• اخر تحديث : 2025-12-15 03:59
news-details
ملفات

استطلاع رأي الخبراء: التقارب التركي مع إيران والتباعد عن الكيان


تعدّ زيارة وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إلى إيران في الثلاثين من شهر تشرين الثاني العام 2025، محطة بارزة في رسم المشهد السياسي في المنطقة في ظل التغيّرات والجارية والمتسارعة في مختلف الملفات. ناقش الطرفان تطوير العلاقات الثنائية في سياق معالجة القضايا الإقليمية التي تحكم تطورات المنطقة وتحدد مستقبلها. وما بين التعاون والتنافس، تسعى هذه الورقة لمقاربة العلاقة التركية الإيرانية وتأثير سياساتها على الطرفين مع انعكاساتها في الساحات الأكثر سخونة: لبنان وسوريا، وتأثيراتها على السياسة الخارجية في المرحلة المقبلة. يتألف الاستطلاع من خمسة أسئلة أساسية، يتفرّع عنها بعض الأسئلة التي تدعم الأجوبة بالإيضاح والتركيز. وقد ساهم في الاستطلاع- مع الشكر والتقدير- كل من الخبراء في الشأن التركي: الدكتورة هدى رزق، الخبير التركي الأستاذ اسلام اوزكان، الأستاذ محمد أبو طالب والأستاذ عبد الناصر فقيه.
 
تدل زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان لإيران في تشرين الثاني 2025، إلى أن العلاقة التركية-الإيرانية محكومة بمزيج من التعاون البراغماتي والتنافس الوظيفي.
يتباين الخبراء في تحديد العامل الأقوى للتقارب، فبينما يرى البعض أن الاستقرار الإقليمي وملف سوريا هو المحور، يشدد آخرون على التهديد الإسرائيلي، أو العوامل الاقتصادية، أو التموضع تجاه الولايات المتحدة. بالمقابل، يرتبط التباعد التركي عن إسرائيل بملفات غزة، الضغط الشعبي،
والخلافات على النفوذ في سوريا، مع إجماع على أن هذا التباعد مؤثر لكنه لا يصل إلى حد القطيعة الكاملة.
 
عوامل التقارب التركي–الإيراني
بحسب استطلاع نشره مركز «الإتحاد» للأبحاث والتطوير عن مجموعة من الخبراء، رجح أنّ التقارب بين تركيا وإيران تحركه مصالح براغماتية ووظيفية متعددة، رغم وجود التنافس التاريخي (الشراكة التنافسية)، ويمكن تجميع عوامل التقارب في أربعة محاور رئيسية:
1. التهديد الإقليمي المشترك (السياسي والأمني):
- مواجهة التهديد الإسرائيلي: يرى الخبراء أن التوحش الإسرائيلي (خاصة بعد 7 أكتوبر 2023) والتهديد الوجودي الذي يمثله الكيان للاستقرار الإقليمي، إضافة إلى فائض القوة الإسرائيلية، يدفع الدولتين للتقارب والتنسيق.
-مواجهة الهيمنة الأجنبية: هناك رغبة متبادلة في تعزيز التكامل الاستراتيجي لمواجهة الهيمنة الأمريكية التي تعزز اليد الإسرائيلية في المنطقة.
-القلق من التفكك الإقليمي: الشعور المشترك بالتهديد من تفكك دول المنطقة إثنياً وطائفياً، مما ينعكس سلباً على الدولتين.
 
2. الضرورات الأمنية والحدودية:
-الأمن القومي المشترك: هناك حاجة لتنسيق استخباراتي وأمني مستمر لمواجهة الجماعات المسلحة التي تهدد أمن البلدين على طول الحدود (مثل حزب العمال الكردستاني بالنسبة لتركيا والأحزاب الكردية المعارضة بالنسبة لإيران).
-ملف الأكراد: ترى جميع الآراء أن رفض النزعات الانفصالية الكردية في البلدين، خاصة تلك التي تتلقى دعماً غربياً أو إسرائيلياً محتملاً، يمثل قاسماً مشتركاً حاسماً للتعاون.
 
3. المصالح الاقتصادية والطاقة:
-التجارة والمنفذ: يُعد الاقتصاد عاملاً حاكماً، فتركيا ترى في إيران سوقًا واسعًا، وإيران ترى في تركيا ممرًا التفافيًا حيوياً (منفذاً استراتيجياً) للتنصل من الضغوط والعقوبات الأمريكية والأوروبية القصوى.
-الطاقة: إيران مصدر موثوق للطاقة (الغاز الطبيعي) لتركيا بأسعار تفضيلية، مما يخلق مصلحة متبادلة مستمرة لتعزيز التعاون في هذا القطاع.
 
4. إدارة الملفات الإقليمية (الساحات الساخنة):
-سوريا والعراق: تُعد سوريا عامل تقارب حيوي، حيث يتطلب الوجود التركي في الشمال منصة حوار لتثبيت النفوذ وإدارة التوترات عبر «مسار أستانا».
-استقرار العراق: يتفق الطرفان على أهمية الحفاظ على استقرار العراق ومنع استخدام أراضيه لتهديد أمنهما القومي.
-المناورة الإقليمية: التقارب يمنح تركيا مساحة للمناورة ضد الضغوط الأطلسية والإسرائيلية في قضايا مثل قبرص وشرق المتوسط، وتبرز أهمية فلسطين ولبنان كخط دفاع أول لمواجهة التصعيد الإسرائيلي.
 
العامل الأكثر تأثيراً في رسم مستقبل التقارب التركي-الإيراني
تظهر التباينات بين الخبراء في تحديد الأولوية، فهناك رأي يقول إنّ التهديد الإسرائيلي يُعد العامل الأكثر أهمية وفعالية. ويتصاعد هذا التهديد نتيجة لعدم رغبة إسرائيل في وجود نفوذ تركي في سوريا، ورفضها مشاركة القوات التركية في قوة دولية في غزة، مما يزيد من احتمالية العداء بين تركيا وإسرائيل.
 
بينما يرى رأي آخر أن العوامل الداخلية في كلا البلدين، وطبيعة علاقتهما النهائية مع الولايات المتحدة الأمريكية وخصومها، هي التي ستحدد مستقبل هذا التقارب بشكل حاسم، خلافاً للاعتقاد السائد.
 
وأيضاً قد يكون العامل الأكثر تأثيراً هو الاستقرار الإقليمي وقضية سوريا، حيث أن تثبيت الاستقرار الإقليمي وحل النزاعات في سوريا هو المحور الأهم، إلى جانب القضايا الدولية المشتركة كالملف النووي الإيراني ورفع العقوبات، والتعاون الأمني والاقتصادي في قطاع الطاقة، وتطورات حرب غزة.
 
ويرجح خبراء آخرون أن يكون العامل الاقتصادي والتجاري هو الأكثر فاعلية حيث يظل الاقتصاد والتجارة الأكثر تأثيراً لدى أنقرة، مدفوعاً بحاجتها للسوق الإيرانية لكبح جماح التضخم، وضبط عمليات الهجرة الواسعة المحتملة عبر الممر الأفغاني-الإيراني-التركي، لما له من تداعيات اقتصادية واجتماعية وأمنية عميقة.
 
أسباب الابتعاد التركي عن إسرائيل
يرتكز الابتعاد التركي عن إسرائيل على مجموعة متضافرة من العوامل الأيديولوجية والسياسية والإنسانية والأمنية. يتمثل الدافع الأقوى والأكثر فورية في الضغط الشعبي الهائل الناجم عن العدوان المستمر في غزة والمأساة الإنسانية، مما أجبر القيادة التركية على تبني خطاب حاد ضد إسرائيل رغم التناقض بين القول والممارسة (كتوقف التجارة المعلن مقابل استمرارها سراً)، ويجعل التطبيع القريب صعباً. ومع ذلك، تبرز عوامل أخرى كـمحددات استراتيجية قوية:
-الخلافات على النفوذ الإقليمي وسوريا: تُعد الساحة السورية المحدّد الأقوى للتباعد، حيث يتنافس الطرفان على ملء الفراغ الإقليمي. ترى تركيا أن التدخل الإسرائيلي المتصاعد في سوريا يهدد مكاسبها ويطيح بإدارتها للواقع السوري، خاصة دعم تل أبيب للنزعات الانفصالية (كالأكراد في الشمال أو الدروز في السويداء)، مما يمس مباشرة بالأمن القومي التركي ووحدة أراضيها.
 
-الأمن القومي والتهديد الوجودي: هناك شعور متزايد في أنقرة بأن أمنها الإقليمي مهدد بشكل مباشر من قبل إسرائيل، لا سيما مع توسع رقعة الحرب والنزعة التوسعية الإسرائيلية التي تهدد استقرار المنطقة وتطال بشكل غير مباشر الأراضي التركية، إضافة إلى التحالفات العسكرية الإسرائيلية في شرق المتوسط (مثل التعاون مع قبرص) التي تُنظر إليها كتهديد مباشر.
 
-التباين في الملف الفلسطيني: يشكل الدعم التركي لحركة حماس والمساعي التركية لدخول "قوة أممية" إلى غزة (ضمن مفهوم "إرث غزة")، وتأييدها لحل الدولتين، نقطة تباعد رئيسية، حيث ترى تل أبيب في أنقرة داعماً لتنظيم "إرهابي".
-هشاشة التطبيع السابق: عدم تحقيق محاولات التطبيع السابقة مكاسب استراتيجية كافية لتركيا (خاصة في ملفات الطاقة) جعل العلاقات هشة وجاهزة للانهيار عند أول أزمة كبيرة.
 
بشكل عام، بينما يمثل الضغط الشعبي الدافع الأكثر فورية وشدة، فإن الخلافات في سوريا والتهديد للأمن القومي التركي هما المحددان الاستراتيجيان الأقوى لمستقبل التباعد.
مآل التقارب بين طهران وأنقرة والتأثير الإقليمي (سوريا ولبنان)
 
يشير التحليل إلى أنه هذا التقارب ذو طبيعة وظيفية وبراغماتية ومحدودة، ولا يرقى إلى مستوى التحالف الاستراتيجي الكامل، حيث يرى البعض أن تركيا تمارس سياسة "المناورة والتوازن" لتعظيم مصالحها، فيما يحذر آخرون من الطبيعة الانتهازية والمصلحية للسياسة التركية التي لا يمكن لإيران الركون إليها في اللحظات الحرجة، ولكن بالمقابل، يتيح هذا التقارب فك العزلة عن إيران ويمنع الاستفراد بها في مواجهة القوى الغربية وإسرائيل.
 
إقليمياً:
في سوريا: للتقارب دور كبير عبر آلية أستانا في تثبيت مؤقت لمناطق النفوذ، وزيادة الضغط المنسق على "قسد"، مما يعقد مهمة القوات الأمريكية. كما يمثل حاجة متبادلة لاستقرار الحكم، حيث تدرك تركيا قدرة إيران على زعزعة الاستقرار، وتدرك إيران قدرة تركيا على الضغط على حلفائها. ويسمح هذا التفاهم بـعودة إيرانية "سلمية" محتملة، وبناء عوامل تعاون إضافية لاستقرار تنشده تركيا.
 
في لبنان: ينعكس التقارب إيجاباً على القوى السياسية الإسلامية (كالجماعة وحزب الله)، ويخلق جبهة مساندة سياسية وأمنية في ظل الاعتداءات الإسرائيلية. وقد يتيح لتركيا دوراً غير مباشر في تخفيف التوتر الحدودي عبر التواصل مع الأطراف الإقليمية والغربية، كما قد ينعكس حصراً في ملف العلاقة مع حزب الله، مع محاذير تتعلق بالمكونات السنية الأخرى المرتبطة بالمنافسين الإقليميين (السعودية والإمارات).
تأثيرات التباعد التركي الإسرائيلي
 
-التأثير السياسي والاقتصادي للتباعد التركي الإسرائيلي
-سياسياً وأمنياً: التباعد يعزز الصورة الأخلاقية لتركيا في العالم الإسلامي، ويدعم طموحاتها للقيادة الإقليمية، لكنه يبقى سطحياً ومبهماً طالما بقيت الدولتان ضمن المنظومة الأمريكية. الاستثناء الوحيد الذي قد يحول التباعد إلى عداء كامل هو قيام إسرائيل بشن هجوم مباشر على قاعدة تركية في سوريا. 
 
-اقتصادياً: كان الأثر الكلي للحظر التركي محدوداً نسبياً على المدى الطويل على الاقتصاد الإسرائيلي، ولكنه أثر في قطاعي البناء والتشييد تحديداً، مما رفع التكاليف اللوجستية وزاد أسعار بعض السلع المستوردة. بالمقابل، يرى البعض أن إسرائيل تبقى بحاجة إلى الموارد التركية، وأن طرق التوريد عبر دول ثالثة (كاليونان ومصر) أو عبر التجارة مع رام الله تبقى قائمة، وأن خطوط الطاقة (مثل خط باكو-تبليسي-جيهان) لم تتوقف.
 
-تداعيات التباعد على الصراعات الإقليمية
-سوريا: كلما ازدادت القطيعة التركية-الإسرائيلية، انخفض مستوى التعاون الاستخباري بينهما، وزاد القلق الإسرائيلي من "عودة النشاط الإيراني". بالمقابل، قد تلجأ إسرائيل لخطوات تصعيدية أو غير محسوبة لكبح جماح التفاهم التركي-الإيراني. التباعد التركي عن إسرائيل يصب في صالح جبهة المقاومة، لكن الواقع الحالي لا يزال عكس ذلك.
 
-الإمارات: لا توجد تداعيات مباشرة وكبيرة تذكر، حيث يحرص الطرفان على عدم تخريب مسار المصالحة القائم منذ 2021، رغم دعمهما لأطراف متنافسة إقليمياً (في ليبيا والسودان). ومع ذلك، هناك من يرى أن التباعد التركي-الإسرائيلي سيدفع الإمارات (التي هي ركن في التحالف الصهيو-خليجي وعراب تدمير نفوذ الإخوان) إلى الدفع بمشاريع مناهضة لأنقرة في سوريا (مثل دعم الأنشطة الاحتجاجية أو تمويل الأكراد)، وقد ينعكس الأمر التهاباً في ساحات صراع خارجية.
-تداعيات التباعد على العلاقة مع واشنطن
 
يمثل التقارب التركي-الإيراني رسالة سياسية قوية ومناورة استراتيجية موجهة للولايات المتحدة الداعمة لإسرائيل، والهدف هو تأكيد استقلالية القرار التركي.
يضع الموقف التركي المناهض لإسرائيل تركيا في خلاف مباشر مع الإدارة الأمريكية والكونغرس، مما قد يعرقل صفقات الأسلحة (مثل صفقة F-16)، ويؤدي إلى مسار أكثر توتراً وعزلة لتركيا عن الغرب على المدى الطويل، كما ستعمل لوبيات الضغط المرتبطة بإسرائيل على الدفع نحو لهجة أمريكية حادة تجاه أنقرة والتلويح بالعقوبات.
 
وتُظهر الاستجابة الأمريكية تجاه التغير في التموضع التركي (التقارب مع إيران والتباعد عن إسرائيل) أنها ستكون مزدوجة ومحسوبة بعناية، مدفوعة برغبة واشنطن في الحفاظ على نفوذها واستقرار المنطقة، وقد تأخذ أشكالاً منها:
-الضغط والعقوبات الرمزية: من ناحية، ستصدر الإدارة الأمريكية إدانات علنية لخطاب تركيا المناهض لإسرائيل، وقد تفرض إجراءات عقابية رمزية (بضغط من الكونغرس)، مثل تأجيل صفقات الأسلحة كطائرات F-16. هذا يخدم هدف منع تآكل فعالية العقوبات المفروضة على إيران أو نجاح تركيا وإيران في إنشاء نظام أمني إقليمي يقلل النفوذ الأمريكي بشكل كبير.
 
-الاحتواء والمساومة الاستراتيجية: من ناحية أخرى، تدرك واشنطن أن تركيا عضو في الناتو وركيزة محورية لا يمكن الاستغناء عنها في استراتيجيتها الإقليمية. لذلك، يُنظر إلى التقارب التركي-الإيراني على أنه قد يوفر قناة اتصال غير مباشرة مع طهران في بعض الأزمات. وتُفضل واشنطن استراتيجية المساومة، حيث تخفف الضغط على تركيا (كصفقة F-16)، مقابل مطالبة أنقرة بتخفيف تعاونها مع إيران.
 
-إدارة التوازن في سوريا: تهدف واشنطن إلى ضبط التطورات والخلافات التركية-الإسرائيلية، مع إبقاء نفوذ واسع لتركيا في "سوريا الجديدة" شريطة ربط مصالحها بواشنطن، وفي نفس الوقت مراعاة الهواجس الأمنية الإسرائيلية. تسعى الإدارة الأمريكية لـإدارة التوازن بين الطرفين ومنع انهيار الاستقرار النسبي الذي تريده في سوريا عبر تشجيع التفاهمات الثنائية، وذلك لأنها ترى أن أمن إسرائيل أولوية، لكنها في الوقت ذاته لا تريد خسارة تركيا كلياً.
في المحصلة، الرد الأمريكي هو موقف متوازن لمصالحها، يهدف إلى تجنب الانفجار المباشر، ويُبقي صراع النفوذ التركي-الإسرائيلي تحت مظلة المراقبة الأمريكية لخدمة أهدافها الإقليمية الكبرى (مواجهة الصين).