مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً للكاتب سارانغ شيدوري يتناول موقف دول الجنوب العالمي من روسيا بعد الحرب في أوكرانيا، وكيف فشلت الولايات المتحدة والغرب في عزل موسكو أو دفع هذه الدول لقطع علاقاتها معها، رغم الضغوط والعقوبات.
المقال يشرح لماذا ترى دول الجنوب العالمي في بقاء روسيا كقوة عظمى أمراً إيجابياً: فهي توازن بين أميركا والصين، وتتيح مجالاً أوسع للتعددية القطبية التي تمنح هذه الدول مرونة استراتيجية وتفتح أمامها فرصاً اقتصادية وسياسية أكبر. أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
عندما فرض الغرب عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا، عقب غزوها غير القانوني لأوكرانيا في عام 2022، رفضت معظم دول الجنوب العالمي الاستجابة في هذا الأمر. ولم تُسفّر محاولات إدارة بايدن لحشد دول في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا للمشاركة في الإجراءات الصارمة ضد روسيا، إلا إلى انضمام دولة واحدة هي سنغافورة.
وَمع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، استمرت مسألة فرض تكاليف على روسيا من خلال الضغط على دول ثالثة مع تفضيل فرض الرسوم الجمركية كأداة قوية. على هذه الخلفية غضب ترامب مؤخّرا على الهند، وفرض رسوما جمركية إضافية بنسبة 25% على وارداتها للضغط على نيودلهي لوقف شراء النفط من روسيا.
وبعد العديد من التقلّبات والمنعطفات في جهود ترامب لتحقيق السلام في أوكرانيا، حملت القمم الأخيرة في ألاسكا وواشنطن العاصمة بعض بوادر الأمل. مع ذلك، يبقى الاتّجاه النهائي غير واضح للغاية. وما يزال السيناتور الجمهوري البارز ليندسي غراهام يهدّد بفرض تكاليف أكثر شدّة على أيّ دولة تشتري الطاقة من روسيا، مثل الهند والبرازيل، في محاولة لدفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإنهاء الحرب.
ولكن إذا اعتقدت واشنطن أنّ الضغط العدواني سيؤدّي إلى فصل دول الجنوب العالمي عن روسيا، فعليها أن تعيد التفكير. فلدى دول الجنوب العالمي أسباب وجيهة للحفاظ على علاقاتها مع موسكو، بل وحتّى الترحيب باستمرار حضور روسيا كقوة عظمى على المسرح العالمي.
من الصحيح أنّ معظم دول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية صوّتت في الأمم المتحدة لإدانة غزو روسيا لأوكرانيا، واستنكرت غالبيتها انتهاك سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها، وأبدت قلقها بشأن التداعيات على الأمن الغذائي العالمي، ولم ترحّب بأيّ تلميحات لاستخدام روسيا للأسلحة النووية، لكنّها رأت أيضا أنّ أسباب الحرب معقّدة، وأنّ التوسّع المستمرّ لحلف "الناتو" بالقرب من حدود روسيا كان عاملا من عوامل تفجّر الصراع.
كما كانت هذه الدول أيضا على دراية كبيرة بازدواجية المعايير الغربية والوعود غير المنجزة من قبله. وقد أظهر كلّ من خطّة السلام الإندونيسية بشأن أوكرانيا والمبادرة التي قامت بها مجموعة من الدول الإفريقية بذلت في عام 2023، مساع تمثل رؤية الجنوب العالمي لإيجاد حلّ وسط بين السرديّتين الروسية والغربية.
كذلك امتنعت عدد كبير من الدول الجنوب العالمي من التصويت على قرارات الأمم المتحدة التي تدين الغزو. وشملت اللائحة جميع دول جنوب آسيا، ونحو نصف الدول الإفريقية، وحتّى بعض دول جنوب شرق آسيا.
السؤال لماذا يمنح الجنوب العالمي هذا القدر الكبير من التساهل مع روسيا، والإجابة تكمن بوضوح في أنّ روسيا لاعب عملاق في مجالي الدفاع والطاقة، والعديد من دول الجنوب العالمي تعد من كبار المستوردين لهما. وروسيا هي أكبر مصدر للأسلحة للهند والجزائر وفيتنام، كما أن موسكو تدخّلت كضامن أمني في عدة دول إفريقية في منطقة الساحل، وحلّت بدل فرنسا والولايات المتحدة.
وعلى صعيد الطاقة والتجارة، فإنّ الهند وتركيا من كبار مستوردي النفط الروسي، كما تَعتمد البرازيل بشكل كبير على الأسمدة الروسية لدعم قطاعها الزراعي الضخم، وكذلك المكسيك وكولومبيا. كما أنّ روسيا تعد أكبر لاعب دولي في مجال الطاقة النووية، ولديها مشاريع نشطة في عدة دول، منها بوليفيا ومصر والهند وإيران وتركيا.
كما أنّ هذا الانفصال الجغرافي يعني أنّ روسيا على عكس الصين، ليست لديها أيّ نزاعات إقليمية مع أيّ من دول الجنوب العالمي. كما أظهرت الحرب الباردة أنّ القوى العظمى يمكنها زعزعة استقرار القوى الأضعف عن بعد. ولقد خاف العديد من قادة ونخب الجنوب العالمي بالفعل من التخريب من قبل موسكو خلال الحرب الباردة. لكنّ أعمال زعزعة الاستقرار التي قام بها الاتّحاد السوفيتي كانت مدفوعة بالدافع الأيديولوجي للكرملين لتصدير الشيوعية.
ولقد أدّى الفشل الذريع للماركسية اللينينية إلى تشويه سمعتها في نظر العالم، وإلى تحول روسيا إلى تقديس بطرس الأكبر بدلا من فلاديمير لينين. ولم تعد موسكو مهتمة بتصدير نظام حكمها أو عقيدتها القومية الروسية السائدة إلى العالم النامي، وحدّت من طموحاتها التوسعية. مع ذلك يبدو أنّ تدخّلات شركات المرتزقة الروسية في إفريقيا تتعارض مع هذا الاتجاه. لكن موسكو استغلت المشاعر الشعبية المناهضة للاستعمار للحصول على موطئ قدم في منطقة الساحل الأفريقي وأماكن أخرى، على الرغم من أنّها بدأت تواجه إخفاقات مماثلة في مكافحة التمرّد مثلما حصل مع فرنسا.
تعتبر روسيا، بفضل مساحتها الجغرافية الهائلة وترسانتها النووية، واعتمادها على قدراتها الذاتية في مجالي الدفاع والطاقة قوة عظمى، إضافة إلى أنّها ما تزال تحتفظ بالبنية المؤسسية للإمبراطورية السوفيتية ونفوذها العالمي. مع ذلك، تعد روسيا الأضعف بين القوى العظمى الثلاث الأخرى بعد الولايات المتحدة والصين الأكثر قوة منها بشكل واضح.
بتعبير آخر تملك روسيا من القوة ما يكفي لتقييد محاولات الولايات المتحدة والصين للهيمنة، لكنّها ليست قوية بما يكفي لتصبح هيمنة عالمية بحدّ ذاتها. وهذا يريح الدول في الجنوب العالمي ويقدم لها "منطقة غولديلوكس" في العلاقة مع روسيا، ويزيد رغبتها في التعددية القطبية في النظام العالمي. على سبيل المثال، تحدثت دول مجموعة البريكس التي من ضمنها 8 دول من أصل 10 تنتمي إلى الجنوب العالمي، عن "السعي المشترك لإيجاد حلول مشتركة للتحدّيات العالمية وتعزيز عالم متعدد الأقطاب" في قمّة عقدت في تموز/ يوليو الماضي في البرازيل.
فالتعددية القطبية بالنسبة لهذه الدول "يمكن أن توسّع الفرص" أمام دول الجنوب العالمي "لتطوير إمكاناتها البناءة والتمتّع بعولمة وتعاون اقتصادي نافع للعالم وشامل ومنصف، بينما يرى "الواقعيّون الجدد" أنّ العالم ثنائي القطب أكثر استقرارا من عالم متعدد الأقطاب. لكن، بالنسبة للدول الصاعدة ذات الطموحات المتزايدة، فإنّها تفضل 3 قوى عظمى على 2.
فالثنائية القطبية تؤدّي إلى انقسام العالم بين كتلتين متعارضتين، وتولد ضغوطا وخيارات حتمية على الدول كما شهدنا خلال الحرب الباردة. كما تُقابل الثنائية القطبية في الجنوب العالمي بعدم استساغة الانحياز الكامل إلى إحدى الكتلتين، أو المخاطرة بالتحول إلى ساحة حرب بالوكالة إذا قاومت الدول كلا القطبين، أو أن تعقد الثنائية القطبية اتفاقا سرّيا لتقاسم مناطق النفوذ، ممّا سيولد ضغوطا أكبر على الجنوب العالمي للامتثال للقواعد التي تضعها هذه القوى.
هذه الأسباب، ينظر إلى استمرار بقاء روسيا كقوة عظمى ثالثة كأمر مرغوب فيه من قبل معظم دول الجنوب العالمي. فمع وجود ثلاث قوى عظمى نشطة، يصبح الوضع أسهل بالنسبة لها. وتشكيل مجموعة متحدة من 3 أعضاء أصعب من تشكيلها بين 2. ويمكن للقوى المتوسّطة التأثير في 3 قوى عظمى بسهولة أكبر من التأثير في الثنائية القطبية.
وبشكل عام، تتيح التعددية القطبية مساحة استراتيجية أوسع للدول غير المنتمية إلى نادي القوى العظمى. بل إنّها قد تعزّز إمكانية وصول بعض دول الجنوب العالمي إلى وضعية القوة العظمى في المستقبل.
إن النظرة الإيجابية نسبيا لدول الجنوب العالمي تجاه روسيا هي ثمرة نجاح جهود موسكو لترسيخ حضورها، ليس فقط في أفريقيا، بل في آسيا أيضا. فقد سعى الرئيس بوتين إلى تعميق علاقاته مع فيتنام، وهو يتمتّع بعلاقات مرنة مع الهند رغم تهديدات واشنطن. ويشار إلى أن رئيس إندونيسيا تغيب عن اجتماع مجموعة السبع هذا العام، وزار روسيا بدلا من ذلك.
تُظهر موسكو أنها بعيدة البعد كلّه عن العزلة، بل تعمل على تلميع صورتها كقوة عظمى، وتقاوم الهيمنة الأمريكية قدر استطاعتها.