عنوان مقال نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الاميركية بقلم محللها السياسي المتخصص في الشؤون الخارجية لإيشان ثارور، وفيه:
ناشد السناتور عن الحزب الديمقراطي من نيويورك تشارلز إي شومر في قاعة مجلس الشيوخ بعد ظهر الأربعاء قيم المثل العليا الأميركية وقال شومر: "بينما نتحدث، تتجه أنظار العالم إلى هذه القاعة، وتتساءل عما إذا كانت أميركا لا تزال مثال الديمقراطية الساطع، والمدينة المشرقة على التل: ما هي الرسالة التي سنرسلها إلى الديمقراطيات الوليدة التي تدرس دستورنا، وتحتذي بقوانيننا وتقاليدنا على أمل أن تتمكن هي أيضاً من بناء بلد محكوم برضا المحكومين؟".
لكن مجموعة من المشرعين اليمينيين عارضت خلال جلسة مشتركة للكونجرس التصديق على الأصوات الانتخابية التي تؤكد فوز الرئيس المنتخب جو بايدن. وكان من المفترض أن يكون هذا إجراءً شكلياً، لكن الرئيس ترامب مهّد الطريق لحدوث مواجهات غاضبة من خلال رفضه قبول الحكم الصادر في انتخابات تشرين الثاني \نوفمبر وترويجه الخاطئ لنظريات المؤامرة زاعمًا وجود تزوير جماعي لأصوات الناخبين. ولدغدغة مشاعر قواعدهم الانتخابية، واغتناماً لفرصة سياسية قبل بدء الدورة الرئاسية المقبلة قرر عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين البارزين قيادة الهجوم نيابة عن ترامب.
بعد لحظات فقط، اقتحم حشد من أنصار ترامب من اليمين المتطرف تدابير الحماية حول مبنى الكابيتول التي اتضح أنها كانت ضئيلة بشكل صادم، واقتحموا المبنى وأغرقوا الإجراءات التي كانت تجري والبلاد في الفوضى؛ إذ مات ما لا يقل عن أربعة أشخاص في هذه الاضطرابات. واضطر المشرعون الأميركيون إلى البحث عن مأوى لهم، والانزواء تحت المكاتب، والاختباء وراء عدد قليل من حراس الأمن المسلحين. لقد انتشرت الغوغاء في قلب الديمقراطية الأميركية المهيب، وداهموا مكاتب الكونجرس مع اعتقاد واضح بالإفلات من العقاب على ما يبدو.
لقد عانى بعض المعلقين والسياسيين الأميركيين كثيراً في البحث عن تعبيرات لغوية تصف ما كان يحدث. أشار بعضهم إلى أنه يشبه كثيرًا حالة عدم الاستقرار في مناطق الحرب بالشرق الأوسط عندما تحدثوا عن غضب الجماهير. وأشار آخرون إلى فساد الطغاة الوضيعين في جمهوريات الموز عندما تحدثوا عن تحريض ترامب على التمرد. وقال آخرون إن ما حدث كان يشبه نمط العالم الثالث في الفوضى المعادية لأميركا؛ لكن في قاعات الكونجرس كانت تصرفات الغوغاء بمثابة تدنيس للشخصية الأميركية نفسها. وقال بايدن في تصريحات أدلى بها في وقت لاحق الأربعاء إن الأحداث "لا تعكس أمريكا الحقيقية. ولا تمثل من نكون".
ومع تدفق بيانات الصدمة والفزع من حلفاء الولايات المتحدة، حزن أركان السياسة الخارجية في واشنطن على ما حدث لصورة أميركا في العالم. فغرد رئيس مجلس العلاقات الخارجية ريتشارد هاس قائلاً: "هناك الكثير يجب عمله من أجل الانتقال السلمي للسلطة، والاستثناء الأمريكي، ولكوننا المدينة المشرقة على التل".
وما حدث في مبنى الكابيتول أعطى خصوم واشنطن المفترضين الكثير من الحجج لإدانة عقود من الخطاب الأميركي والسياسة الأمييكية. فقد كتب رئيس زيمبابوي إيمرسون منانجاجوا على تويترمنتقداً العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على بلاده: "أظهرت أحداث الأمس أن الولايات المتحدة تفتقر إلى الحق الأخلاقي في معاقبة دولة أخرى تحت ستار دعم الديمقراطية".
وقال الرئيس الإيراني حسن روحاني إن الأحداث الدرامية التي وقعت في مبنى الكابيتول "أظهرت مدى ضعف الديمقراطية الغربية". وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشون ينغ مع تلميح لا يخلو من عجرفة: إن زملائها: يأملون في أن ينعم الشعب الأمريكي بالسلام والاستقرار والأمن في أسرع وقت ممكن".
لكن الصحفية والمؤرخة الأميركية آن أبلباوم كتبت في مجلة ذا أتلانتك تقول: "بعد ما حدث الأمس سيكون قد فقدوا واحداً من مصادر الأمل لهم، وحليفاً كان يمكنهم الاعتماد عليه"، في إشارة إلى الحركات المعارضة الغاضبة التي تكافح ضد الأنظمة الاستبدادية. إن قوة النموذج الأميركي ستكون أكثر قتامة مما كانت عليه من قبل؛ وسيكون من الصعب الاستماع إلى الحجج الأميركية".
لكن هل هذا صحيح بالفعل؟
إن حديث البعض بورع حول المثال الأميركي وعجز الأميركيين البارزين الواضح عن الحديث عن فوضى الأربعاء عند آخرين، كما لو كان من العادي أن يحدث – حسناً، لقد حدث بالفعل – هما وجهان لقصر النظر نفسه، فأحدهما يبالغ في تأثير أميركا الأخلاقي في العالم، والآخر يقلل من عمق الخلل المتأصل بالفعل في نظام الولايات المتحدة.
ما حدث في مبنى الكابيتول كان أميركياً خالصًا، مرتبطًا بتقاليد طويلة من جنون العظمة اليميني والعنصرية المتأصلة المرتبطة بالقومية. كان البعض من حشود الشغب يلوح بأعلام الكونفدرالية؛ لقد تم تحريضهم من قبل رئيس استغل جزءًا عميقاً من المظالم كان موجوداً قبل فترة طويلة من توليه السلطة.
فهناك استطلاعات رأي تُظهر بالفعل أن جيل الشباب من الأميركيين أقل تقبلاً للاعتقاد بطبيعة "الاستثنائية" لبلادهم، وأكثر ميلاً إلى أن الولايات المتحدة تؤدي دورًا محدودًا ومتواضعًا على المسرح العالمي. لكن يبدو أن الأكبر منهم سنًا، بما في ذلك الشخصيات الرئيسة في مؤسسة واشنطن هم الذين يشعرون بالحاجة إلى التمسك بأساطير "الاستثنائية" الأميركية.
يعتبر الكثيرون في الخارج أن رؤية "المدينة المشرقة على التل" قد ماتت ألف مرة. فقد كان من الوهم بالنسبة إلى البعض إخفاء الانقلابات التي دبرتها واشنطن، والأنظمة العسكرية العميلة التي حددت سياساتها الوطنية لعقود. وانسحق إيمان آخرين بالمثال الأميركي في عنابر التعذيب في أبو غريب والتريليونات العديدة من الدولارات التي أُنفقت خلال العقدين الأخيرين على حروب الولايات المتحدة المدمرة.
ثم جاء ترامب الذي شكك صراحةً في صحة رؤية الاستثناء الأميركي قبل أن يستخدمها كعصا قومي فاضح لمهاجمة المعارضين من اليسار. وأصبحت أميركا تحت ولايته في الأغلب استثنائية في حجم معاناتها خلال جائحة كورونا. وعلى الحدود الشمالية وعبر المحيط الأطلسي، بإمكان الناس هناك أن يجدوا أسبابًا للاعتزاز بالرعاية الصحية الشاملة في بلدانهم وهم يشاهدون الويلات الصحية التي تشهدها أميركا. ويمكنهم أن يروا في الاضطرابات العرقية التي استمرت أسابيع في الولايات المتحدة الصيف الماضي، بالإضافة إلى وشوم النازيين الجدد التي يرتديها بعض مثيري الشغب في الكابيتول دليلاً على أن تجارب مجتمعاتهم مع الديمقراطية المتعددة الثقافات ربما كانت تتمتع بوضع أفضل.
وقال رئيس الوزراء البولندي السابق دونالد تاسك على تويتر: "هناك ترامب في كل مكان، لذا يجب على الجميع الدفاع عن الكابيتول"، محوّلاً ترامب إلى استعارة للمخاطر التي تواجه الديمقراطيات الليبرالية، بينما حذّر رئيس مجلس النواب البرازيلي رودريغو مايا من احتمال حدوث تمرد مماثل في بلاده إذا خسر الرئيس اليميني المتطرف جاير بولسونارو حليف ترامب في انتخابات العام 2022.
وبعيداً عن المدينة المشرقة على التل، أصبحت الولايات المتحدة نذير شؤم لأيام مظلمة مقبلة.