• اخر تحديث : 2025-09-16 12:21
news-details
تقدير موقف

الآفاق المحتملة للاقتصاد العالمي بعد إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية


يمثل إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية محطة فارقة في المشهد الدولي، ليس فقط من زاوية جيوسياسية، بل أيضاً من منظور اقتصادي عالمي. فقد أفضى الصراع المستمر منذ أربع سنوات إلى خسائر اقتصادية وإنسانية واسعة؛ مما جعل التوصل إلى تسوية سلمية مطلباً ملحاً لدى مختلف الأطراف الدولية، باعتباره السبيل لتقليص هذه الخسائر وإعادة ضبط موازين الاستقرار الدولي.
 
ومن المتوقع أن يفتح السلام في أوكرانيا الباب أمام جملة من التحولات الاقتصادية المهمة، يأتي في مقدمتها تخفيض أسعار السلع الأساسية وتخفيف الضغوط التضخمية على الاقتصادات الأوروبية، إضافة إلى استقرار سلاسل الإمداد العالمية، كما يمكن أن يسهم إنهاء الحرب في تعزيز الثقة بالأسواق، وخلق بيئة أكثر مواءمة لجذب الاستثمارات، وتمهيد الطريق نحو مرحلة من النمو العالمي المتوازن بعد سنوات من الاضطراب وعدم اليقين.
 
الخسائر الاقتصادية للحرب الأوكرانية:
 
تُعد الحرب الروسية الأوكرانية إحدى أبرز الصدمات الجيوسياسية التي أعادت تشكيل ملامح الاقتصاد العالمي؛ فقد أدت إلى اضطراب سلاسل الإمداد العالمية، خاصة في نشاط تجارة السلع الأساسية، وأسهمت في ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء عالمياً، وفاقم معدلات التضخم في كل من الاقتصادات المتقدمة والنامية. وقد دفعت هذه التطورات البنوك المركزية العالمية إلى رفع معدلات الفائدة لاحتواء مخاطر ارتفاع التضخم. 
 
وكانت أوروبا من أبرز الاقتصادات المتأثرة بالحرب الأوكرانية؛ حيث تعرضت لأزمة طاقة غير مسبوقة نتيجة اعتمادها الكبير على واردات النفط والغاز الطبيعي الروسي. وانعكس ارتفاع تكاليف الطاقة على تكلفة الإنتاج الصناعي وأسعار السلع والخدمات، وأسهم ذلك في تسجيل معدلات تضخم قياسية بلغت 8.8% عام 2022 لتتباطأ عقب ذلك إلى 2.4% عام 2024، وفقاً لتقديرات البنك الدولي.
 
وعلى صعيد آخر، أسفرت الحرب عن تسريع جهود الاتحاد الأوروبي لتنويع مصادر إمدادات الطاقة؛ حيث ارتفعت مساهمة الغاز الطبيعي المُسال لتشكل نحو 37% من إجمالي واردات الغاز الأوروبية في عام 2024، في مقابل تراجع الاعتماد على الغاز الروسي بنسبة 77%؛ إذ انخفضت الواردات الأوروبية من روسيا من 137 مليار متر مكعب عام 2021 إلى نحو 31.6 مليار متر مكعب عام 2024.
 
إلى جانب ذلك، تأثر الاقتصادان الروسي والأوكراني سلباً؛ إذ واجه الأخير صدمة عميقة نتيجة الدمار الواسع الذي لحق بالبنية التحتية وتوقف جزء كبير من النشاط الصناعي والزراعي، فضلاً عن تراجع الصادرات بسبب إغلاق الموانئ والقيود المفروضة على سلاسل التوريد؛ وانعكس ذلك في انكماش حاد للناتج المحلي وارتفاع معدلات البطالة والتضخم. 
 
في المقابل، تأثر الاقتصاد الروسي بالعقوبات الغربية الواسعة التي استهدفت قطاعاته الحيوية مثل الطاقة، والتمويل، والتكنولوجيا؛ مما أدى إلى تقييد حركة التجارة والاستثمار، وخروج العديد من الشركات الأجنبية من السوق الروسي. ومع ذلك، استفادت روسيا جزئياً من ارتفاع أسعار النفط والغاز خلال السنوات الأولى للحرب، وقد أعادت توجيه جزء من صادراتها إلى أسواق بديلة كالصين والهند؛ الأمر الذي ساعد على تخفيف حدة الخسائر الاقتصادية. 
 
دوافع متعددة:
 
يسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ توليه الفترة الرئاسية الثانية لطرح مسارات بديلة لتسوية الحرب الأوكرانية وإيقاف التصعيد العسكري بين الطرفين، وذلك عن طريق الوساطة الدبلوماسية وتوظيف أدوات الضغط الاقتصادي لدفع الأطراف المتحاربة إلى طاولة المفاوضات. وقد حظيت هذه الجهود باهتمام المجتمع الدولي؛ إذ عبّرت بعض القوى الأوروبية والآسيوية عن تأييدها لأي مبادرة تسهم في وقف إطلاق النار وتخفيف الأعباء الإنسانية والاقتصادية العالمية الناتجة عن الحرب.
 
وقد تجسدت أحدث تلك الجهود في قمة ألاسكا التي عُقدت في 15 أغسطس 2025، وجمعت الرئيس ترامب بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، وهي تُعد محطة بارزة في مسار المساعي الدبلوماسية لإنهاء النزاع؛ حيث أعلن ترامب عقب اللقاء أن المحادثات اتسمت بدرجة عالية من النجاح، مشيراً إلى أن الخيار الأكثر واقعية لإنهاء الحرب يتمثل في التوجه نحو اتفاق سلام دائم وشامل، وليس الاكتفاء بترتيبات مؤقتة لوقف إطلاق النار. 
 
ويعكس موقف الرئيس الأمريكي من إنهاء الحرب مزيجاً من الاعتبارات الإنسانية والسياسية والاقتصادية، إذ شدّد في العديد من المناسبات على أن هدفه الأساسي يتمثل في "إنقاذ الأرواح" والتخفيف من المعاناة الإنسانية الناتجة عن استمرار العمليات العسكرية، كما يرتبط توجهه لإنهاء الحرب بالبُعد الاقتصادي؛ إذ يرى أن استمرار الصراع يفرض أعباءً مالية ضخمة على الولايات المتحدة نتيجة حزم المساعدات العسكرية والاقتصادية المتواصلة لكييف، معتبراً أن التوصل إلى تسوية سياسية من شأنه أن يخفف من التزامات واشنطن المالية ويتيح توجيه الموارد نحو الأولويات الداخلية.
 
انعكاسات إيجابية:
 
يُرجَّح أن يؤدي إنهاء الحرب الأوكرانية إلى انعكاسات إيجابية ملموسة على الاقتصاد العالمي، ولا سيما بعد ما أفرزه الصراع من اختلالات عميقة في أسواق الطاقة والغذاء وتعطّل سلاسل الإمداد الدولية، في قطاع الطاقة؛ ويُتوقَّع أن يسهم التوصل إلى تسوية سلمية في تهدئة أسعار النفط والغاز الطبيعي.
 
 وتشير تقديرات صادرة عن مؤسسة "أكسفورد إيكونوميكس" إلى أن أسعار الغاز الطبيعي قد تنخفض بنسبة تتراوح بين 15% و20% خلال الأشهر الأولى من إنهاء الحرب، بينما يُرجَّح أن تستقر أسعار النفط في نطاق يتراوح بين 65 و75 دولاراً للبرميل، أو حتى أقل من ذلك؛ إذا ما عاد جزء من الإمدادات الروسية إلى الأسواق الأوروبية؛ مما سيسهم في كبح ارتفاع معدلات التضخم العالمية التي سجلت نحو 7.9% عام 2022، وفقاً للبنك الدولي.
 
إلى جانب ذلك، فإن عودة أوكرانيا وروسيا إلى تصدير الحبوب والأسمدة بشكل منتظم ستسهم في تعزيز الأمن الغذائي العالمي، خاصة في الدول النامية المعتمدة على واردات البحر الأسود، كما سينجم عن إنهاء الحرب، تعافي التجارة العالمية التي تراجعت بنسبة 5% إلى 24.01 تريليون دولار خلال عام 2023.
 
ومن زاوية أخرى، فقد يقلل إنهاء الحرب الأوكرانية من زخم الدورة الفائقة للطلب العالمي على الذهب، والذي استمرت أسعاره في الصعود منذ بداية الحرب. ومع ذلك، يُستبعَد أن تتوقف البنوك المركزية عن كونها المشتري الرئيسي للمعدن؛ إذ من المرجح أن تواصل - ولا سيما في الاقتصادات الناشئة- إعادة هيكلة محافظها الاستثمارية عبر مراكمة مخزونات الذهب، في مسعى لتنويع الأصول، ودعم العملات المحلية، وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي، في إطار ما يُعرف بـ"إزالة الدولرة" "Dedollarization"؛ وهو ما يعكس إدراك الاقتصادات الناشئة لأهمية تنويع سلة العملات الأجنبية لدى بنوكها المركزية وتقليل انكشافها على الدولار.
 
وبالتركيز على الاقتصادات الأوروبية، يُتوقَّع أن يسهم انخفاض أسعار النفط والغاز الطبيعي عالمياً في تقليص فاتورة الطاقة للقارة بنحو 200 مليار دولار سنوياً؛ وهو ما يمنح اقتصاداتها هامشاً من الاستقرار بعد سنوات من الضغوط التضخمية المتواصلة. وتشير تقديرات "أكسفورد إيكونوميكس" إلى أن هذا التراجع في تكاليف الطاقة قد يدفع معدلات التضخم في أوروبا إلى مستويات أدنى من مستهدف البنك المركزي الأوروبي البالغ 2%، وذلك على مدى ستة أرباع متتالية عقب إنهاء الحرب. كما يُرجَّح أن ينعكس هذا التحسن في المؤشرات الاقتصادية على سعر صرف العملة الأوروبية الموحدة؛ لترتفع قيمة اليورو بما يقارب 3% أمام الدولار.
 
بينما تشير تقديرات بنك "إتش إس بي سي" (HSBC) إلى أن السلام الدائم في أوكرانيا يُمكن أن يرفع الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي بنسبة تتراوح بين 0.2% و0.3%.، فيما سيؤدي انخفاض أسعار الغاز الطبيعي والنفط بنسبة 10% إلى خفض معدل التضخم في منطقة اليورو بمقدار 0.4% لمدة عام بعد وقف الحرب.
 
إضافة إلى ذلك، فإن إنهاء الحرب من شأنه أن يوفر دفعة إيجابية لصادرات الاتحاد الأوروبي؛ إذ يُتوقع أن تسجل صادرات السلع الأوروبية زيادة بنحو 2.2%، ومن شأنه كذلك أن يرفع الطلب الخارجي في أوكرانيا؛ بسبب إعادة الإعمار التي تُقدرها "أكسفورد إيكونوميكس" بنحو 125 مليار دولار حتى عام 2030، و250 مليار دولار بحلول 2036.
 
من ناحية أخرى، يُتوقَّع أن تترك عودة اللاجئين الأوكرانيين – والذين يقدَّر عددهم بنحو 5.6 مليون لاجئ وفق المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين– آثاراً سلبية على سوق العمل في الاتحاد الأوروبي؛ إذ ستؤدي مغادرة غالبيتهم إلى تقليص حجم المعروض من العمالة. ويكتسب هذا الأمر أهمية خاصة في ظل اعتماد بعض الدول الأوروبية على العمالة الأوكرانية في قطاعات رئيسية مثل الزراعة والبناء والخدمات؛ مما قد يفاقم مشكلات نقص العمالة ويرفع تكاليف الأجور.
 
أما على صعيد الاقتصاد الروسي، فمن المرجح أن يسهم إنهاء الحرب وتخفيف العقوبات في تشجيع بعض الشركات والمستثمرين الأجانب على إعادة النظر في الفرص المتاحة داخل السوق الروسية، التي بقيت شبه معزولة عن الاقتصاد العالمي لأكثر من ثلاث سنوات. غير أن عودة هذه الاستثمارات قد تستغرق وقتاً أطول؛ نظراً للسرعة التي جرى بها تهميش روسيا في النظام الاقتصادي الدولي، فضلاً عن المخاطر المالية والقانونية المحتملة في حال لم تُرفع العقوبات بشكل كامل أو أُعيد فرضها لاحقاً.
 
كما أن الهيكل الاقتصادي الروسي شهد خلال سنوات الحرب عملية إعادة تموضع جوهرية، تمثلت في تعميق الاعتماد على الشراكات مع الصين والهند ودول "الجنوب العالمي"؛ وهو ما قد يُقيد فرص عودة العلاقات مع الاقتصادات الغربية لمستويات ما قبل الحرب بشكل سريع، ويجعل أي انفتاح مستقبلي لروسيا محكوماً بحدود جغرافية وسياسية واضحة.
 
ختاماً، يتضح مما سبق أن إنهاء الحرب الأوكرانية من شأنه أن يفتح آفاقاً لمرحلة جديدة في مسار الاقتصاد العالمي، تخفُّ فيها حدة الضغوط التضخمية التي أثقلت كاهل الاقتصادات المتقدمة والنامية على حد سواء، وتستعيد فيها الأسواق قدراً من التوازن بعد سنوات من الاضطراب وعدم اليقين. ويُتوقع أن يكون الأثر أكثر وضوحاً في القارة الأوروبية، التي عانت بصورة مباشرة من أزمة الطاقة وارتفاع أسعار الغذاء وتباطؤ النمو؛ حيث يمكن أن يسهم الاستقرار الجيوسياسي في تقليص فاتورة واردات الطاقة، وتعزيز تنافسية الصادرات، وتهيئة بيئة أكثر جذباً للاستثمار. وبذلك، فإن إنهاء الحرب لا يقتصر على كونه حدثاً سياسياً، بل يمثل أيضاً نقطة تحول اقتصادية عالمية؛ تُعيد ترتيب الأولويات وتدفع باتجاه استعادة الثقة في النظام التجاري والمالي العالمي.