لم تتمكن إثيوبيا ومصر والسودان من الاتفاق على حقوق حاسمة لتقاسم المياه خلال السنوات العصيبة التي سبقت تدشين سد النهضة، ما أثار مخاوف من تصاعد التوترات ما لم تتدخل إدارة ترامب بفعالية أكبر. في التاسع من سبتمبر/أيلول، افتُتح سد النهضة الإثيوبي الكبير (GERD) بعد أكثر من عقد من المفاوضات التي فشلت في وقف بناء المشروع المثير للجدل أو التوصل إلى اتفاقيات لتقاسم مياه المصب مع مصر والسودان، دولتي نهر النيل.
تبلغ الطاقة الإنتاجية الرسمية للسد، الذي تبلغ كلفته 5 مليارات دولار، 5000 ميغاواط، وفي حال استمرارها ستوفر طاقة كافية لإثيوبيا التي تعاني من شحّ الكهرباء، مع ترك كميات إضافية للتصدير. لكن بعد تشغيله بكامل طاقته، قد يُثير سد النهضة أزمات مع القاهرة والخرطوم، إذ يواجهان نقصًا محتملًا في المياه أو فيضانات ناجمة عن إطلاقات غير منسقة. أرسلت مصر على الفور رسالة إلى مجلس الأمن الدولي تُحذر فيها من أنها "لن تسمح لإثيوبيا بفرض سيطرة أحادية على موارد المياه المشتركة". ومع ذلك، فقد فقدت القاهرة والخرطوم نفوذًا كبيرًا بعد اكتمال المشروع.
في واشنطن، أشار الرئيس ترامب إلى السد في بيان صدر في يونيو/حزيران، سرد فيه النزاعات التي تعمل إدارته على حلّها، ولكن لم تظهر أي بوادر تُذكر على وساطة أميركية جادة منذ ذلك الحين. إذا رأى الرئيس بالفعل أن نزاع سد النهضة الإثيوبي الكبير وضعٌ مُهيأٌ للتدخل الأميركي، فسيحتاج إلى تنسيق سلسلة من الخطوات الدبلوماسية لحل مختلف الخلافات، لاسيما بين القاهرة وأديس أبابا.
آراء متضاربة حول حقوق مياه النيل
بعد استقلال السودان بفترة وجيزة، تبنى اتفاقية لتقاسم المياه مع مصر عام 1959 ومع ذلك، لطالما عارضت أديس أبابا هذه الاتفاقية، ودافعت عن حقها السيادي في بناء سد النهضة الإثيوبي الكبير، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن النيل الأزرق يستقبل حوالي 85 في المئة من مياهه من إثيوبيا.
ترى مصر في السد تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، لاعتمادها على النيل في أكثر من 90 في المئة من احتياجاتها المائية - مع أن التقديرات تشير إلى أن البلاد تفقد ما يقرب من 20-25في المئة من مياهها بسبب سوء الإدارة وحده. وسيتفاقم نقص المياه في السنوات القادمة بسبب تزايد أعداد السكان وتغير المناخ. على وجه الخصوص، تخشى القاهرة من انخفاض إمداداتها نتيجةً لتشغيل إثيوبيا السد بشكل منفرد وملء خزانه الضخم، ما قد يهدد الزراعة ومياه الشرب في مصر، وبالتالي الاستقرار الاجتماعي. وتزداد هذه المخاوف حدةً بالنظر إلى ما قد تفعله أديس أبابا خلال فترات الجفاف. لذا، تريد القاهرة اتفاقيةً قانونيةً ملزمةً تُنظّم ملء الخزان وغيره من العمليات لضمان عدم الإضرار بمصالح مصر الحيوية.
من جانبه، رأى السودان في سد النهضة الإثيوبي الكبير في البداية فرصةً لتنظيم تدفقات المياه والحد من الفيضانات. ثم أعرب لاحقًا عن مخاوف فنية وأمنية تتعلق بسلامة السد وتأثيره المحتمل على مرافق المياه السودانية. وقد دفعت هذه القضايا، بالإضافة إلى عدم التنسيق مع إثيوبيا، في نهاية المطاف إلى الاقتراب من موقف مصر.
في السنوات التي تلت بدء إثيوبيا بناء السد عام 2020، وملء خزانه تدريجيًا، وتشغيل أولى التوربينات عام 2022، لم تؤثر عمليات سد النهضة الإثيوبي الكبير على السودان أو مصر - ويعود ذلك جزئيًا إلى ثبات مواسم الأمطار خلال هذه الفترة. ولكن عندما تتغير الظروف حتمًا، فقد تقرر أديس أبابا تغيير إدارتها للسد بطرق تُقيّد تدفق مياه النيل.
المفاوضات السابقة، ردود الفعل الجديدة
مرّت الوساطة في نزاع سد النهضة الإثيوبي الكبير بمراحل عدة، بما في ذلك إعلان المبادئ المشترك عام 2015، وجهود الولايات المتحدة عام 2019 التي سهّلتها وزارة الخزانة والبنك الدولي، وجهود متجددة من الاتحاد الأفريقي. عندما انسحبت إثيوبيا من المفاوضات التي ترعاها الولايات المتحدة عام 2020، أشار مسؤولو الخزانة إلى أنه "لا ينبغي إجراء الاختبار النهائي وملء السد دون اتفاق".
لفترة من الوقت، وضعت القاهرة والخرطوم القضية جانبًا في ظل الحرب الأهلية في السودان والاضطرابات الإقليمية التي أثارها صراع غزة. إلا أن الخلاف عاد إلى نقطة الغليان الآن مع مواجهة سد النهضة الإثيوبي الكبير بكامل طاقته. وقد وصف كبار المسؤولين المصريين مرارًا بناء السد بأنه "خط أحمر" وتهديد وجودي، بينما أثار وزير الخارجية بدر عبد العاطي القضية على ما يبدو خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن. إلا أن تلك الزيارة لم تُظهر أي التزامات أميركية.
في إثيوبيا، ارتفعت المشاعر القومية بشدة عند اكتمال بناء السد، خاصة بعد أن ادعى الرئيس ترامب زورًا أن الولايات المتحدة موّلت بنائه. وخلال حفل الافتتاح، أشاد رئيس الوزراء آبي أحمد بإنجاز البلاد، وصرح بأن السد "لن يضر أشقاءها إطلاقًا" - وهو ما يمكن تفسيره على أنه بداية لمحادثات جديدة مع مصر والسودان أو مجرد وسيلة للحد من الانتقادات الدولية.
ماذا ينبغي لواشنطن أن تفعل الآن؟
ألمح الرئيس ترامب إلى نزاع سد النهضة الإثيوبي الكبير عدة مرات هذا العام. ففي منتصف يوليو، صرّح قائلاً: "لو كنتُ مكان مصر، لأردتُ أن تكون هناك مياه في النيل... ونحن نعمل على ذلك... وسيُحلّ". كما وصف السد بأنه "يمنع وصول المياه إلى النيل"، ووصف النهر بأنه "مصدر بالغ الأهمية للدخل والحياة"، وأعرب عن ثقته في أن القضية ستُحلّ "بسرعة كبيرة".
ومع ذلك، لا يوجد دليل على أن كبار مسؤولي الإدارة يعملون على حل النزاع. لم يشر البيان العام لاجتماع وزير الخارجية ماركو روبيو في 30 يوليو مع عبد العاطي إلى السد، بل ذكر فقط "انتقال السودان إلى الحكم المدني" والجهود المبذولة لتعزيز "السلام والأمن" الإقليميين. كما لم يشر بيان المكالمة الهاتفية التي أجراها روبيو في 22 يوليو مع رئيس الوزراء آبي مباشرةً إلى سد النهضة الإثيوبي الكبير، الأمر الذي فسّره العديد من المحللين الإقليميين على أنه تجنّب من واشنطن للوساطة. ومنتصف أغسطس/آب، عقد الرئيس السوداني عبد الفتاح البرهان اجتماعًا مطولًا مع المبعوث الأمريكي مسعد بولس في جنيف، لكنهما ركزا، بحسب التقارير، على حل الحرب الأهلية، وليس على نزاع سد النهضة.
كما أثبتت التهديدات الموجهة لإثيوبيا عدم فعاليتها في معالجة هذه القضية. فعندما انسحبت أديس أبابا من المحادثات التي ترعاها الولايات المتحدة عام 2020، خفضت إدارة ترامب الأولى 300 مليون دولار من المساعدات، لكن المشروع استمر دون انقطاع. والجدير بالذكر أن المساعدات الأميركية ارتفعت لاحقًا إلى أكثر من مليار دولار. فهذا العام، ساهمت واشنطن بما لا يقل عن 340 مليون دولار كمساعدات غذائية لشمال إثيوبيا على الرغم من التخفيضات الكبيرة التي أجرتها الإدارة في المساعدات الخارجية وإغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. أما بالنسبة لتهديد مصر السابق بمهاجمة السد، فإن هذا الخيار لم يعد واقعيًا بالنظر إلى الفيضانات الهائلة التي قد يسببها في الداخل، ناهيك عن الاتهامات المتبادلة وردود الفعل المحتملة لاتخاذ مثل هذا الإجراء ضد دولة ذات سيادة.
في المستقبل، يُرحَّب باهتمام الرئيس ترامب المُعلن بمعالجة النزاع، نظرًا للتأثير المُحتمل لسد النهضة على المصالح الأمريكية، وأهمها نقص المياه المُحتمل الذي قد يُفاقم الصعوبات الاقتصادية التي تُواجهها مصر ويُهدد استقرارها. وكما هو الحال في المفاوضات السابقة، سيتطلب حل الوضع ما يلي:
-صياغة نسخة مُحدثة من إعلان المبادئ لعام 2015، بما في ذلك اتفاقيات بشأن الاستخدام العادل وإدارة تصريف المياه.
-تنسيق تبادل شفاف للبيانات حول استخدام المياه.
-توفير ضمانات فنية بشأن عمليات ملء الخزان وتصريف المياه.
بدون هذه الخطوات، من المُرجح أن يظل السد مصدرًا للتوتر. وقد يستلزم حل نزاع سد النهضة أيضًا مُعالجة مجموعة مُعقدة من القضايا الدبلوماسية والأمنية الأخرى. بصفتها دولة غير ساحلية، تُعتبر إثيوبيا فتح ميناء مسألة وجودية، لكنها لم تتمكن من تحقيق ذلك من خلال المفاوضات الثنائية مع إريتريا أو الصومال أو أرض الصومال؛ بل إن مقديشو رفضت وألغت أي صفقات إثيوبية مع أرض الصومال. في يناير/كانون الثاني، أعاد المسؤولون الصوماليون العلاقات مع أديس أبابا في عملية توسطت فيها تركيا، لذا قد يكونون أكثر ميلاً للتوصل إلى اتفاق بشأن الموانئ. في غضون ذلك، تعمل مصر على نشر 10,000 جندي في الصومال لدعم بعثة الاتحاد الأفريقي هناك والمساعدة في محاربة حركة الشباب، التي صنفتها الولايات المتحدة جماعة إرهابية. يرى البعض في إثيوبيا هذا النشر تهديدًا، وقد يعيق الوجود العسكري المصري المزيد من التقارب بين أديس أبابا ومقديشو.
يمكن لإدارة ترامب المساعدة في حل هذه المشاكل من خلال ضمان وصول الموانئ الإثيوبية عبر الصومال مقابل حل تفاوضي لإمدادات مياه النيل إلى مصر والسودان. كما يمكن منح الصومال وإثيوبيا تمويلات تنموية لتحسين شبكات توزيع الكهرباء، إما من خلال ضمانات قروض أمريكية ثنائية أو من خلال تشجيع البنك الدولي ومجموعة بنك التنمية الأفريقي على وضع برنامج لتحقيق هذه الغاية. وقد استثمرت هذه المنظمة بالفعل في العديد من مبادرات تحديث الكهرباء في كلا البلدين. في كلتا الحالتين، ينبغي على واشنطن العمل بشكل وثيق مع مفوضية الاتحاد الأفريقي، التي حث رئيسها الحالي، محمود علي يوسف، مصر وإثيوبيا والسودان على العودة إلى المفاوضات خلال خطابه في افتتاح السد. وبدون تدخل دبلوماسي أمريكي، فإن النزاع مهيأ للتصعيد.