• اخر تحديث : 2025-09-16 12:21
news-details
قراءات

هل تنجح الصين وروسيا والهند في تكريس التعددية القطبية؟


تعود عبقرية المعادلة التي وضعها وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، إلى نجاحه في زرع الخلافات بين القوى الآسيوية الرئيسية؛ لأنه كان مهندس الانفتاح الأمريكي على الصين عندما كتب "بيان شنغهاي" مع الصينيين خلال زيارة الرئيس الأسبق، ريتشارد نيكسون، كأول رئيس أمريكي يزور الصين في فبراير 1972. وقد أدى الانفتاح الأمريكي على بكين إلى تعميق الخلافات بين أكبر دولتين شيوعيتين آنذاك، وهما الاتحاد السوفيتي السابق والصين، كما أسهم هذا الانفتاح في تعميق الخلافات الهندية الصينية؛ وبهذا أضعفت الولايات المتحدة القوى الآسيوية الرئيسية، وحافظت على قيادتها للعالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق.
 
لكن المشهد الذي جمع زعماء روسيا والصين والهند في قمة "منظمة شنغهاي للتعاون" في مطلع سبتمبر 2025، والعرض العسكري الصيني الضخم يوم 3 سبتمبر الجاري بمناسبة مرور 80 عاماً على انتصار الصين على اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية؛ يتناقض تماماً مع استراتيجية كيسنجر الآسيوية؛ الأمر الذي يشير إلى أن العالم قد يكون أمام "معادلة جديدة" باتت تتشكل، وقد تمهد لبزوغ "عالم متعدد الأقطاب"، ليس فقط بسبب سعي الصين وروسيا وكوريا الشمالية إلى تدشين هذه المقاربة الجديدة، بل لأن الرؤية الحالية للرئيس دونالد ترامب والقائمة على الانكفاء على الذات، والتخارج من القضايا الدولية، ومبدأ "أمريكا أولاً"؛ ربما تساعد على التحرك سريعاً نحو تشكيل هذا العالم الجديد متعدد الأقطاب.
 
على الجانب الآخر، هناك كوابح لهذا الاندفاع نحو بناء نظام عالمي جديد، تتعلق بالخلافات الحدودية الهندية الصينية التي أدت إلى اشتباكات متعددة بين جيشي البلدين، والخلافات الصينية مع عدة دول على حقوق السيادة في بحر الصين الجنوبي، وكذلك الخلاف الصيني الياباني على جزر سينكاكو، بالإضافة إلى المشكلات الداخلية التي تعاني منها الصين في ملفات تايوان وهونغ كونغ والتبت وشينجيانغ.
 
وفي هذا السياق، يثور التساؤل حول إمكانية ترسخ التعددية في النظام الدولي، ومدى توافر الفرص لنجاح محاولات روسيا والصين والهند في بناء نظام عالمي جديد.
 
محفزات التعددية:
 
تقدم الصين وروسيا و"منظمة شنغهاي للتعاون" وتحالف "بريكس بلس"، نموذجاً جديداً يختلف في آلياته وأدواته وأهدافه عن النموذج الغربي الموروث منذ نهاية الحرب الباردة. وعلى الرغم من الانتقادات الغربية لبكين في ملفات تتعلق بحقوق الإنسان، والملكية الفكرية، وعدم انفتاح اقتصاد الصين على البضائع الغربية وخاصةً الأمريكية؛ فإن ثمة مجموعة من المحفزات التي قد تدفع باتجاه بزوغ "عالم متعدد الأقطاب" بقيادة روسيا والصين والهند، ويمكن توضيح أبرز هذه المحفزات على النحو التالي:
 
1- غياب المشروطية السياسية: يقوم النموذج الصيني الروسي في التعاون مع الآخرين، على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والشعوب الأخرى، ولا تفرض الصين وشركاؤها في "منظمة شنغهاي للتعاون" شروطاً سياسية عند تعاونها مع أي دولة، وتنطلق بكين وموسكو وشركاؤهما من مبدأ الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة؛ لهذا هناك قبول للصين كقوة كبرى لدى كثير من دول العالم خصوصاً في الجنوب العالمي، وخير مؤشر على ذلك التوسع في عضوية المنظمات الدولية التي تقودها الصين وروسيا والهند مثل "بريكس بلس" و"شنغهاي للتعاون". وقد أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في كلمته خلال الاجتماع الموسع لـ"منظمة شنغهاي للتعاون"، في مطلع سبتمبر الجاري، عن أن هناك طلبات من عشرات الدول الراغبة بالانضمام إلى المنظمة بصفة مراقب أو شريك في الحوار.
 
في المقابل، تستند المقاربة الغربية إلى ما يُسمى بـ"النظام القائم على القواعد"؛ وهي القواعد الموروثة منذ عام 1945، ونهاية الحرب الباردة عام 1991، وهذه القواعد تضمن الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة باعتبارها أكبر اقتصاد في العالم، وباعتبارها أيضاً أقوى جيش في العالم؛ حيث تنفق نحو تريليون دولار سنوياً على الشؤون الدفاعية. بينما يدعم النموذجان الصيني الروسي مبادئ مثل المساواة والتشاور، والتنمية المشتركة، والثقة المتبادلة، واحترام تنوع الحضارات؛ وهو ما يتناقض مع استراتيجية القطب الواحد.
 
2- المساواة في السيادة: عانت الكثير من الدول في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، من التصنيفات والتسميات الغربية التي كانت تصف دول الجنوب بالدول النامية، ولم يكن لها صوت في صناعة القرارات الدولية، وكانت كل التكتلات الغربية سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم حتى عسكرية "تكتلات مغلقة" على نفسها مثل الدول السبع الصناعية الكبرى. بينما التكتلات التي تقودها الصين وروسيا والهند مثل "بريكس بلس"، و"منظمة شنغهاي للتعاون"؛ تكون فيها العضوية متساوية، ولا يوجد من يملك حق النقض "الفيتو" دون الآخرين. 
 
3- تكتلات عملاقة: لا ينقص التكتلات التي تقودها الصين وروسيا والهند أي شيء؛ حيث تمثل "منظمة شنغهاي للتعاون" نحو 40% من سكان العالم، ونحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتضم دولتين دائمتي العضوية في مجلس الأمن هما الصين وروسيا، و4 دول نووية (الهند وباكستان وروسيا والصين)، وتضم إلى جانب الدول العشر الأعضاء، دولتين بصفة مراقب، و14 دولة كشركاء حوار. ولا تقدم المؤسسات الدولية التي تقودها الصين إطاراً سياسياً أو اقتصادياً فقط؛ لكنها تضمن تعاوناً كبيراً في المجالات الأمنية والثقافية؛ حيث تحارب الدول الأعضاء في "بريكس بلس" و"منظمة شنغهاي للتعاون" ثلاثية (الإرهاب، والانفصالية، والتطرف)؛ وهي محفزات لانضمام دول عدة لهذه التكتلات، مثل كازاخستان وباكستان وأوزبكستان. كما أن "منظمة شنغهاي للتعاون" تُعد قوة دبلوماسية كبيرة في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة؛ حيث تصوت الدول الأعضاء في هذه المنظمة وكذلك تحالف "بريكس بلس"، بشكل متقارب في مختلف القضايا الدولية. 
 
4- رفض تسليح الدولار: أكثر ما يجذب الدول للانضمام إلى "بريكس بلس" و"منظمة شنغهاي للتعاون"؛ هو سعيها إلى ترسيخ نظام مالي عالمي جديد يقوم على التبادل بالعملات الوطنية بدلاً من الدولار الأمريكي؛ وهو ما يخفف الأعباء عن الدول التي تعاني من شح الدولار، ويعطي مساحة أكبر للدول التي تعاني من العقوبات وتتهم الولايات المتحدة بـ"تسليح الدولار".
 
5- التكامل والتنوع: تملك دول "بريكس بلس" و"منظمة شنغهاي للتعاون"، فرصة نادرة لتشكيل عالم بقواعد جديدة اعتماداً على ما تمتلكه من قدرات وتكامل وتنوع، فالمصانع الصينية والهندية لديها فرصة لتعزيز تجارتها الخارجية بما توفره لباقي الدول الأعضاء من تكنولوجيا ورقائق وسلاسل إمداد، بينما توفر إيران الغاز والطاقة للدول الأعضاء، ولدى روسيا وكازاخستان موارد ضخمة يمكن أن تكون بمثابة "شبكة أمان" كاملة في مجالات الغذاء والطاقة؛ وهو ما يحقق التكامل الاقتصادي لدول "بريكس بلس" و"شنغهاي للتعاون" التي تدافع عن "نظام تجاري متعدد الأطراف".
 
6- عزلة ترامب: كل خطوات الرئيس ترامب منذ عودته إلى البيت الأبيض في 20 يناير الماضي، تعجل بنهاية زمن القطب الواحد، وولادة عالم متعدد الأقطاب، ومن هذه الخطوات الآتي:
 
أ- تفكيك التحالفات: أسهمت خطط ترامب في تراجع علاقات الولايات المتحدة مع أبرز حلفائها في التكتلات العسكرية والسياسية حول العالم، فاليوم لم تعد العلاقة بين واشنطن وشركائها في حلف شمال الأطلسي "الناتو" كما كانت قبل يناير الماضي، بعد أن فرض ترامب نسبة إنفاق عسكري وصلت إلى 5% من الناتج المحلي على دول الحلف. ويشكك كثير من قادة الناتو في نيات ترامب بشأن الالتزام بروح ونصوص المادة الخامسة من ميثاق الحلف، بعد أن قال ترامب أكثر من مرة إنه لن يدافع عن أي دولة في الناتو لا تدفع النسبة المتفق عليها في الشؤون الدفاعية وشراء الأسلحة الأمريكية. وبعد التهديد بفرض رسوم جمركية على دول الاتحاد الأوروبي، توصل ترامب مع أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، إلى اتفاق تجاري يراه كثير من الأوروبيين ظالماً، ووصفه البعض بأنه "اتفاق فرساي الثاني"؛ كدليل على عدم عدالته. وتراجعت أيضاً علاقات ترامب مع حلفاء واشنطن التقليديين في تحالفات "أوكوس" و"كواد" الرباعي و"العيون الخمس"، وهو ما أشار اليه ترامب بنفسه عندما قال إن الولايات المتحدة خسرت الهند العضو في "كواد" لصالح روسيا والصين.
 
ب- فرض الرسوم الجمركية: لم يستثن الرئيس ترامب أحداً من فرض الرسوم الجمركية، ومطالبة الدول الأخرى باستثمار المليارات في بلاده، كما جرى مع اليابان وكوريا الجنوبية. وأدت هذه الرسوم الجمركية إلى إضعاف العلاقات الوثيقة التي كانت تجمع واشنطن مع العديد من دول العالم، والهند خير مثال على التأثير السلبي للرسوم الجمركية في علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها. 
 
ج- الانسحاب من المؤسسات الدولية: في الوقت الذي ينسحب فيه الرئيس ترامب من المؤسسات الدولية مثل اليونسكو ومنظمة الصحة العالمية، واتفاقية باريس للمناخ؛ تقدم الصين نفسها باعتبارها البديل؛ حيث أبدت استعدادها لتعويض الغياب الأمريكي، وتقديم مساعدات جديدة لهذه المنظمات؛ وهو ما قد يضعف الحضور والزخم الأمريكي على الساحة الدولية.
 
كوابح مضادة:
 
على الرغم من كل المحفزات التي قد تدفع نحو تشكيل عالم متعدد الأقطاب؛ فإن هناك كوابح وتحديات حقيقية تواجهها التكتلات التي تقودها روسيا والصين والهند؛ وهو ما يجعل الطريق طويلاً نحو بناء نظام بديل للنظام الأحادي القطبية. وتتمثل أبرز هذه التحديات في الآتي:
 
1- الصراعات الثنائية: هناك خلافات عميقة بين عدد من أعضاء "منظمة شنغهاي للتعاون"، منها الخلاف الصيني الهندي على الحدود، وكذلك الصراع الهندي الباكستاني على منطقة "جامو وكشمير"؛ وهو صراع تاريخي مستمر منذ استقلال البلدين عام 1947، وكذلك الخلافات بين إيران وأذربيجان، وأيضاً الصراع والمواجهات العسكرية بين أرمينيا وأذربيجان. 
 
2- معضلة التباينات: تعاني "منظمة شنغهاي للتعاون" و"بريكس بلس" من تباين واضح بين الدول الأعضاء في هذه التكتلات، فهناك فوارق كبيرة بين اقتصادي الصين وبيلاروسيا على سبيل المثال. بيد أنه في التكتلات الغربية، هناك تقارب كبير بين الدول الأعضاء، ففي مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى هناك تشابه في مستوى المعيشة وطبيعة الاقتصاد الصناعي والنظام السياسي القائم على الديمقراطية الغربية. 
 
ثلاثة سيناريوهات:
 
هناك ثلاثة سيناريوهات مُحتملة لمستقبل النظام الدولي، وهي تدور حول الآتي:
 
1- فخ ثيوسيديدس: يقوم هذا السيناريو على الصراع المباشر بين القوى الصاعدة وهي الصين ومن معها من ناحية، والقوة المهيمنة وهي الولايات المتحدة وداعميها؛ حول الهيمنة العالمية، على غرار ما أشار إليه سابقاً المؤرخ الإغريقي ثيوسيديدس حول الحرب البيلوبونيسية التي جمعت بين إسبرطة وأثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد. ويقوم مفهوم "فخ ثيوسيديدس" (Thucydides Trap) على أن أي قوة صاعدة لا بد أن تصطدم عسكرياً مع القوة المهيمنة حتى تأخذ مكانها حال رفض القوة المهيمنة التخلي عن مكانتها وامتيازاتها الدولية من دون حرب. 
 
2- حرب باردة جديدة: يمكن أن تقود دعوة الصين وروسيا إلى تأسيس عالم متعدد الأطراف إلى الانقسام الجيوسياسي بين معسكر الصين وروسيا من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر؛ الأمر الذي يمكن أن يفتح الباب أمام حرب باردة ثانية على غرار ما كان في زمن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق حتى عام 1991. 
 
3- إرهاصات التعددية: هو السيناريو القائم بالفعل في عالم اليوم، والذي يعني استمرار الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة الأولى على العالم منذ نهاية الحرب الباردة، لكن في نفس الوقت لا يمكن تجاهل الأقطاب الأخرى في العالم مثل روسيا والصين والهند التي باتت تشكل رقماً صعباً في معادلة الاستقرار العالمي.
 
ختاماً، قد يكون موكب العالم متعدد الأقطاب قد تحرك بالفعل، لكن الوصول إلى المحطة الأخيرة يحتاج إلى شروط وحيثيات أخرى لا تتعلق فقد بصعود الصين وروسيا والهند، بل أيضاً بمدى تراجع الولايات المتحدة وحلفائها.