"في أقل من 3 أشهر خسرتُ والدي ووالدتي ومنزلي، وها أنا الآن مهدَدة بخسارة قدمي أيضاً بعد إصابتي البليغة"، هذا ما تعيشه الطفلة لمار حرز (15 عاماً) بعد أن استهدفتها طائرات الاحتلال مع والدتها وعائلتها في أثناء نزوحهم من مدينة غزة نحو جنوب القطاع عبر الممرات التي يصفها جيش الاحتلال بـ "الآمنة".
تعيش لمار وضعاً إنسانياً ونفسياً بالغ الصعوبة بعد عدة نكبات هزتها وعائلتها؛ إذ فقدت والدها في أثناء محاولته الحصول على طعام لهم، وقد ارتقى برصاص قناصة الاحتلال في تموز/يوليو الماضي في منطقة زيكيم أقصى شمال القطاع، وذلك في أثناء انتظاره المساعدات. ثم تلاه نزوحها من منزلها وتدمير الاحتلال له، وفي النهاية استهدافها ووالدتها وإخوتها في أثناء نزوحهم جنوباً، وانتظارها الآن قرار الأطباء بشأن بتْر قدمها نتيجة إصابتها.
كذبة المنطقة الآمنة
لم تكن الطفلة ضحية الصاروخ الذي قتل والدتها فقط، بل أيضاً كانت ضحية المزاعم الإسرائيلية بشأن "الممرات الإنسانية" و"المناطق الآمنة"، فقد تحولت هذه المسالك، التي يُفْتَرَضُ بها أن توفر الحماية، إلى فخ للموت، فاستشهد عشرات المدنيين في أثناء نزوحهم عبرها.
وخلال الأسابيع الأخيرة، كثّف الاحتلال حملاته الدعائية للترويج لما وصفه بـ "منطقة إنسانية آمنة" في منطقة المواصي غربي خان يونس، تزامُناً مع تكثيفه لمجازره، وتدميره مدينة غزة عبر الروبوتات المتفجرة، والمسيَّرات الانتحارية، والقصف العنيف، داعياً الغزيين إلى النزوح إليها باعتبارها "ملاذاً آمناً". لكن مجازره على الأرض في قلب هذه المناطق "الآمنة" وفي الطريق إليها كشف أن هذه الادعاءات لم تكن سوى فخ دموي جديد.
وتمتد المنطقة المعلَنة كمنطقة آمنة على شريط ساحلي ضيّق يبدأ من مشارف خان يونس شمالاً، بمحاذاة مدينة حمد الإسكانية، وصولاً إلى الجنوب الغربي للمدينة. ويغلب على المنطقة الطابع الصحراوي، لكنها منذ الأشهر الأولى للحرب امتلأت بالنازحين، لتصبح غير قادرة على استيعاب مزيد من الخيام أو العائلات.
وعلى الرغم من ادعاء الاحتلال أنها "آمنة"، فإن قواته تسيطر على أجزاء من المنطقة، وصولاً إلى شارع خمسة داخل المواصي، وتسجل بصورة متكررة عمليات إطلاق نار من الدبابات والجنود في اتجاه الخيام، وهو ما يؤدي إلى سقوط شهداء وجرحى يومياً.
ومنذ بداية الحرب، أعلن الاحتلال المواصي وغرب خان يونس "مناطق إنسانية آمنة"، إلاَّ إن هذه المناطق شهدت مجازر دامية، ارتقى خلالها آلاف الشهداء، معظمهم من المدنيين داخل خيامهم. وهكذا، تحوّل المكان الذي سُوّق له كملاذ إلى أكثر المناطق دموية منذ اندلاع الحرب.
"الرصاص يخترق خيامنا"
وفي شهادة حية على ما يرتكبه الاحتلال في "المنطقة الآمنة"، قال النازح محمد فتوح، الذي يسكن في منطقة المواصي، وتحديداً في منطقة أصداء، إن حياته هناك أشبه بالجحيم، وأضاف أنه "لا يوجد مكان آمن في كل المنطقة الإنسانية المزعومة، والموت أو النجاة منه أصبحا مسألة حظ"، في وصف يعكس عشوائية القصف الإسرائيلي على المدنيين ودمويته.
وأضاف محمد فتوح في حديث إلينا أن الاستهدافات الإسرائيلية مستمرة يومياً، وتتصاعد كل ليلة على الخيام في المنطقة.
وأوضح أن الطائرات المسيَّرة كانت تستهدف الخيام، إلاَّ إن بعض الصواريخ لم تنفجر بسبب اصطدامها بالرمال بدلاً من الأرض الصلبة. وبعد ذلك، شرع الاحتلال في الاستهداف بالطيران المروحي والصواريخ الثقيلة، بحيث تتعرض كل ليلة مجموعات من الخيام للقصف، وهو ما يؤدي إلى استشهاد العائلات وإصابتها، كما يسقط حولهم المدنيون بين شهيد وجريح، في مشهد مأساوي متكرر يومياً.
وأشار فتوح إلى أنه خلال الأشهر الأخيرة، أصبح دخول الرصاص إلى الخيام وارتقاء أفراد العائلات أمراً يومياً اعتيادياً، وقال إن قوات الاحتلال المتمركزة في أجواء من منطقة المواصي تقترب أحياناً إلى عمق المنطقة، مستهدِفة الخيام بإطلاق النار.
كما قال إن الخيام متراصة، وهو ما يعني أنه عندما تُستهدَف خيمة واحدة، تمتد الشظايا لتطال عشرات الخيام، الأمر الذي يتسبب بسقوط شهداء وإصابات على مسافات بعيدة من نقطة الاستهداف. فضلاً عن أنه شهد عائلات بأكملها تُطمر تحت الرمال وتلقى حتفها في إثر استهداف الاحتلال لتجمعات الخيام بصواريخ حربية.
اِسْتُشْهِدَتْ بين يديَّ
من جانبه، روى إبراهيم حمدي تفاصيل لحظات مأساوية عاشها في أثناء نزوحه في منطقة المواصي، حيث كان شاهداً على مشاهد دمويّة لمجازر متتالية هددت حياة مئات الآلاف من المدنيين: من أطفال، ونساء، وشيوخ. إنها مجازر وُصفت بالدامية، وتركت بصمتها القاسية في ذاكرتهم.
وأضاف إبراهيم في حديثه إلينا أن 4 أشهر مضت على مجزرة مروعة لا تزال تفاصيلها عالقة في ذاكرته، وستظل عالقة إلى الأبد؛ ففي منطقة المنتزه الإقليمي، ارتكب الاحتلال قصفاً دموياً استهدف مجموعة من الخيام، ارتقى في إثره 42 شهيداً، معظمهم من الأطفال. وكانت المشاهد مروّعة؛ وجوه بريئة تحولت إلى صور مأساوية وسط مئات المصابين في سلسلة غارات عنيفة ضربت نازحين نائمين في خيام من الخشب والقماش.
وكان إبراهيم بَيْنَ الذين هبّوا لنجدة الجرحى، ويروي أنه حمل طفلة غارقة في نزيف حاد، كان يراقب أنفاسها المتقطعة في كل لحظة، متشبثاً بأمل ضئيل في أن تصل حيّة إلى نقطة طبية قريبة أو الإسعاف، لكن حين وصل، كانت الطفلة قد فارقت الحياة، فلم يتمالك حينها دموعه.
وتابع: "شعرتُ وكأن روحي هي التي غادرت الجسد، لا روحها. شهداء متكدسون بعضهم فوق بعض، وأشلاء متناثرة، ودماء غمرت المكان، ورائحة الموت انتشرت في كل الأنحاء، والصراخ عمّ الأرجاء. هناك، في تلك النقطة التي لجأ إليها سكان من مختلَف مناطق القطاع بحثاً عن ملاذ آمن، اتضح أنها لم تكن سوى مصيدة موت، فهي تقع في قلب المنطقة التي أعلن الاحتلال أنها 'آمنة‘، لكنها تحولت إلى فخ دموي."
وشدد إبراهيم على أن كل زاوية في المواصي تحمل ذكرى مجزرة مروعة، فالقصف لا يتوقف، ويستهدف الخيام يومياً، ليخلّف وراءه شهداء جدداً في كل مرة، ويؤكد أن كل مَن عاش في هذه المنطقة يستطيع أن يروي ذكريات المجازر وأسماء شهدائها لكثرتها وتكرارها الموجع.
واختتم إبراهيم حديثه قائلاً: "منذ صدور أوامر النزوح الأخيرة من مدينة غزة، وصلت إلى المنطقة التي نقيم بها داخل المواصي عدة خيام: 3 على الأقل لمدنيين نازحين في منطقتنا فقط، واستُهدفت في الساعات أو الأيام الأولى من وصولها، وسقط مَن فيها من النازحين بين شهيد وجريح، وفي كل منطقة من المواصي تكررت هذه الجرائم تجاه النازحين حديثاً." مؤكداً أن هذه الاستهدافات تبرهن بصورة قاطعة أن المنطقة ليست ملاذاً آمناً كما زُعم، إنما مصيدة لقتْل المدنيين والأطفال، وجمْعهم في نقطة واحدة لإيقاع أكبر عدد من الضحايا، وجعْلها على مدار الأشهر الأخيرة أيضاً بؤرة للمجاعة وانتشار الأمراض، والتفلُّت الأمني.
بداية تصفية القضية
تقف مشاهد الدمار والقتل والتنكيل في "المنطقة الإنسانية الآمنة" وراء صمود العديد من سكان مدينة غزة في مدينتهم ورفْضهم النزوح نحو الجنوب، إذ يعتبر السكان أنهم بعدما شاهدوا ما يحدث للمدنيين والاستهدافات اليومية للمناطق الإنسانية، أصبح القصف العشوائي والقتل اليومي للنازحين سبباً كافياً للبقاء في مدنهم على الرغم من المخاطر.
أمَّا الشاب محمد بدر الدين، فقد قرر البقاء مع عائلته في مدينة غزة، مؤكداً أنه لن يغادر منزله تحت أي وضع، وأضاف أن فكرة النزوح نحو جنوب القطاع غير واردة مطلقاً، مستنداً إلى تجربة سيئة للغاية عاشها خلال النزوح في العام الأول من الحرب، والتي تركت لديه ذكريات مأساوية جعلت البقاء في المدينة خياره الوحيد على الرغم من المخاطر.
وأضاف في حديث إلينا أنه خلال نزوحه في منطقة المواصي منذ أيلول/نوفمبر 2023، فَقَدَ العديد من أفراد عائلته، وأن هذه المنطقة، التي كان من المفترَض بها أن تكون "إنسانية"، تحولت إلى منطقة موت حقيقية، حيث كان يرتقي مئات الشهداء في مجزرة.
وشدد على أن السبب الرئيسي لبقائه في مدينة غزة هو ما شاهده من مأساة في مناطق النزوح، مؤكداً أنه لن يغادر مدينته تجاه جنوب القطاع تحت أي وضع. وأضاف أن نجاح الاحتلال في حشْر سكان غزة في الجنوب سيكون بمثابة خطوة تمهيدية للتهجير القسري القادم خارج القطاع.
وقال بدر الدين: "جميعنا يعلم أن الخطوة التالية بعد حشْر سكان القطاع ستكون وضعهم في مخيمات شبيهة بالمعتقَلات النازية جنوب منطقة موراج، ثم البدء في مخطط التهجير القسري إلى الخارج، وتصفية قضيتنا، وهذا بالنسبة إلى أي شخص في غزة أمر مرفوض تماماً، وَدُونَهُ الموت بالنسبة إليَّ. لذلك، لن نكون جزءاً من هذا المخطط للتهجير، وسنصمد هنا مهما تكن النتائج".