لم تأت الرغبة الاميركية بالانسحاب من منطقة الشرق الاوسط في تلميحات وايماءات انما أعلن ذلك الرئيس الاميركي السابق (ترامب) ولمرات وبالنص (لم تعد منطقة الشرق الاوسط من اولوياتنا)!
لم يكن الشرق الاوسط يوما بعيدا عن المصالح الاميركية بل يعتبر القلب النابض للمصالح الاميركية لثلاثة اسباب اولها الموقع الجغرافي الذي يتوسط العالم واحاطته بالبحار والمحيطات والخلجان، وبالاحتياط النفطي والغاز الكبير بالإضافة الى الوجود الاسرائيلي الذي يمثل ولاية من ولايات اميركا.
ان بدء التفكير الاستراتيجي الاميركي بالانسحاب من منطقة الشرق يعود لأسباب داخلية وخارجية، حيث ان الازمة الاقتصادية التي تعصف بالولايات المتحدة منذ اربعين عاما والتي بدأت تتصاعد لا بسبب (جائحة كورونا) كما يدعون فهذا (الوباء) تجتاح الكرة الارضية وبذا فان الحال واحد، فيما تبقى اي من الدول قادرة على الصبر والمطاولة ومواجهة هذا التحدي وفق ادواتها المتاحة وتحضيراتها المسبقة ومتانة بناها التحتية والبنية العقائدية لشعبها.
ان (هذه الازمة الاقتصادية) التي يطول الحديث عن اسبابها ولكن باختصار ان النظام (الرأسمالي) بدأ (يصاب) بالشيخوخة اسوة باي حضارة تحمل اسباب قوتها وضعفها معا!
اجتماعيا فان المجتمع الاميركي (لمم) ويخفي في داخله صراعا (عرقيا) يمتد من مراحل التأسيس والحرب الاهلية التي راح ضحيتها الالاف، ومعلوم ان هذه (التناقضات) تنفجر حين تتوفر لها الفرصة المناسبة، ومجيء (ترامب) عبر هذه المرحلة من تاريخ اميركا بكل صدق وهو يعلن تمثيله لـ (الجنس الأبيض) دون بقية الاجناس، ونختم هذا الامر بما قاله الرئيس الاسبق (اوباما) في لقاء اخير (نعم نحن منقسمون بشدة).
ان الانفاق العسكري الكبير على القواعد الاميركية والبالغ عددها على الاغلب (650) قاعدة متوزعة على ارجاء ألعالم باتت تشكل ثقلا ماليا كبيرا على امريكا لذا فان تقليصها بات جزء من الاستراتيجية الاميركية او كما قال ترامب (المال مقابل الحماية).
ليس من السهل ان تنسحب الولايات المتحدة من موقع استراتيجي مثل الشرق الاوسط لكن خياراتها باتت صعبة، وباتت ترى ان الصين توازيها في المحيط الهادي الذي تقع الصين في ادناه وأربع جمهوريات اميركية (ثلث سكان اميركا) بالجهة الاخرى.
الخطة الاستراتيجية للولايات المتحدة بعد انسحابها من الشرق الاوسط، تقضي:
- محاولة صناعة تكتل من (اصدقاء اميركا) مثل (اسرائيل مصر الاردن المغرب وربما السودان مع تمويل خليجي).
- فسح المجال امام تركيا الى المزيد من التمدد في مساحة (الامبراطورية العثمانية).
ومنها منطقة الشرق الاوسط لضمان مصالح اميركا والغرب والحفاظ على اسرائيل وهو تحرك (تحت النظر)!
- تشكيل تكتلات صغيرة تدعمها الكتل الكبيرة مثل ما يسمى بـ (الشام الجديد) ليضم العراق ومصر والاردن وإلحاق لبنان وسوريا والشتات الفلسطيني به وايجاد ارض لإسكان الفلسطينيين تحت رقابة الدول (العميلة).
- الضغط على روسيا من قبل اميركا واوروبا واشغالها في منطقة الاوراس والدول المنحلة عن الاتحاد السوفيتي السابق لأبعاده عن الشرق الاوسط او التفاهم معه لتقسيم المصالح.
- خلق ازمات بالمنطقة خاصة بين تركيا التي تمثل الخط (السني) وإيران التي تمثل الخط (الشيعي).
- اشغال إيران وباكستان في الدخول مع حرب طويلة مع طالبان في افغانستان وابعادها عن منطقة الشرق الأوسط
- صناعة احزاب وشخصيات عسكرية ومدنية وشباب يمثلون وجهة النظر الاميركية لخلق حالة من التوازن بالدفاع عن المصالح الأميركية.
هذا المخطط الاميركي يصطدم بتحديات مختلفة منها:
- ان اميركا ما عادت تمتلك ادوات القوة القديمة التي تؤهلها لدفع المزيد من المال في منطقة معقدة ومتشعبة المشاكل والازمات.
- ليس للولايات المتحدة عقيدة فكرية تنتمي لها المجتمعات كي تدافع عنها مثل اي عقيدة سياسية او دينية انما مبنية عقيدتها على الهيمنة العسكرية والتآمر وحين يغيب الغطاء العسكري تفقد اميركا مصادر قوتها.
- ان الشخصيات الحاكمة من (عملائها) أصبحوا حجر عثرة امام شعوبهم وليس لديهم (كاريزما) تستطيع ان تدير الدولة دون الرعاية الاميركية المباشرة.
- يمثل صعود المقاومة كـ (دولة موازية) في عدد من البلدان العربية مدعوما من قبل (الجمهورية الاسلامية) مشروعا مستقبليا لدول مضادة للمشروع الاميركي وككتلة دولية سياسيا واقتصاديا وعسكريا.
- لقد فقدت اسرائيل الكثير من مصادر قوتها واسباب تواجدها سواء على مستوى الداخل وما تشهده من فوضى سياسية وازمة اقتصادية وخسارة العديد من الدول في دعمها. او على مستوى الخارج بعد ان شهدنا العشرات من التظاهرات تخرج لمناصرة القضية الفلسطينية وانقسام حاد في مجلس الكونغرس الاميركي بهذا الشأن.
- ان دول (التطبيع) لم تستفد يوما من مشروع (التطبيع) بل اصبحت أكثر فقرا وضعفا ونقمة على (التطبيع) فقد بقي في حدوده الرسمية ووسيلة لضغوط الشعوب على حكامها.
- ان دول الخليج فقدت تماسكها فلا مجلس التعاون الخليجي فاعلا ولا سواه كما ان (صدمة الانسحاب الاميركي) وسحب الدفاعات الجوية (الباتريوت) جعلهم في خيبة ودون ادنى التفكير بالبديل.
- ان ذاكرة الامة عن الاستعمار التركي (سيئة) فالفترة التي حكمت فيها الدولة العثمانية سواء للعرب او الدول الاخرى ادخلتهم في اتون الظلام والتخلف، وان (السنة) لا يرون في تركيا (صديقا مضمونا)، كما ان تركيا تستخدم قواتها (العسكرية) بالتمدد والاحتلال وهذا يضعف من قوتها العقائدية وينهك جيوشها في حال المواجهة ناهيك ان الجيش التركي ليس على وفاق مع حكومة اردوغان وقد أعدم العشرات منهم ومازالت السجون تعج بالمئات الاخرين.
- شكلت الجمهورية الاسلامية عمقا استراتيجيا عقائديا بالمنطقة، وقف معها في اشد الظروف ووقفت معه في ظروف أصعب ولم تتنازل عنه رغم كل الاغراءات من رفع الحصار وغيره، وهذا (العمق) أكثر ثباتا من اي تكتل اخر لاستعداده للتضحية وتملكه عقيدة دينية راسخة ونجاحه في الادارتين العسكرية والسياسية.
- على الرغم من ان الصين لم تدخل الى ميدان الشرق الاوسط عسكريا الا انها عملت في خطين الاول ارسلت بعض قطعاتها الحربية الى البحر المتوسط قبالة سوريا كـ (اشارة رمزية) لدعم نظام الحكم في سوريا والثانية في الحرب التجارية الناعمة في دعم الجمهورية الاسلامية بمواجهة العقوبات الاقتصادية وعقد الاتفاقيات بمليارات الدولار ومع العراق ايضا وتقديم مقترحات حلول اقتصادية الى لبنان وغيرها من الدول، والمنفعة الاكبر انها شغلت اميركا بعيدة عنا.
بعد هذه الايضاحات نسأل؛ كيف لنا ملء الفراغ؟
من الواضح ان الدول العربية، وخاصة بعد (الربيع العربي) فقدت الكثير من سمات وجودها كدول، وكمؤسسات واستطاعت الولايات المتحدة ان تصنع الفوضى بها وان تعيد ترتيب اوراق بنائها بأموال الخليج كما يحدث مثلا في تونس والجزائر (الان) وفي ليبيا ومصر والسودان والعراق ولبنان والعراق واليمن.
في ذات الوقت فان اعادة انتاج المنطقة وملء الفراغ يحتاج الى استراتيجية وتضحيات، فاذا ما تم التوافق بين الصين وروسيا وإيران وباكستان والهند، فان تكتلا سياسيا واقتصاديا
سيتشكل وقادرا على ملء الفراغ، في وقت تملك الجمهورية الاسلامية اوراقا كثيرة للتأثير واعادة العلاقة مع دول المنطقة خاصة السعودية، والعمل على طمأنة الجميع ان امن المنطقة يعود لدولها وهي فرصة قد لا تعوض تاريخيا.