منذ ان ظهر الظلم والاستغلال من قبل الانسان لاخيه الانسان نشأت المقاومة، وعبرت عن نفسها باشكال مختلفة، سواء بالمواجهة المباشرة مع الظالم و المستغل او بالكلمة، او الامتناع عن اداء مهمة، فيها تجاوز على قيم الانسانية...
لم يذكر لنا التاريخ اسماء جميع الابطال من رجال ونساء ممن قادوا حركات التحرير ومقاومة الظلم، لكن ما وصلنا يكفي ان نقف اجلالا واحتراما لكل هؤلاء الشجعان، سواء الذين حفظهم التاريخ او غابوا عنه لسبب او لاخر.
لا اعتقد ان هناك دولة في العالم لم تفخر بابطال التحرير والكفاح والمقاومة سواء ضد الحاكم الظالم او ضد المستعمرين الغزاة، لذا وانت تتنقل من بلد لاخر تجد ان الساحات العامة والحدائق والشوارع والمتاحف تزينها تماثيل ونصب باشكال مختلفة جميعها تخلد هؤلاء الابطال، كما ان المناهج الدراسية تتضمن سيرتهم ووقائعهم وتضحياتهم بالشكل الذي تتوارثه الاجيال جيلا بعد جيل.
ربما نجحت الثورات والمقاومة ضد الظلم والظالمين، وانتصرت للمستضعفين وغيرت وجه التاريخ لانها تحولت الى نموذج للامم الاخرى، وربما كانت التحديات فلم توفق في مهمتها مثل "ثورة سبارتكوس" لتحرير العبيد، (١١١ ق.م ٧١ ق .م) وقتل بطلها سبارتكوس، لكنها مازالت مدعاة فخر للرومان الذي ثار على امبراطوريتهم، او من قبل دول العالم الاخرى وتحولت الى افلام سينمائية واعمال فنية ولوحات وقصائد وغيرها..ومثلها (حركة جيفار) حيث قتل على يد الجيش الحكومي وبتخطيط اميركي، لكن رمزيته باقية ليومنا هذا.
صحيح ان ثورات التحرير في العالم تتعرض الى النقد والتجريح سواء من السلطة الحاكمة المستهدفة من قبل المقاومة او من شخصيات ضعيفة بالمجتمع، لكن هذا النقد يظل جزء من يوميات المقاومة وتاريخها فمثلا "ثورة العشرين" في العراق تعرضت بعد انتهائها الى سيل من النقد حيث حملوا الثوار مسؤولية الدماء التي اريقت وحملوهم مسؤولية التجاوز على الهيبة البريطانية كما فعل مزاحم الباججي والشاعر جميل صدقي الزهاوي، لكن الثورة نجحت واخرجت القوات البريطانية وشكلت حكومة عراقية.
المقاومة تأخذ اشكالا مختلفة ووفقا للظروف والحاجة والهدف، فمرة تعتمد على حمل السلاح ومرة نشر الثقافة والوعي عبر الكتابات والاعمال الفنية وغيرها، ومرة عبر العصيان المدني والاضرابات والاحتجاجات، فمثلاً ان الثورة في الهند لم تحتج الى الى حمل السلاح بل الى العصيان المدني ومقاطعة البضائع الاجنبية، فكان الانتصار للثورة بقيادة المهاتما غاندي، لكن في ظروف اخرى اضطر الثوار الى حمل السلاح ومواجهة جيوش الطغاة مثل ثورة سبارتكوس، او الثورات التي كانت ضد نظامم حكم بني امية مثل ثورة الامام الحسين ع و التوابين والمختار الثقفي وزيد بن علي ويحيى بن زيد والحسن بن زيد العلوي ومحمد ذو النفس الزكية وثورة العبيد في البصرة وغيرها من الثورات.
حتى تتكامل الثورة لابد للثائر او "المقاوم"، من اسلحة يتسلح بها منها "الحكمة ورباطة الجاش" والشجاعة والاستعداد للتضحية، وهذه الصفات جميعها ان لم تتوفر فسيخسر المقاوم معركته الصعبة والمعقدة .
ان اول شرط يتوفر بقيادة المقاومة هو "الايمان بالنصر" وهذا شرط ليس من السهل الايمان به لانه في الغالب ان امكانيات الحاكم الظالم او المستعمر تفوق امكانيات "المقاوم" سواء بالعدد او العدة والمال بالاضافة الى الاعلام، لكن قيادات المقاومة ترى النصر والانتصار قبل موعده بكثير كما انها "قيادات المقاومة" لا تنظر الى حسابات الخسائر بقدر حسابات النصر فمثلاً تسمى دولة الجزائر ببلد "المليون شهيد" ترى هل خسر المستعمر الفرنسي مثل هذا العدد؟ الجواب كلا لكنه هزم وتحررت الجزائر، وهذا يتمدد على جميع حركات التحرر العربية التي طردت الاستعمار بكل عناوينه عن ارضها، ونضرب مثلا اخر في فيتنام التي واجهت الاستعمار الياباني ثم الفرنسي ثم الاميركي ورغم التفاوت بالامكانيات الا ان المقاومة الفيتنامية انتصرت بعد ان قتل من الفيتناميين مايقارب المليونان بينما قدر عدد القتلى الامريكان لوحدهم "57500" والفرق واضح بين خسائر الطرفين لكن المهم ان تنتصرر وتطرد المحتل عن ارضك فالمرء لايشعر بوجوده وكرامته وسيادة وطنه في ظل الاستعمار يقول الشاعر السياب: "إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون أيخون إنسان بلاده؟ إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟
ومهما اظهر المحتل من لين فهو "مستعمر" ومحتل يقول الشاعر احمد شوقي :
"وللمستعمرين وان ألانوا قلوب كالحجارة لا ترق"..بقي سؤال لابد من مناقشته: هل ان طول امد الاستعمار يجعل منه واقعا يجب الخضوع له؟ لاشك هذا تفسير سيء كما تحاول جهات متخاذلة ان تروج له، كما في قضية الكيان الصهيوني باعتبار ان طول امد مكوثه على ارض فلسطين يجعل من الاخرين التعامل معه كـ"واقع حال" الاستعمار العثماني احتل الدول العربية على مدى "400" عام ، لكنه لم يتحول الى واقع حال وظهرت حركات تحرر في جميع الدول العربية والاسلامية لمناهضته وطرده فعاد وخرج الى موطنه الاصلي "تركيا" والمقاومة الجزائرية استمرت ضد الاستعمار الفرنسي على مدى "132" عاماً ومارست فرنسا اشكال الاضطهاد والقتل والتشريد ومحاولات مسخ الهوية لكنها خرجت بالنهاية تحت ضربات المقاومة، فكيف لنا ان نصف الوجود الصهيوني على ارض فلسطين بانه "واقع حال"؟ بل انه استعمار منذ عام (1948) ولابد من ان يرحل صاغرا مهزوماً، فالظروف التي سهلت احتلال ارض فلسطين بدأت تزول وليس له من حق على ارض فلسطين قدر غرام واحد.
المقاومة وفن ادارة المجتمع
ان من اكبر التحديات التي تواجه حركات التحرر في العالم هي ادارة " المجتمع" حيث تتعرض الى اعلام مضاد يضخم من حجم الخسائر ويحول المعركة مع الاعداء الى "فاجعة "كما لاحظنا الاعلام السعودي والمصري ومعظم دول التطبيع اثناء معركة "سيف القدس" وهذا الامر يتطلب اعلاماً مضاداً يجعل من "الانتصار" اكبر من حجم الخسائر، فالشعب الفلسطيني يزداد عدداً ، والصهاينة في تناقص وهجرة من ارض فلسطين وكفانا شاهداً تلك المراة الفلسطينية التي سالوها عن سبب انجابها تسعة اولاد رغم ضنك العيش فاجابت : "هؤلاء التسعة "مقاتلون "وليسوا اولادا فقط"...
او كما دخل الجيش الاميركي الى مغارة في احد جبال فيتنام فسمعوا صوتا لامراة فيتنامية تهدهد لطفلها كي ينام بنشيد الثوار!!.
لذا فان المقاومة ملزمة بالرد على الاعلام المضاد وكفانا فخراً ان وزارة العدل الاميركية صادرت "136" منصة اعلام قريبة من "المقاومة" وكان سماحة السيد حسن نصر الله قد علق على الاجراء الاميركي " قائلا (لقد آذتهم هذه المنصات).
نعم تشكل المقاومة ثقافة خاصة في التحريض على قتال الاعداء او التعريض بجرائمهم وفضحها، وتابين الشهداء وتعظيم مواقفهم واشاعة ذكرهم ونموذجهم، واعلاء صوت الشعر كما يقول محمود درويش: "نحن لانكتب شعراً ولكننا نقاوم"، وكذلك اعداد الاناشيد الثورية وغيرها، وفي ذات الوقت هنالك سؤال صعب: لما كانت الخسائر فادحة من قتل وهدم وتشريد وتجويع واعتداء على الاملاك والاعراض، كيف نجعل من مواطني شعبنا يرقون الى للمهمة التي انطلق من اجلها الثوار؟.
هذه مهمة صعبة فليس الجميع يمتلكون ذات الثقافة والوعي لدى ابطال المقاومة حتى يقال ان من وشى عن مكان الثائر "جيفارا" كان راعيا للاغنام، معتقداً ان معارك الثوار مع الجيش الحكومي لدولة بوليفيا تزعج "القطيع".!
حتى تتولد ثقافة "مقاومة" لدى الشعب لابد من خطاب ديني موحد وخطاب ثقافي واعلامي موحد ناهيك عن الترتيب في "التسلسل الاداري" وتوزيع المهام كي لاتتداخل الوظائف.
هذا النظام يجب ان يدركه "المواطن" بحيث يفهم كيف يتعامل مع السلطة وسطوتها ومع المقاومة ومهمتها وهي مفارقة قد تبدو صعبة لكنها مع مرور الايام تصبح جزء من يومياته.
المقاومة من جهتها قد استفادت من تجارب بعضها لمااستقته من تجارب حركات التحرر التي سبقتهم بالعمل والجهاد والكفاح والبعض الاخر من الواقع المعاش والتكيف مع الظروف...
يكاد يجمع المفكرون ان اكثر حركات التحرر نظاماً هي التي تلقت الدعم من الجمهورية الاسلامية في ايران، والسبب باختصار شديد يعود للاسباب الاتية:
1. ان القيادة في ايران ذات عقيدة ثابته وراسخة تؤمن بحرية الشعوب ولاتتنازل عن هذا الدعم مهما كانت الضغوط بل يشكل عمقاً استراتيجيا لها.
2. نجاح التجربة السياسية والاقتصادية والدينية لايران، لذا بات نموذجها في تجربة جميع فصائل المقاومة الاسلامية.
3. عدم تردد ايران في الاعلان عن دعم فصائل المقاومة على كل الاصعدة وتحمل هذه المسؤولية الكبيرة.
4. صمود الجمهورية الاسلامية امام التحديات الدولية الخارجية والداخلية ، اضاف قوة ومنعة لقادة المقاومة .
5. يمثل الحرس الثوري الايراني نموذجا متكاملا لاي مشروع مقاومة في التدريب والتلسيح والتعاون.
لا شك هناك نقاط كثيرة لامجال لذكرها لكن دعنا نتوقف عند ما كتبه الدبلوماسي الايطالي "ماركو كارنيلوس" على موقع "ميدل ايست اي" بعنوان: "كيف سيشكل فك الارتباط الامريكي للشرق الاوسط"؟، حيث يقول ان "ارتباط الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الاوسط، سواء كان حقيقياً أو متصوراً، ينشر القلق، مع إحساس بفراغ القوة القادم الذي يجب ملؤه. حتى الآن، يبدو أن الكيان الوحيد المنظم والمصمم على القيام بذلك هو "محور المقاومة": إيران وحلفاؤها الإقليميون، بما في ذلك سوريا وحزب الله اللبناني والحوثيين وفصائل المقاومة في العراق وفلسطين".
اما مدى صدق هذا التصور فتؤيده الحقائق، ان جميع التحديات التي واجهت "محور المقاومة" قد انتهت بالانتصار وسرعة اعادة البناء، وبناء الثقة وارتفاع منسوب التاييد مع السرعة في التدبير ايضاً.
الدولة والمقاومة
قد تبدو هذه الجدلية صعبة لكن وبمجرد ان نستعيد ادبياتها وحيثياتها الواسعة سنفقد الخيط والطريق الى الحقيقة ونقع بالتنظير. اولاً علينا ان نفرق بين الحكومة والدولة، فالحكومات تتغير والدولة ثابتة، وهذا التعريف والتفريق لايصلح مع الانظمة الديكتاتورية فمنذ ثلاثة قرون تحكم اسرة "ال سعود" واقل من ذلك في البحرين والمغرب وقطر وعمان والاردن والامارات، فصعب التفريق لدى المواطن بين الحكومة والدولة!.
في الدولة ذات النظم الديمقراطية يتم تداول السلطة بشكل شفاف عبر الانتخابات فلماذا يتم تشكيل فصائل "المقاومة"؟.
المقاومة الحقيقية وحركات التحررغالبا ما تتشكل ضد الانظمة الديكتاتورية لانها متمسكة بالسسلطة ومستحوذة على المال والقرار وتمارس التعسف والقتل والارهاب على شعوبها وبذا فان المقاومة تكون مسلطة ضد جهة الاستبداد لاستعادة الحرية للانسان في ارضه وعمله وكرامته وثروات بلده، والذهاب الى منهج الانتخابات سيكون الشعب مشتركا في اختيار قيادته.
المقاومة الاخرى في مقاومة قوات الاحتلال كما في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، وهو حق مشروع كفلته القوانين الدولية.
هناك مقاومة لواقع فاسد وابداله بواقع حسن، وهذا يتم عبر انتاج شخصيات سياسية ومهنية مؤمنة برسالة المقاومة فمثلاً الان في لبنان او العراق هناك واقع اداري ومالي فاسد، وان الدخول بالعملية السياسية واختيار شخصيات مهنية، "يدها نظيفة "حتى وان كانت مستقلة ودعمها يمكن ان تغير في الواقع بظل التدخل الخارجي؟ نقول ان المقاومة تعتبر واحدة من واجباتها محاربة التدخلات الخارجية سواء بشكل مباشر او غير مباشرباخراج عملائهم من دائرة العمل.
فان واحدة من واجبات المقاومة ان تكسب الى جانبها النماذج الخيرة من الكتاب والمفكرين ومن الاكاديميين والحرفيين والمهنيين، وان تقاتل في يد وفي اليد الاخرى تخطط لمرحلة ما بعد الاستقلال او الفوز بالانتخابات وان تتحسب لجميع التحديات المتوقعة، حتى لاتبدو في حيرة وهي تقود المرحلة الجديدة، وان لايصاب الشعب ب"خيبة" وهو يرى نموذج "الثوري" عاجز عن تقديم ما ينفع، كما حدث لدول عديدة في العالم، ومنها الدول العربية حيث رغم التضحيات الكبيرة لطرد الاستعمار او الانتصار على الحكومات الظالمة، ازداد البلد تدهوراً وفوضى، والشاهد ان اغلب الدول العربية تعيش الاستقلال لكن حكوماتها فشلت في ادارة البلد، وليس غريبا ان يسئل مواطن عربي عن نموذجه في ادارة السلطة او اي التجارب العربية الانجح في ادارة الدولة؟"، يجيب "الامارات العربية" ! بينما هي الاسوأ لانها فاقدة لسيادتها ومحكومة من قبل قوى الاستكبار وليس باكثر من "750" الف مواطن اماراتي يعيش معهم "10" ملايين اجنبي من "220" جنسية و"150" قومية وقد سيق قادتها نحو التطبيع رغم انوفهم!.
في العراق ايضا حيث الذين قارعوا النظام البائد وقاتلوه وتحملوا وزر الغربة والعناء، عادوا فاغرقوا البلاد بالفساد الاداري والمالي واغرقوا شعبهم معهم!.
لما كانت التجربة الفيتنامية كحركة تحرر "مقاومة" وكقادة تحرر قادوا البلد بعد الانتصار فشكلوا تجربة سياسية واقتصادية واجتماعية اصبحت مدعاة للفخر، ونسال عن السبب فيجيب قادتها بعد الاستقلال بكلمة واحدة "هيا الى العمل" فالقوا السلاح وحملوا الفؤوس والمعاول للبناء والاعمار في كل الميادين، وتجربة الجمهورية الاسلامية هي الاقرب حيث تعد ايران في مصاف الدول المتقدمة على كافة الاصعدة ونموذجاً للدول التي قادت الثورة ضد الاستبداد ونجحت.
وقبل ان نختم لابد ان نعلم اجيالنا ان خسارة معركة لاتعني خسارة كل المعارك المقبلة، ولابد من الاستعداد لمواجهات اكبر وكما يقول الشاعر مصطفى جمال الدين بعد خسارة العرب الحرب في حزيران عام 1967: "لملم جراحك واعصف أيها الثارُ ما بعد عار (حزيرانٍ) لنا عارُ."
كما نعلم اجيالنا ان يستعدوا لمرحلة ما بعد نجاح الثورة لانها المعركة والمنازلة الاكبر مع بقايا الانظمة العميلة ومع الواقع المتخلف والتحديات الاقتصادية والسياسية وان يكونوا هم بناة المستقبل وهذا ياتي، عبر التاكيد على التعليم والتعلم والتطور والسباق مع الزمن.التكامل في عمل المقاومة مهم جداً فاسرائيل لو كانت تعلم ان فصائل المقاومة في "غزة" لوحدهم ربما لتفردت بهم لكنها تعلم عمقها لدى الفصائل المقربة منهم او البعيدة،وكيف سيكون الرد