بعد تعثر المجلس النيابي في انتخاب رئيسٍ للجمهورية، وإثر التدخلات الخارجية الدامغة في مجمل الشؤون الداخلية اللبنانية، تحديدًا في الشأن الرئاسي، من خلال حركة "الموفدين" الخارجيين إلى لبنان، أبرزها زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي الجديد لبيروت جان إيف لودريان، وإقامته الطويلة المرتقبة في العاصمة اللبنانية، التي قد تمتد لغاية انتخاب الرئيس العتيد، بحسب ما نقلت وسائل الإعلام.
لاريب أن هذه الحركة مهما كان هدفها، ومهما حاولت بعض الأقلام تجميلها، وإضفاء الطابع الإيجابي عليها، وطرحها تحت أسم "مبادرات"، غير أنها في نهاية المطاف، هي تدخّل في الشؤون اللبنانية، ومحاولات فرض إملاءاتٍ تخدم مصالح دول هؤلاء الموفدين المذكورين، كون هذه الدول ليست بجمعياتٍ خيريةٍ.
وسط هذه الأجواء، إضافة إلى انتظار بعض المسؤولين اللبنانيين، ما ستخرج به لقاءات قادة بعض الدول المؤثرة في لبنان، علّها تسهم في إيجاد حلٍ للأزمة الرئاسية، وكأنهم تخلوا عن واجباتهم الوطنية، وباتوا ينتظرون "التوليفة" الخارجية للاستحقاق الرئاسي.
أمام هذا الواقع الداخلي المأزوم، وانتهاك السيادة اللبنانية، ومحاولات مصادرة القرار اللبناني المتكررة، يستذكر مرجع سياسي عايش حقبة تولي الرئيس العماد إميل لحود رئاسة الجمهورية اللبنانية، موقفًا بارزًا للرئيس، رفض من خلاله محاولة فرض الإملاءات الأميركية على لبنان، علمًا أنه واجه وحيدًا المحاولات المذكورة.
وفي التفاصيل يروي المرجع أن في صيف 2005، زارت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس لبنان، عقب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والانسحاب العسكري السوري من الأراضي اللبنانية، وبعد عقد الاتفاق الرباعي بين حزب الله وفريق "14 آذار" في الانتخابات النيابية في حينه، وسط مقاطعةٍ دوليةٍ للرئاسة الأولى آنذاك، بعد تمديد المجلس النيابي ولاية لحود الدستورية في أيلول 2004، ثم صدور القرار الأممي 1559. أي أن هذه الأحداث والوقائع تؤكد أن "الجنرال المقاوم" ترك وحيدًا في تلك الحقبة، يواجه الهجمة الدولية التي استهدفته، وبلغت حد اتهامه في ارتكاب جريمة اغتيال الحريري. غير أنه لم يأبه لكل ذلك، وعندما جاءت رايس لبنان آنئذ، اختتمت جولتها بزيارة قصر بعبدا، على رأس وفدٍ دبلوماسيٍ أميركي كبيرٍ مؤلفٍ من خمسة عشر عضوًا، في حضور المستشار الإعلامي في رئاسة الجمهورية رفيق شلالا، الشاهد على ما دار في هذا اللقاء. يومها بادرت رايس بالقول: "انا هنا لأنقل لكم "أفكار" و"مطالب" الإدارة الأميركية في شأن المرحلة المقبلة، وهي أربعة:
أولًا- هدنة مع "إسرائيل".
ثانيًا- ضبط الحدود الجنوبية ومنع تحركات المقاومة.
ثالثًا- فك الارتباط السياسي مع حزب الله.
رابعًا- تهيئة الأجواء الملائمة لانخراط لبنان في "ديمقراطية الشرق الأوسط الجديد".
هنا رد الرئيس قائلًا: "من المفترض أن تكون الدوائر المختصة في الخارجية الأميركية قد وضعتكم في صورة ما قلته لوزيري الخارجية الأميركية كولن بول ومادلين أولبرايت السابقين. فحاولت رايس تجاهل الأمر. عندها، توجه لها لحود بالقول: "سأكرر ما أكدته لأسلافك في الإدارة الأميركية":
أولا- نحن في حالة حرب مع "إسرائيل" التي لاتزال تحتل أراضٍ لبنانيةٍ، وتسرق المياه اللبنانية، فلا هدنة على الحدود.
ثانيًا- لقد طبعت الإدارة الأميركية صورة محرر الولايات المتحدة من الاستعمار البريطاني جورج واشنطن على عملتها، والمقاومة اللبنانية هي من حررت لبنان، وهي في الوجدان اللبناني، كواشنطن لدى الأميركيين، فكيف نفك الارتباط السياسي معها؟.
ثالثًا- مادامت "إسرائيل" تحتل أراضٍ لبنان، وتعتدي على السيادة اللبنانية، وتخرق الأجواء والمياه اللبنانية والحدود البرية، فالمقاومة مستمرة، وهذا حق مشروع لنا.
رابعًا- لا أحد يعلمنا الديمقراطية، فبيروت هي "أم الشرائع"، ففيها أنشئت فيها أول جامعة حقوق في العالم في زمن الدولة الرومانية في القرن الأول الميلادي، وفي هذه الجامعة، سنّت أولى القوانين الدستورية في العالم. أمام تمسك لحود بهذه الثوابت، كشفت رايس أن من إلتقتهم من السياسيين اللبنانيين، وافقوا على "المطالب الأميركية" التي حملتها إلى لبنان، فأجاب الرئيس الجنرال: "أنا رئيس البلاد وأنا من أوقع المعاهدات الخارجية وكل ما يتصل بها"، فردت رئيسة الدبلوماسية الاميركية: " إذًا، لا شيء نتحدث عنه".
عندها سألها لحود: "لماذا أنت هنا إذا؟". ثم غادر صالون الاستقبال إلى مكتبه الشخصي، من دون أن يودّع الوفد الأميركي، وهذا كله مدوّن في الدوائر المختصة في القصر الجمهوري، ويشهد عليه المستشار رفيق شلالا. لحود الممتنع راهنًا عن الإطلالات الإعلامية والمقابلات الصحافية، اكتفى بالتعليق على كل ما ورد آنفًا قائلًا: "هذه المرحلة تتطلب رجال دولة وأصحاب ضمير".