شهدت العاصمة الغينية، كوناكري، احتجاجات واسعة، في 13 يوليو 2022، ضد المجلس العسكري الحاكم في البلاد، برئاسة الكولونيل، ممادي دومبويا، وذلك بعدما تصاعد السخط الداخلي بسبب توقيف ثلاثة من عناصر "الجبهة الوطنية للدفاع عن الدستور" المعارضة.
سخط متنامٍ:
على الرغم من ترحيب الكثير من الغينيين في البداية بالانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس ألفا كوندي في سبتمبر 2021، بيد أنه الأشهر الأخيرة شهدت تزايداً حاداً في الغضب الداخلي من المجلس العسكري الحاكم في البلاد، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1. احتجاجات عنيفة: وقعت اضطرابات عنيفة بالعاصمة كوناكري، نتيجة الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الشرطة، حيث رشق المتظاهرون سيارات الشرطة وعمدوا إلى نصب المتاريس وإضرام النار في إطارات السيارات. وارتكزت غالبية هذه الأعمال في بعض ضواحي العاصمة كوناكري، على غرار بامبيتو وحمدالاي ووانيدارا، وهو ما أدى إلى إصابة العشرات من المواطنين، منهم نحو 17 شرطياً.
وجاءت هذه الاحتجاجات على أثر الممارسات الأخيرة التي قامت بها الشرطة الغينية، لاسيما فيما يتعلق بإلقاء القبض على ثلاثة من عناصر "جبهة الدفاع عن الدستور" المعارضة، بمن فيهم منسق الجبهة، عمر سيلا، بالإضافة إلى مغني الراب، ألفا ميدياو باه، (المعروف بدجاني ألفا) ومامادو بيلو باه، حيث تم اعتقالهم خلال انعقاد أحد المؤتمرات الخاصة بالجبهة، مما دفع رئيس الحكومة الأسبق، وزعيم "اتحاد القوة الديموقراطية لغينيا"، مامادو سيلو ديالو، إلى الدعوة للتظاهر ضد السلطات الحاكمة، ويقيم ديالو بالخارج منذ نحو ثلاثة أشهر، وهو على قوائم المطلوبين بتهم تتعلق بقضايا فساد.
وتجدر الإشارة إلى أن "جبهة الدفاع عن الدستور" المعارضة، والتي تتألف من ممثلين عن المجتمع المدني وقادة عدد من الأحزاب السياسية، بالإضافة لمجموعة من الشخصيات العامة، كانت قد تشكلت في أكتوبر 2019، للاحتجاج على تعديل الدستور الذي سمح للرئيس، ألفا كوندي، بالترشح لفترة ولاية ثالثة. وقادت الجبهة الحراك الشعبي ضد كوندي، وهو ما مهد الطريق أمام تدخل الجيش الغيني في سبتمبر 2021 والإطاحة به.
2. دعوات سابقة للتظاهر: كانت الجبهة الوطنية للدفاع عن الدستور قد دعت، في يونيو الماضي، إلى تنظيم تظاهرات حاشدة في 23 من الشهر ذاته، وذلك لتجاوز الحظر المفروض من قبل السلطات الحاكمة، حيث نددت الجبهة برغبة المجلس العسكري في ترسيخ نفوذه والبقاء في السلطة، منتقدة الإدارة الأحادية للشؤون العامة من قبل المجلس العسكري ورفضه للحوار.
وكانت هذه الدعوات للتظاهر جاءت رداً على إعلان "المجلس الوطني الانتقالي"، والذي يمثل السلطة التشريعية، فترة انتقالية مدتها 36 شهراً، وهي فترة أقصر قليلاً من الفترة الانتقالية التي كان قد أعلن عنها رئيس المجلس العسكري، الكولونيل مامادي دومبويا، والتي كانت مقدرة بنحو 39 شهراً، وهو ما رفضته قوى المعارضة، داعية إلى محاكمة كافة المتورطين في أعمال العنف السياسي السابق.
وقررت "الجبهة الوطنية للدفاع عن الدستور" قبل يوم واحد من انطلاق التظاهرات تعليقها حتى 30 يونيو، لإعطاء الفرصة للمفاوضات التي دعا إليها رئيس الوزراء، محمد بيفوجوي، والدخول في حوار مع السلطات الحاكمة، من أجل تجنب مزيد من العنف في البلاد، خاصةً أن المجلس العسكري كان قد أصدر قراراً في 13 مايو 2022، بحظر أشكال التظاهرات كافة في البلاد.
محاولات الاستيعاب:
كانت الاحتجاجات التي شهدتها كوناكري هي الأولى من نوعها وحجمها منذ الانقلاب العسكري الذي شهدته البلاد في 5 سبتمبر 2021، وهو ما أدى إلى محاولة السلطات الغينية لاستيعابها، خاصة في ظل تماسك المعارضة، وعلى الرغم من تغير موقف الإيكواس، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1. مساعي المجلس العسكري للتهدئة: أصدر المجلس العسكري الغيني قراراً، في 16 يوليو الجاري، بتعيين وزير التجارة والصناعة، برنارد جومو، رئيساً للوزراء بالإنابة، بديلاً عن رئيس الوزراء الحالي، محمد بيفوجي. وكان الأخير قد تم تعيينه على رأس الحكومة الانتقالية، في أكتوبر الماضي، لإدارة المرحلة الانتقالية.
وربطت بعض التقديرات هذه الخطوة بتعثر الجهود التي قام بها بيفوجوي خلال الفترة الماضية للحوار مع قوى المعارضة والأحزاب السياسية وقادة المجتمع المدني، حيث قاطعت العديد من الأطراف هذه المحادثات، بالتالي يبدو أن المجلس العسكري يسعى إلى التهدئة مع قوى المعارضة، من خلال الدفع بشخصية جديدة تتولى ملف الحوار، وتحظى بقبول أكبر في الداخل الغيني.
واتساقاً مع هذا الطرح، أعلنت السلطات الغينية تعيين ألفونس تشارلز رايت، وزيراً للعدل، وهو المدعي العام السابق في محكمة الاستئناف في كوناكري، والذي كان قد تحدى سلطة الرئيس السابق، ألفا كوندي، بالإفراج عن معارضي ترشح كوندي لفترة ولاية ثالثة.
2. قلق من تماسك قوى المعارضة: ترتبط التحركات الداخلية التي يقوم بها المجلس العسكري الحاكم في غينيا بوجود حالة من القلق المتنامي لدى المجلس من تصاعد الغضب الداخلي، لاسيما في ظل اتحاد جماعات المعارضة، إلى جانب حزب الرئيس السابق، ألفا كوندي، "التجمع لشعب غينيا" ضد مساعي المجلس العسكري تمديد الفترة الانتقالية، والممارسات الراهنة ضد قوى المعارضة، وتعد هذه المرة الأولى الذي يجتمع فيه حزب الرئيس السابق كوندي وقوى المعارضة على قضية واحدة.
وأعلن ائتلاف "المجلس الوطني الديمقراطي"، والذي يضم حوالي 20 مجموعة سياسية، رفضه لهذه المدة، معتبراً بأن هذا الأمر يشكل تهديداً للسلم والوحدة الوطنية، ومشيراً إلى أن المجلس العسكري يتجاهل الدعوات لإجراء حوار شامل تحت إشراف دولي.
3. تحولات في موقف الإيكواس: تأتي الاحتجاجات التي شهدتها غينيا بالتوازي مع تراجع الضغوطات التي تمارسها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس" على السلطات الغينية، فعلى الرغم من تبني المجموعة لقرارات بفرض عقوبات اقتصادية على المجلس العسكري الغيني في سبتمبر الماضي، داعيةً إلى ضرورة إجراء انتخابات خلال ستة أشهر فقط، إلا أن الاجتماع الأخير للمجموعة، مطلع يوليو الجاري، قرر رفع العقوبات المفروضة على غينيا، وكذا مالي وبوركينا فاسو، مع بقاء عضوية هذه الدول معلقة لحين إجراء الانتخابات.
ومع ذلك، هددت الايكواس بفرض عقوبات اقتصادية على غينيا حال لم تقترح السلطات الغينية جدول زمني جديد، قبل نهاية يوليو الجاري، بيد أنه من المرجح أن يتم التوصل إلى اتفاق بين الجانبين خلال الفترة المقبلة، خاصةً مع تعيين وسيط جديد لغيني من قبل المنظمة، هو الرئيس البنيني السابق، توماس بوني يايي.
توتر قائم:
يبدو أن المشهد في غينيا كوناكري مرشح لإفراز جملة من الارتدادات المحتملة خلال الفترة المقبلة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1. تكرار الاحتجاجات الداخلية: رجحت بعض التقديرات المحلية والغربية أن الغضب الداخلي في غينيا قد يتجه للتصاعد، في ظل اعتقال السلطات الغينية للعديد من المتظاهرين، واستمرار الاحتجاجات في بعض المناطق. وفي هذا السياق، أعلن رئيس عمليات "الجبهة الوطنية للدفاع عن الدستور"، إبراهيم ديالو، انسحاب الجبهة من أي حوار مع السلطات الحاكمة، والاتجاه نحو تكثيف الاحتجاجات السلمية للضغط على المجلس العسكري.
ووجهت "المحكمة الخاصة لمكافحة الجرائم الاقتصادية والمالية"، والتي أنشأها المجلس العسكري الحاكم لمكافحة الفساد، اتهامات لكبار المسؤولين في حزب الرئيس السابق، ألفا كوندي، "التجمع لشعب غينيا"، والعديد من قوى المعارضة، على غرار وزير النقل السابق والمرشح الرئاسي السابق، سيلو دالين ديالو، ورئيس الوزراء السابق، ابراهيما قاصوري فوفانا، في خطوة اعتبرتها قوى المعارضة بأنها تمثل محاولات من قبل السلطات الحاكمة تصفية حساباتها والقضاء على كافة المرشحين المحتملين في أي انتخابات مقبلة.
2. تصاعد التنافس الروسي – الفرنسي: احتفظت موسكو بعلاقات قوية مع نظام ألفا كيندي السابق في غينيا، وبالتالي مثل سقوط الأخير خسارة حليف مهم لروسيا، بيد أن ثمة تقارير غربية ألمحت إلى وجود مساع مكثفة تقوم بها موسكو من أجل الحافظ على نفوذها في كوناكري.
وعلى الجانب الآخر، مثّل الانقلاب العسكري في غينيا فرصة بالنسبة لفرنسا لتعزيز نفوذها هناك، على عكس حالة مالي. فقد طلب رئيس المجلس العسكري الحاكم في غينيا، الكولونيل ممادي دومبويا، مؤخراً مزيداً من الدعم من باريس، لاسيما فيما يتعلق بتأمين الحدود الغينية مع مالي، حيث باتت الأخيرة بؤرة تمركز رئيسة لعناصر فاجنر الروسية في المنطقة، ويبدو أن فرنسا مستعدة لتقديم هذا الدعم. ولذلك ربما تشهد الفترة المقبلة مزيداً من التنافس بين موسكو وباريس في كوناكري، وهو ما سيلقي بظلاله على المشهد الداخلي المأزوم في البلاد.
وفي الختام، لا تزال حالة الاضطرابات في غينيا مستمرة، مع بقاء احتمالات تصاعد حدة الاحتجاجات العنيفة قائمة بقوة خلال الفترة المقبلة، خاصةً حالة استمرار محاولات السلطات الغينية لقمع المعارضة، وتصاعد التنافس الروسي – الفرنسي.