنهاء الوجود العسكري الأجنبي في السنغال بحلول عام 2025م، وهو ما دفعه إلى المطالبة بالانسحاب الفرنسي من البلاد لاعتبارات متعلقة بالسيادة، فقد أعلن "فاي"، في نوفمبر 2024م، أن السنغال دولة مستقلة ذات سيادة، ووجود قواعد عسكرية بداخلها "يتناقض مع سيادتها".
ووفقاً لهذه الرؤية، فإن الانسحاب الفرنسي العسكري النهائي من السنغال يعكس نجاح الرئيس السنغالي في تحقيق أبرز وعوده الانتخابية المتعلقة بإنهاء الوجود العسكري الأجنبي في البلاد، وهو ما قد ينعكس بالإيجاب على شعبيته الداخلية، في ظل وجود توجه شعبي عام يرفض استمرار الوجود العسكري الفرنسي في السنغال.
3- تزايُد المطالبات الشعبية بتعزيز السيادة الوطنية: لم يأتِ الانسحاب الفرنسي الكامل من السنغال منفصلاً عن تطلعات السنغاليين نحو تعزيز السيادة الوطنية، حيث شهدت السنغال خلال السنوات الأخيرة موجة متصاعدة من الاحتجاجات الشعبية التي يقودها الشباب والتي تُطالب بإنهاء الاتفاقات العسكرية مع فرنسا وتقليص الاعتماد العسكري عليها في تأمين البلاد. وهو ما دفع السلطات السنغالية بقيادة الرئيس "باسيرو ديوماي فاي" إلى أخذ هذه المطالبات في الاعتبار والعمل على تنفيذها.
4- إعادة ترتيب الشراكة الدفاعية بين البلدين: يأتي الانسحاب الفرنسي من السنغال مدفوعاً برغبة الطرفين في إعادة ترتيب مسار الشراكة الأمنية بينهما، حيث صرح رئيس القيادة الفرنسية في أفريقيا الجنرال "باسكال ياني" بأن "السلطات الفرنسية تجري تغييراً هيكلياً في حضورها في القارة الأفريقية عبر إعادة صياغة الشراكات الأمنية باستخدام نهج مختلف يستبعد استمرار وجود قواعد عسكرية في هذه البلدان". كما أكد رئيس أركان القوات المسلحة السنغالية الجنرال "مبايي سيسيه" على النهج نفسه، حيث صرح بأن "الجيشين الفرنسي والسنغالي حددا أهدافاً جديدة لإثراء الشراكة الأمنية بين البلدين عن طريق الاستقلال الاستراتيجي".
ومن المُتوقع أن تعتمد فرنسا استراتيجية جديدة في إطار علاقتها مع السنغال تعتمد على التركيز على ملفات أقل حساسية مثل: التدريب العسكري المشترك، والتعاون البحري، ومكافحة الجريمة السيبرانية، مع استبعاد الحضور العسكري المباشر.
5- تقليص فرنسا وجودها العسكري في أفريقيا: يأتي انسحاب فرنسا من السنغال في إطار استراتيجية تقليص الوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا، والمُدرجة ضمن توصيات المبعوث الشخصي للرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" إلى أفريقيا "جان ماري بوكيل" بشأن إعادة هيكلة الوجود العسكري الفرنسي في القارة الأفريقية، حيث اعتبر هذه الخطوات بمثابة وسيلة لتجديد الشراكات الدفاعية مع الدول الأفريقية في ظل تزايد موجة الرفض الشعبي في معظم بلدان أفريقيا لاستمرار النفوذ الفرنسي داخل الأراضي الأفريقية، وهو ما قد ساهم ليس فقط في إقدام فرنسا على إنهاء وجودها العسكري في السنغال، بل أيضاً دفعها قبل ذلك إلى الانسحاب من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.
وربما تعكس هذه الاستراتيجية رغبة فرنسا في تحويل دورها في القارة الأفريقية من قوة عسكرية مباشرة إلى شريك استراتيجي داعم للحكومات المحلية في مكافحة الإرهاب وتعزيز الأمن، وهو ما دفع باريس إلى زيادة الدعم اللوجيستي والتدريب العسكري للقوات السنغالية، مع إنهاء وجودها العسكري المباشر في البلاد. وهو النهج الذي أكد عليه المتحدث باسم رئيس أركان القوات المسلحة الفرنسية العقيد "جيوم فيرنيه" عندما صرح بأن "الانسحاب الفرنسي من السنغال هو جزء من الاستراتيجية الفرنسية الهادفة إلى تقليص الوجود الفرنسي في غرب ووسط أفريقيا، في إطار نهج شراكة أكثر مرونة".
6- اتهام الإعلام الروسي بتعبئة الرأي العام السنغالي ضد باريس: صاحب الانسحاب الفرنسي العسكري من السنغال موجة جدل متزايدة حول دور روسي بشكل غير مباشر في دعم هذا الانسحاب، حيث تتهم بعض التقارير موسكو بلعب دور في تقويض نفوذ فرنسا في السنغال وتعزيز الضغط المحلي لتفكيك وجودها العسكري في البلاد، وذلك عبر تسخير وسائل الإعلام المرتبطة بها، خاصةً "RT"، و"Sputnik Afrique"، لتشويه صورة فرنسا وتصويرها على أنها "قوة استعمارية جديدة ساهمت في تعزيز الفشل الأمني في البلاد، ودعم الركود الاقتصادي". وتتهم تلك التقارير الإعلام الروسي بالتأثير على الرأي العام السنغالي، وتعزيز التوجه الشعبي المُعادي لفرنسا، مما ساهم في تزايد المطالبات بالانسحاب الفرنسي من البلاد.
تداعيات مُحتملة
من المُتوقع أن يكون لهذه الخطوة تداعياتها على وضع السنغال في المنظومة الأمنية الأفريقية، إلى جانب قراراتها في تنويع شركائها، إضافةً إلى مستقبل تعاونها مع فرنسا، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:
1- اكتساب السنغال مرونة أكبر في تنويع شركائها الدفاعيين: ريما يمنح الانسحاب الفرنسي العسكري الكامل من السنغال داكار درجة أكبر من المرونة فيما يتعلق باختيار وتنويع شركائها في إطار مساعيها لتقليص اعتمادها على فرنسا، وهو ما بدأت ملامحه في الظهور مؤخراً في مظاهر تحمل تقارباً بين السنغال وقوى أخرى مثل تركيا والصين، فقد أجرى رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة السنغالية "مباي سيسيه"، في ديسمبر 2024م، زيارة إلى أنقرة لتعزيز التعاون العسكري المشترك. وأسفرت هذه الزيارة عن إبرام اتفاقية بين البلدين لتزويد الجيش السنغالي بحزمة من الأسلحة بقيمة 317 مليون يورو.
كما برزت ملامح من التقارب في العلاقات السنغالية مع الصين، حيث ترأس رئيس الوزراء السنغالي "عثمان سونكو" في 22 يونيو 2025م، منتدى اقتصادياً صينياً سنغالياً في مدينة "هانجشتو" الصينية. وأسفر هذا المنتدى عن توقيع العديد من الاتفاقيات المشتركة في مجالات مختلفة، بما يسمح برفع الشراكة بين الطرفين إلى مستوى استراتيجي. ولعل ما عزز من هذا التقارب اللقاء الذي أجراه "سونكو" مع الرئيس الصيني "شي جين بينج" في 27 يونيو 2025م، والذي أعرب خلاله الرئيس الصيني عن التزامه بتعميق الشراكة الاستراتيجية مع السنغال، وهو ما قد يسمح بتحول الصين إلى شريك أمني مُحتمل للسنغال.
2- تزايُد التعاون الدفاعي بين داكار وموسكو: يأتي الانسحاب العسكري الفرنسي من السنغال تزامناً مع محاولات روسية حثيثة لتعزيز نفوذها الدفاعي في المنطقة، وتطوير العلاقات الدفاعية بين موسكو ودول غرب أفريقيا. ومن المرجح تنامي التعاون الدفاعي بين السنغال وروسيا في الفترة القادمة، بعدما شهدت العلاقات بين البلدين تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة. فقد افتتحت شركة "كاماز" الروسية مصنعاً جديداً في السنغال لإنتاج الشاحنات والمركبات العسكرية المدرعة، في أكتوبر 2024م.
3- استمرار التعاون الأمني بين السنغال وفرنسا بضوابط جديدة: من المتوقع أن يُساهم الانسحاب الفرنسي العسكري من السنغال في إعادة تشكيل العلاقات بين باريس وداكار وفق شروط أكثر اتساقاً مع مبدأ السيادة الوطنية للسنغال، وهو ما قد يُساهم في انتقال مسار العلاقات من الاعتمادية إلى إحدى درجات التعاون والشراكة. وهو ما أكد عليه رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة السنغالية الجنرال "مباي سيسيه"، حيث أكد على التزام بلاده بإقامة شراكة فعالة ومتوازنة مع فرنسا قائمة على الاحترام المتبادل والسيادة.
4- إعادة تموضع السنغال في المنظومة الدفاعية بغرب أفريقيا: ربما يساهم الانسحاب الفرنسي العسكري من السنغال في إعادة تموضع داكار في المنظومة الأمنية الجديدة بغرب أفريقيا، إما من خلال تفعيل تعاونها مع الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "الإيكواس"، أو عبر انخراطها في مبادرات الأمن الجماعي، وهو ما يسمح لها بلعب دور "الفاعل الإقليمي" في إعادة تشكيل معادلة الأمن الجماعي في منطقة غرب أفريقيا، وفقاً لمحددات جديدة ترتبط بالنزعة الاستقلالية لدور المنطقة عن الدور الفرنسي. خاصةً أن السنغال حاولت لعب دوراً إقليمياً لإعادة مالي والنيجر وبوركينا فاسو إلى "الإيكواس"، بما يؤكد على الطموحات الإقليمية لداكار.
تحولات استراتيجية
ختاماً، يمكن القول إن خطوةَ الانسحاب الفرنسي العسكري من السنغال بعد 65 عاماً جاءت ضمن تحولات وتوجهات سياسية أوسع نطاقاً شهدتها البلاد، وفي إطار تحولات استراتيجية مستمرة في منطقة غرب أفريقيا التي تشهد انحساراً ملحوظاً للدور العسكري الفرنسي التقليدي، وصعوداً لتوجهات دفاعية وطنية تؤكد على ترسيخ مبدأ مبادئ الاحترام المتبادل والسيادة المستقلة والتعاون المتكافئ. فيما تستغل موسكو تلك التطورات لتعزيز نفوذها المتنامي في القارة الأفريقية.