• اخر تحديث : 2025-09-04 13:44
news-details
قراءات

تُعد انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة، المزمع إجراؤها في نوفمبر 2026، محطة مفصلية في السياسات الأمريكية؛ فهي لا تقتصر على كونها سباقاً على مقاعد الكونغرس (تجديد جميع مقاعد مجلس النواب، بالإضافة إلى ثُلث مقاعد مجلس الشيوخ) فحسب، بل تمثل في جوهرها استفتاءً على أداء الرئيس الأمريكي وحزبه خلال النصف الأول من ولايته. 
 
وفي هذا السياق، أكد البيت الأبيض أن تلك الانتخابات ستُدار باعتبارها استفتاءً على سياسات دونالد ترامب ومشروعه المستقبلي. وفي مواجهة قاعدة الميل التاريخي لصالح المعارضة في انتخابات التجديد النصفي، يسعى ترامب إلى قلب المعادلات السياسية في انتخابات العام المقبل عبر جملة من السياسات الاستباقية غير التقليدية، والتي تعكس رغبته ليس فقط في الحفاظ على أو تعزيز الأغلبية داخل الكونغرس، بل في إعادة صياغة التوازنات داخل الحزب الجمهوري؛ بما يضمن استمرارية نفوذه إلى ما بعد عام 2026.
 

سياسات استباقية:

للحفاظ على الأغلبية للجمهوريين في الكونغرس بمجلسيه في انتخابات التجديد النصفي لعام 2026؛ تبنى ترامب مجموعة من السياسات والتدابير التي يمكن إجمالها فيما يلي:

1 - إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية: يرمي ترامب إلى إعادة تشكيل الخريطة الانتخابية لصالح الحزب الجمهوري في عدد من الولايات البارزة، من بينها: إنديانا، وأوهايو، وميزوري، وتكساس التي مارس فيها الرئيس الأمريكي ضغوطاً مباشرة على المسؤولين الجمهوريين، حتى أقر مجلس الشيوخ بالولاية خريطة انتخابية جديدة، تمنح الحزب الجمهوري أفضلية واضحة من خلال إعادة هندسة العملية الانتخابية لا من خلال استمالة الناخبين؛ وذلك من خلال استحداث 5 دوائر جديدة في تكساس، تُمكّن الجمهوريين من كسب مقاعد إضافية في الكونغرس. وقد أسفر ذلك عن اعتراض الديمقراطيين إلى حدّ مقاطعة النقاشات التشريعية طيلة أسبوعين، واتهام الجمهوريين بالسعي إلى "إسكات أصوات الأقليات" عبر تقسيم انتخابي عنصري لا يعكس البنية الديمغرافية الحقيقية لولاية تكساس. ورداً على ذلك، اعتمد الديمقراطيون في ولاية كاليفورنيا إجراءات مضادة تُعوّض الخسائر المحتملة أمام الجمهوريين، من بينها تنظيم استفتاء في شهر نوفمبر المقبل لمنح المُشرعين سلطة إعادة رسم الدوائر الانتخابية دون اللجنة المستقلة (طبقاً للقواعد المعمول بها منذ عام 2010)؛ بهدف استحداث دوائر جديدة توازن التفوق الذي يسعى الجمهوريون إلى تحقيقه في تكساس. 

ووفقاً لصحيفة "الغارديان" البريطانية، فإن المحكمة العليا مهدت الطريق للتلاعب بالدوائر الانتخابية في ولاية تكساس، بل وإعادة تشكيل قواعد اللعبة الانتخابية. ففي عام 2019، قضت المحكمة العليا بأن التلاعب الحزبي بالدوائر الانتخابية لا يمكن الطعن عليه في المحكمة الفدرالية إلا إذا تعلق الأمر بتمييز عنصري، ولا سيّما أن عمليات إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية جزء لا يتجزأ من تاريخ الولايات المتحدة. وبموجب هذا الحكم، تمكن مشرعو عدد من الولايات الأمريكية من التلاعب بالدوائر الانتخابية، على نحو يكرس سياسات الاستقطاب. وبموجبه أيضاً، قد تتراجع أهمية انتخابات التجديد النصفي المقبلة في اختيار المرشحين لصالح الانتخابات التمهيدية للحزب، وفيها يُحدد المتطرفون، لا الناخبون المعتدلون المتأرجحون، المرشح الفائز؛ ما يؤدي بالضرورة إلى هيئات تشريعية مُستقطبة يهيمن عليها "الاستعراض الحزبي" ((Performative Partisan Showboating.

2 - التعهد بإلغاء الاقتراع عبر البريد: على الرغم من المعارضة المتوقعة من الديمقراطيين، أعلن ترامب عن رغبته في إنهاء العمل بالتصويت عبر البريد، والتخلص من أجهزة التصويت التي وصفها بأنها "غير دقيقة ومكلفة ومثيرة للجدل". وعلى الرغم من أن النظام الانتخابي الأمريكي يقوم على إدارة كل ولاية من الولايات الخمسين لانتخاباتها بشكل مستقل ضمن إطار تنظيمي يضعه الكونغرس؛ طالب ترامب الولايات الأمريكية بالامتثال لرغبته في فرض مقاربة مركزية على العملية الانتخابية. 

الجدير بالذكر أن الرئيس ترامب سبق أن وقّع في 25 مارس 2025 أمراً تنفيذياً يُشدّد الضوابط على عملية تسجيل الناخبين، ويفرض قيوداً إضافية على التصويت عبر البريد، ويُلزم الناخبين بإثبات الجنسية عبر وثائق رسمية، كما يُلزم الوكالات الفدرالية بمشاركة بياناتها مع حكومات الولايات للتحقق من قوائم الناخبين، كما اشترط أن تصل جميع بطاقات الاقتراع البريدية بحلول يوم الانتخابات حتى تُحتسب، ملوحاً بوقف التمويل الفدرالي عن الولايات التي لا تلتزم بتلك المعايير، وقد واجه ذلك دعاوى قضائية عدة من الديمقراطيين. 

وتكشف سياسات ترامب مجتمعة عن رغبته في إعادة ترسيم التوازنات الدستورية القائمة بين السلطات؛ كونه يُصر على أولوية سلطة الحكومة الفدرالية على سلطات الولايات في تنظيم الانتخابات، وذلك في محاولة لإعادة صياغة المشهد الانتخابي؛ بما يتماشى مع رؤيته الخاصة لضمان نزاهة التصويت ونتائجه.

3 - إبداء الرأي في الترشيحات الحزبية: يقود فريق من المستشارين البارزين، وفي مقدمتهم توني فابريزيو وكريس لاسيفيتا، تنسيق الحملات الانتخابية، ويتواصلان يومياً مع عدد من موظفي البيت الأبيض البارزين لإدارة المشهد الانتخابي. وفي إطار سعيه لتأكيد وحدة الحزب الجمهوري، وتعزيز حظوظ الجمهوريين في الدوائر ذات الانقسام السياسي الحاد، وضبط مسار التنافس الداخلي، وتقليص الخسائر المُحتملة في الولايات المحورية؛ تعددت توجيهات ترامب المباشرة وتدخلاته الاستراتيجية في الترشيحات الحزبية؛ حيث دعم مرشحين محددين في سباقات مجلس الشيوخ بولايات متأرجحة مثل مين وكارولاينا الشمالية، كما مارس ضغوطاً على عدد من النواب للاحتفاظ بمقاعدهم النيابية والحيلولة دون سعيهم للحصول على مناصب تنفيذية أعلى. ففي أعقاب نقاشه مع ترامب، تراجع زاك نان عن الترشح لمنصب حاكم ولاية أيوا؛ كي يسعى لإعادة انتخابه في الدائرة الثالثة للكونغرس. كما أقنع ترامب النائب بيل هويزينغا في ولاية ميتشغان بالعدول عن خوض سباق مجلس الشيوخ لصالح دعم المرشح مايك روجرز، فيما تلقى النائب مايك لولر في نيويورك رسالة واضحة مفادها التخلي عن طموحاته لمنصب الحاكم لصالح إعادة انتخابه في دائرة انتخابية جنوب نيويورك. 

وعلى مستوى مجلس الشيوخ، شجع البيت الأبيض السيناتور جوني إرنست على الترشح مجدداً وسط تكهنات بتقاعدها، كما بادر إلى مناقشة بدائل محتملة في ولاية مين تحسباً لاحتمال عزوف السيناتور سوزان كولينز عن خوض السباق الانتخابي مرة أخرى. 

4 - تعظيم النفوذ المالي الانتخابي: في أعقاب فوزه بالانتخابات الرئاسية العام الماضي، بدأ ترامب حملة اتصالات مبكرة ومكثفة لجمع التبرعات، وتمكن في غضون ثلاثة أسابيع فقط من بداية ولايته الثانية من جمع نحو 608 ملايين دولار؛ ما يعكس قدرته الهائلة على جمع الدعم المالي وتوظيفه كأداة استراتيجية لتعزيز نفوذ الحزب الجمهوري. وقبل انتخابات التجديد النصفي لعام 2026، وفي اتجاه مضاد للقيود الدستورية التي تحول دون ترشحه لولاية رئاسية ثالثة، ألمح ترامب إلى إمكانية توجيه تلك الموارد لدعم حلفائه من قيادات الحزب، مؤكداً مساعيه للضغط على كبار المانحين، بالتوازي مع إطلاق حملات إعلانية تُقدر بملايين الدولارات في ثماني دوائر انتخابية حرجة، إلى جانب رئاسته لعدة فعاليات تمويلية ضخمة لصالح لجنة الحزب الجمهوري الوطنية؛ ما يعزز حضوره في المشهد التشريعي استعداداً لانتخابات العام المقبل.

دوافع مركبة:

ترجع سياسات ترامب الاستباقية بشأن انتخابات التجديد النصفي للكونغرس 2026، إلى جملة من الدوافع التي يمكن الوقوف على أبرزها من خلال النقاط التالية: 

1 - تزايد أهمية انتخابات التجديد النصفي: يشهد الداخل الأمريكي حالة من الاستقطاب السياسي والتجاذب الحزبي مع تنامي التدابير والتحضيرات السياسية لانتخابات التجديد النصفي العام المقبل، والتي تبرز أهميتها بالنظر إلى عدة أسباب. فمن جهة، ستحدد تلك الانتخابات قدرة الرئيس ترامب على تعزيز نفوذه داخل الحكومة الفدرالية خلال العامين الأخيرين من ولايته. ومن جهة أخرى، قد تشهد مناصب حكام الولايات تغيرات جوهرية تؤثر في موازين القوى المحلية. 

وفي هذا الإطار، بدأ فريق ترامب جهوداً مبكرة للحفاظ على الأغلبية الجمهورية "الهشة" في مجلس النواب، وسط مخاوف من أن يسفر فوز الديمقراطيين عن فتح ملفات تحقيق جديدة ضد الرئيس قد تؤدي إلى عزله، كما سبق أن حدث عند سيطرتهم على المجلس في ولايته الأولى؛ وهو ما يتضح في تصريحات بعض الشخصيات البارزة مثل مات غورمان، الذي أكد أن العزل سيظل خياراً مطروحاً إذا تولى حكيم جيفريز (زعيم الأقلية الديمقراطية الحالي) رئاسة مجلس النواب. في حين أبدى بعض الديمقراطيين بالفعل رغبتهم في التحقيق في قضايا مرتبطة بإصلاحات ترامب، وتلاعبه المُحتمل بالأسواق عبر الرسوم الجمركية، فضلاً عن دوره في تسهيل صفقات لشركات كبرى مثل مشروع "ستارلينك".

2 - تراجع شعبية ترامب: أظهر استطلاع رأي أجرته مؤسسة "غالوب" الأمريكية في 26 يوليو 2025، تراجعاً ملحوظاً في شعبية الرئيس ترامب ولا سيّما بين الناخبين المستقلين؛ حيث انخفضت معدلات تأييدهم له إلى 29% فقط، وهو أدنى مستوى يُسجله في أي من فترتي رئاسته، وبانخفاض قدره 17% منذ يناير 2025. ووفقاً للاستطلاع، فإن نسبة الرضا العام عن أداء ترامب بلغت 37% بين البالغين الأمريكيين، في حين أعرب 64% من المستقلين و97% من الديمقراطيين عن عدم رضاهم، مقابل 7% فقط من الجمهوريين. 

ووفقاً لبعض التحليلات، فإن تلك النسب تعكس أزمة ثقة حقيقية، وخاصةً أن المستقلين يمثلون الكتلة التصويتية الحاسمة في الانتخابات؛ ما يثير قلق الحزب الجمهوري إزاء قدرته على الحفاظ على أغلبيته المحدودة في الكونغرس خلال انتخابات التجديد النصفي المقبلة. ويُعزى هذا التراجع إلى الملفات الاقتصادية والمالية والهجرة، رغم كونها ركائز خطاب ترامب الانتخابي لعام 2024. فقد أبدى 68% من المستقلين معارضتهم لسياسات ترامب الاقتصادية، و73% رفضهم لطريقة إدارته للميزانية الفدرالية بعد إقرار مشروع قانونه الضخم، بينما لم تحظ سياساته في ملف الهجرة سوى بتأييد 30% من المستقلين. 

3 - المخاوف من تداعيات حرب الرسوم التجارية: تتزايد المخاوف من أن الرسوم الجمركية المفروضة على معظم دول العالم، وردود الفعل الانتقامية المُحتملة عليها؛ قد تدفع الاقتصاد الأمريكي إلى ركود عميق؛ ومن ثم حذرت بعض الأصوات الجمهورية، بما في ذلك السيناتور تيد كروز، من أن استمرار الأزمة قد يُحوّل انتخابات 2026 إلى "حمام دم سياسي" يُمكّن الديمقراطيين من السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ. ولا يخفى القلق المتنامي بين المُشرعين الجمهوريين بشأن "حرب الرسوم التجارية" التي أطلقها ترامب تحت اسم "يوم التحرير" في 2 إبريل 2025، والتي تسببت في خسارة السوق المالية الأمريكية ما يقرب من 5.4 تريليون دولار خلال يومين فقط؛ وهو ما يعزز احتمالية معاقبة الناخبين للحزب الجمهوري إذا استمرت الأزمة الاقتصادية في إلحاق أضرار مباشرة بالمواطنين الأمريكيين.

4 - ترسيخ هيمنة الجمهوريين: تُظهر التجربة السياسية للرئيس ترامب منذ عام 2020، طبيعة التحديات التي واجهها وعلاقته المتوترة مع المؤسسات الدستورية؛ إذ اصطدم بمعارضة الجمهوريين المنتخبين في الكونغرس ومجالس الولايات، إضافة إلى أعضاء من إدارته والقادة العسكريين الذين رفضوا الانصياع له بعد خسارته، وهو ما دفعه في ولايته الثانية إلى إحكام السيطرة على الحزب الجمهوري ودعم المرشحين منه لمناصب نيابية لتعزيز الولاء له. وتاريخياً، غالباً ما يخسر الحزب الحاكم مقاعده في انتخابات التجديد النصفي، وهو ما حدث في عام 2018 حين استعاد الديمقراطيون السيطرة على مجلس النواب؛ الأمر الذي قاد إلى محاكمة ترامب وإعاقة أجندته، وهو ما يسعى الرئيس إلى تجنبه خلال الفترة المقبلة، ولا سيّما أنه يرى أن تحركاته تمثل حماية للديمقراطية.

5 - انعكاسات القانون الضريبي: بينما قد يترجم الجمهوريون الدعم الشعبي لبرامجهم الاقتصادية والأمنية إلى مكاسب انتخابية تعزز تمسكهم بأغلبية مجلس النواب، وربما توسع نفوذهم في مجلس الشيوخ؛ فإن المعارضة المتنامية للقانون الضريبي (المعروف باسم مشروع القانون الكبير والجميل) وارتداداته على الفئات الوسطى والفقيرة يمكن أن تتيح للديمقراطيين فرصة استعادة الزخم الانتخابي إذا نجحوا في تسويق خطاب بديل يُبرز المخاطر الاقتصادية والاجتماعية لتلك السياسات. وبذلك، يمثل ذلك القانون نقطة مفصلية في إعادة تشكيل التوازنات السياسية؛ إذ يمكن أن يكون سلاحاً ذا حدين، فإما أن يعزز هيمنة الجمهوريين إذا نجحوا في ضبط روايتهم الإعلامية، وإما أن يقدم للديمقراطيين فرصة استراتيجية إذا تمكنوا من بلورة خطاب متماسك يدافع عن العدالة الاجتماعية والاقتصادية.

ختاماً، ينطلق ترامب من قناعة راسخة بأن فوزه في انتخابات الرئاسة عام 2024 منحه تفويضاً شاملاً ودائماً بالسيطرة على مجمل السياسات الأمريكية، حتى دفع باستحقاق الحزب الجمهوري لعدد من المقاعد الإضافية في الكونغرس؛ وكأن المقاعد في بعض الولايات أضحت ملكاً طبيعياً لحزبه. وعلى الرغم من تمتع الحزب الجمهوري بأغلبية محدودة في مجلسي النواب والشيوخ؛ فإن شعبية ترامب تشهد تراجعاً ملحوظاً، فلم تنل سياساته سوى دعم محدود في قضايا بارزة على شاكلة الهجرة وزيادة الإنفاق الدفاعي؛ ما يضع انتخابات التجديد النصفي المقبلة أمام تحديات جوهرية، خاصةً مع تفاقم أزمات الاقتصاد الكلي وارتفاع معدلات التضخم بفعل الرسوم الجمركية والترحيل الجماعي. 

وتكتسب تلك التحديات أهمية مضاعفة بالأخذ في الاعتبار القاعدة التاريخية التي تُظهر ميل الحزب الحاكم إلى خسارة مقاعده في الانتخابات النصفية، وبالنظر أيضاً إلى أنه في أعقاب انتخابات التجديد النصفي لعام 2018، وخلال فترة ولاية ترامب الأولى، خسر الجمهوريون أغلبيتهم في مجلس النواب، بجانب خسارتهم لعدد من مناصب حكام الولايات لصالح الديمقراطيين، وسط مخاوف من أن تُتاح الفرصة أمام الديمقراطيين لتعطيل أجندة ترامب السياسية.