صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تنشر مقالاً للكاتب توماس ل. فريدمان يتناول السياسة الإسرائيلية الحالية في غزة وآثارها الإنسانية والدولية والسياسية، ويصفها بأنها استراتيجيات انتحارية تجعل "إسرائيل" منبوذة عالمياً. أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
الحكومة الإسرائيلية تنتحر وترتكب جرائم قتل واسعة النطاق، وبذلك تدمّر مكانتها كدولة بين دول العالم، وتقتل المدنيين في غزة من دون أي اعتبار للحياة البشرية البريئة، وتمزّق المجتمع الإسرائيلي واليهودية العالمية، بين أولئك اليهود الذين لا يزالون يريدون الوقوف مع "إسرائيل" بغض النظر عن أيّ شيء، والرافضين الذين لم يعد بإمكانهم التسامح أو التبرير إلى أين تأخذ حكومة نتنياهو الدولة اليهودية، ويريدون النأي بالنفس عنها الآن.
لفت انتباهي البيان الذي أصدره "الجيش" الإسرائيلي عقب قصفه مستشفى في جنوب غزّةَ، الذي أسفر عن مقتل 20 فلسطينيا على الأقل من بينهم 5 صحفيين يعملون في وسائل إعلام دولية، بالإضافة إلى مسعفين وعدة أشخاص آخرين، أنّه نفذ غارة في منطقة مستشفى ناصر، من دون أن يحدد الهدف، لكنّه تأسّف عن "أيّ أذى لحق بأفراد غير متورّطين"، وأنّ رئيس أركان الجيش الإسرائيلي "أمر بإجراء تحقيق فوري".
ومن الواضح أنّ مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أدرك أنّ كثيرين في مختلف أنحاء العالم شعروا بالفزع من هذا التبرير، فكم مرّة سمعنا هذا من قبل، على هذه الخلفية جاء إصداره البيان النادرالذي قال فيه إنّ "إسرائيل تأسف بشدة عن الحادث المأساوي".
لكنّ الحقيقة هي أنّ ما وصفه نتنياهو بـ"حادث مأساوي" هو النتيجة الحتمية لسياسته المتمثلة في إطالة أمد الحرب في غزة لأجل البقاء في السلطة، وتجنّب محاكماته الجنائية، وتجنّب أيّ لجنة تحقيق إسرائيلية في تورّطه العميق في الفشل في منع الهجوم المفاجئ الذي شنّته حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. ولكي يبقى نتنياهو في السلطة، فهو بحاجة إلى دعم وزراء اليمين المتطرّف، مثل بتسلئيل سموتريتش، الذي يبذل جهوداً حثيثة لإغراق الضفة الغربية بأكبر قدر ممكن من المستوطنات اليهودية لمنع قيام أيّ دولة فلسطينية هناك، ويشجّع على إفراغ الضفة وغزّة من الفلسطينيين.
لكن المشكلة تكمن في أنّ "إسرائيل" قضت بالفعل على حماس كقوة عسكرية، وقتلت تقريباً جميع قادتها الكبار. لذا، ولتبرير استمرار المجهود الحربي، عليها الآن ملاحقة القادة من المستويات الأدنى. من غير المقبول أن تبرر دولة في حالة حرب، الأضرار الجانبية عند استهداف كبار قادة العدو، لكن الأمر أشد خطورة عندما تقتل وتجرح عشرات المدنيين في محاولة لقتل، على سبيل المثال، نائب قائد القوات.
ومن المكر والخبث أيضاً استخدام الجيش لنقل مئات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين من مكان إلى آخر في غزّة بحجة إجلائهم من مناطق القتال، ثمّ تهدم عمداً منازلهم التي تركوها وراءهم من دون سبب عسكري حقيقي، بل بدافع خفي واضح، وهو جعل حياتهم بائسة لدرجة تدفعهم إلى مغادرة المنطقة تماماً. ومن المخزي أيضاً أن توقف المساعدات الإنسانية، على أمل أن يجوع الناس بما يكفي ليغادروا.
هذه ليست مجرد جريمة قتل، بل أيضاً انتحار وقتل أخوة في الإنسانية. "إسرائيل" الآن في طريقها لأن تصبح دولة منبوذة، لدرجة أنّ الإسرائيليين سيفكّرون مليّاً قبل التحدث بالعبرية عند السفر إلى الخارج.
وبالفعل اعتقل مدير إحدى المتنزهات الترفيهية في جنوب فرنسا، بزعم التمييز الديني بعد رفضه دخول مجموعة من الأطفال الإسرائيليين إلى المنتزه. وكانت أستراليا قد ردت بشدة على نتنياهو بعد أن وصف رئيس وزرائها بأنّه ضعيف، حيث اتهم وزير أسترالي نتنياهو باستعراض القوة فيقتل الناس. وحين تقطعت السبل بنحو 1600 إسرائيلي على متن سفينة سياحية قبالة جزيرة سيروس اليونانية، لأنّ المحتجين من أجل غزّة منعوهم من الرسو في الجزيرة. كلّ هذا بمثابة تذكير صارخ بأنّ السياح الإسرائيليين اليوم قد يواجهون العداء لمجرّد أنّ جوازات سفرهم إسرائيلية.
تقول الحكومة الإسرائيلية إنّ هذا ظلم. لكن، لماذا يتحالف العالم الآن ضدّ "إسرائيل"؟ لأنّ العالم بات يميز الآن بين حرب تشنّ من أجل بقاء الدولة اليهودية وحرب تشنّ لأجل البقاء السياسي لرئيس وزرائها. ولأنّ العالم لم يعد بإمكانه غض الطرف، كما فعل لأشهر طويلة، عن فقدان أرواح المدنيين الفلسطينيين في غزّة كنتيجة حتمية للحرب.
بعد كلّ ذلك، ليس مستغرباً أن تخسر "إسرائيل" هذا العدد الكبير من الأصدقاء في مختلف أنحاء العالم، فضلاً عن الشركاء الإقليميين المحتملين الذين أصبح هذا الأمر واضحاً أمامهم ومن بينهم المملكة العربية السعودية.
أمّا بالنسبة لجرائم قتل الفلسطينيين إذا استمرت هذه الحرب على هذا النحو، فإنّها ستمزق العديد من المعابد اليهودية في جميع أنحاء العالم خلال الأعياد اليهودية الكبرى هذا العام بين أولئك الذين يقفون مع "إسرائيل" في كل حال، وأولئك الذين لم يعودوا قادرين على تحمل سلوك الحكومة الإسرائيلية الرهيب في غزّة لفترة أطول، خاصة عندما يرون مئات الآلاف من الإسرائيليين أنفسهم ينزلون إلى الشوارع ضدّ هذه الحكومة.
وسوف يؤدي هذا أيضاً إلى انقسام "الحزب الديمقراطي"، بين الذين يخشون تحدّي جماعة الضغط الإسرائيلية المؤثّرة "أيباك"، خوفاً من فقدان تمويل حملاتهم الانتخابية لصالح خصومهم "الجمهوريين"، وأولئك الذين لم يعودوا قادرين على تحمل الأمر لفترة أطول. وللأسف هذا انتحار جيوسياسي كما أعتقد، وأصبح انتحارا مدبّراً. هناك شخص واحد قادر على إيقاف كلّ هذا الآن، وهو الرئيس ترامب.
أخشى أنّه يتمكّن نتنياهو من خداع ترامب ليتخلى عن وقف إطلاق النار في غزّة سعياً وراء وهم "النصر الشامل" الذي يحلم به نتنياهو.