• اخر تحديث : 2024-07-03 14:23

بينما تبحث واشنطن عن استراتيجية فعالة لإدارة تحديات صعود الصين، فإن الرئيس الأمريكي جو بايدن محق في الاعتماد بشدة على إحدى أوضح مزايا الولايات المتحدة: شبكة تحالفاتها العالمية. ولكن حتى في الوقت الذي يبني فيه بايدن تحالفًا لترويض بكين، فإنه يحتاج أيضًا إلى العمل على الجانب الآخر من المعادلة من خلال إضعاف الشراكات الدولية للصين. هو لا يستطيع إيقاف صعود الصين، لكن يمكنه الحد من نفوذها من خلال محاولة إغراء حليفها الرئيس بعيدًا عن الصين: روسيا. 
إن الشراكة الصينية الروسية تزيد بشكل كبير من التحدي الذي يفرضه صعود الصين على الولايات المتحدة. فالعمل الجماعي بين بكين وموسكو يضخّم طموح الصين ونفوذها في العديد من مناطق العالم، وذلك في معركة السيطرة على المؤسسات العالمية، والمنافسة العالمية بين الديمقراطية والبدائل غير الليبرالية. إن استغلال قوة الصين المتنامية يسمح لروسيا بتخطي نفوذها على المسرح العالمي، وتنشط حملة موسكو لتقويض الحكم الديمقراطي في أوروبا والولايات المتحدة.
يبدو أن الرابط بين الصين وروسيا قوي، ولكن هناك شروخ تحت السطح. إنها علاقة غير متكافئة تجمع بين الصين الصاعدة والواثقة بنفسها، وتراعي مصالحها وروسيا الراكدة وغير الآمنة، وقوتها ليست مستقرة. 
 
هذا التباين يمنح بايدن فرصة زرع التباعد بين البلدين، وعلى إدارته استغلال مخاوف روسيا بشأن وضعها كشريك صغير للصين. ومن خلال مساعدة روسيا على إصلاح نقاط ضعفها التي برزت إثر علاقتها مع الصين، يمكن لبايدن تشجيع موسكو على الابتعاد من بكين، ففصلها عن الصين من شأنه الحد من طموحات كلا البلدين، الأمر الذي يسهل على الولايات المتحدة وشركائها الديمقراطيين الدفاع عن قيمهم ومؤسساتهم الليبرالية، وتشكيل نظام دولي سلمي في عالم يشهد تعددية الأقطاب وتنوعاً أيديولوجياً بشكل متزايد.
إن العلاقة التي تجمع بين الصين وروسيا زواج مصلحة، لكنه فعال للغاية. تتصرف الصين بمفردها على المسرح الدولي، مفضلة العلاقات التبادلية والتجارية الحرة مع الدول الأخرى، ومع ذلك فالعلاقة مع روسيا من الاستثناءات. لقد أقامت بكين وموسكو علاقة "شبيهة بالتحالف"، وهو مصطلح استخدمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو يشمل تعميق الروابط الاقتصادية، بما في ذلك الجهود المبذولة للحد من هيمنة الدولار الأميركي على الاقتصاد العالمي، والاستخدام المشترك للتكنولوجيا الرقمية للسيطرة على المواطنين الصينيين والروس ومراقبتهم، وزرع بذور التنازع داخل الديمقراطيات في العالم، فضلاً عن التعاون في مجال الدفاع مثل التدريبات العسكرية المشتركة، ونقل أنظمة الأسلحة المتطورة والتكنولوجيا من روسيا إلى الصين.
وترافق ميل روسيا نحو الصين مع جفائها إزاء الغرب الذي تعمق مع امتداد الحدود الشرقية لحلف شمال الأطلسي إلى الحدود الغربية لروسيا، وكثفت موسكو جهود التواصل مع بكين بعد أن فرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عقوبات على روسيا إثر ضمها شبه جزيرة القرم في العام 2014 والتدخل العسكري في شرق أوكرانيا، وردت بكين بالمثل، فأبدت ميلاً نحو موسكو من أجل تعزيز نفوذ الصين على وقع تصاعد التنافس الاقتصادي والاستراتيجي مع الولايات المتحدة، ومنذ أن تولى شي جين بيانغ رئاسة الصين في العام 2013 اجتمع مع بوتين، أو تحدثا عبر الهاتف حوالى 40 مرة.
ترتكز العلاقات الصينية - الروسية على نظرة واقعية إلى العالم، ويجني البلدان فوائد متبادلة وفردية منها، فالعمل الجماعي الدبلوماسي يعزز هدفهما الموحد المتمثل في مقاومة ما يعتبرونه الطموح الغربي المعتدي جيوسياسياً وأيديولوجياً. وهذه الشراكة تسمح لروسيا بتركيز اهتمامها الاستراتيجي على حدودها الغربية بينما تتيح للصين التركيز على جناحها البحري. كما تحصل روسيا على عائدات كبيرة من بيع الطاقة والأسلحة إلى الصين التي تعمل على تعزيز توسع اقتصادها وقدرتها العسكرية بمساعدة الأسلحة الروسية.
لكن روسيا والصين ليسا "شريكين طبيعيين"، لأنه لا تربطهما معتقدات وأهداف ومصالح واحدة، فقد ربطتهما علاقة تنافسية تاريخيًا، والكرملين حساس للغاية تجاه واقع القوة، وهو يعلم أن روسيا الراكدة التي يبلغ عدد سكانها حوالى 150 مليون شخص لا تضاهي الصين الحيوية التي يبلغ عدد سكانها ما يقرب من 1.5 مليار نسمة، عدا عن أن حجم اقتصاد الصين يبلغ 10 أضعاف اقتصاد روسيا؛ وعندما يتعلق الأمر بالابتكار والتكنولوجيا فالصين في مستوى متقدّم، وقد حققت مبادرة "الحزام والطريق" الصينية (BRI) اختراقات عميقة في مجال نفوذ روسيا التقليدي في آسيا الوسطى، لذا يساور الكرملين قلق مبرر من أن الصين تملك مخططات لمنطقة القطب الشمالي أيضًا.
إن استمرار روسيا في الالتصاق بالصين على الرغم من أوجه التفاوت علامة قوية على استياء موسكو من الغرب، ومع ذلك فإن عدم التوازن سيزداد مع مرور الوقت، وسيصير مصدر إزعاج متزايد للكرملين، وتحتاج واشنطن إلى الاستفادة من هذا الانزعاج وإقناع روسيا بأنها ستكون في وضع جيوسياسي واقتصادي أفضل إذا مالت نحو الغرب، وانخرطت ضد الصين.
ليس سهلًا تنفيذ مثل هذه المناورة. ذلك أن بوتين أحكم قبضته في الداخل من خلال اللعب على القومية الروسية والوقوف في وجه الغرب. وقد يكون مصممًا وأتباعه على عدم تغيير أساليبهم، ويسوا مستعدين لتأييد سياسة خارجية مغايرة، وعليه، فإن على إدارة بايدن التعامل مع موسكو بعيون مفتوحة، وهي لا تستطيع الإذعان لسلوك الكرملين العدواني أو السماح لبوتين باستغلال يد واشنطن الممدودة أثناء محاولة جذب روسيا باتجاه الغرب.
إن تحدي بايدن أكثر تعقيداً من ذاك الذي واجهه الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في سبعينيات القرن الماضي عندما مد يده إلى الصين، ونجح في تعكير العلاقات الصينية - السوفياتية وإضعاف الكتلة الشيوعية. وبحلول وقت زيارة نيكسون الصين في العام 1972 كانت بكين وموسكو قد افترقتا، ولم يواجه نيكسون صعوبة، فمهمته لم تكن زرع شقاق بل توسيعه، أما بايدن فيواجه عقبة أكبر تتمثل في تفكيك شراكة سليمة؛ لذا فإن أفضل رهان له هو تأجيج التوترات الكامنة في العلاقات الصينية - الروسية.
لطالما تنافست الصين وروسيا منذ فترة طويلة على الأراضي والنفوذ، فالحدود البرية بين البلدين حالياً تمتد إلى أكثر من 2600 ميل، وتعود نزاعاتهما حول الأراضي والنفوذ في المناطق الحدودية والتجارة إلى قرون. خلال القرنين الـ 17 والـ 18 كانت الصين في موقع القوة والسيطرة بشكل عام، ثم انقلبت الأمور في القرنين الـ 19 والـ 20 مع لجوء روسيا وقوى أوروبية أخرى إلى مزيج من الهجوم العسكري والدبلوماسية القسرية لانتزاع السيطرة على الأراضي من الصين، وفرض شروط تجارية استغلالية.
في العام 1949 مهد وصول الحزب الشيوعي الصيني إلى السلطة الطريق لفترة غير مسبوقة من التعاون الاستراتيجي بين الصين والاتحاد السوفياتي، وعلى خلفية التزامهما المشترك بالشيوعية أبرم البلدان تحالفًا رسميًا في العام 1950، وانتقل آلاف العلماء والمهندسين السوفيات إلى الصين، حيث تشاركوا التكنولوجيا الصناعية والعسكرية، وساعدوا في تطوير برنامج أسلحة نووية. وقد زود السوفيات الصين بالإمدادات والمستشارين العسكريين والغطاء الجوي خلال الحرب الكورية، ونمت التجارة الثنائية بسرعة شكلت 50 في المئة من التجارة الخارجية للصين مع نهاية العقد، وأكد الزعيم الصيني ماو تسي تونغ أن البلدين تربطهما "علاقة أخوية وثيقة"، بينما وصف رئيس الوزراء السوفياتي نيكيتا خروتشوف الثورة الشيوعية في الصين بأنها "الحدث الأبرز في تاريخ العالم".
وسرعان ما تدهور هذا التحالف بالسرعة نفسها التي وُلد فيها، فبدأ ماو وخروتشوف في الانفصال عام 1958، وقد نشأ الخلاف بينهما جزئيًا بسبب الاختلافات الأيديولوجية، ففي الوقت الذي عمل فيه ماو إلى تعبئة الفلاحين، وإذكاء الحماسة الثورية والاضطرابات الاجتماعية في الداخل والخارج، دعم خروتشوف الاعتدال الأيديولوجي، والاشتراكية الصناعية، والاستقرار السياسي في الداخل والخارج، وبدأت المنافسة بين البلدين على قيادة الكتلة الشيوعية مع ملاحظة ماو أن خروتشوف "يخشى من أن الأحزاب الشيوعية في العالم لن تؤمن بهم، لن يكون ولاؤها للسوفيات، بل لنا".
وتفاقمت الاختلافات بسبب عدم ارتياح الصين لتفاوت ميزان القوة الذي كان لصالح الاتحاد السوفياتي، وقد اتهم ماو في خطاب ألقاه في العام 1957 الاتحاد السوفياتي بـ "شوفينية القوى الكبرى"، وفي العام التالي قال للسفير السوفياتي في بكين " تعتقدون أنكم في وضع يسمح لكم بالسيطرة علينا". 
فالروس اعتبروا الصين "أمة متخلفة" بحسب تقدير ماو. وحمّل خروتشوف ماو مسؤولية لائمة الانقسام؛ وعلّق خروتشوف بعد أن تبادلت القوات الصينية والهندية إطلاق النار عبر حدودهما المتنازع عليها عام 1959  بأن بكين كانت "تتوق إلى الحرب بقدر ما يتوق الديك إلى القتال"، وفي تجمع لرؤساء الأحزاب التابعة للكتلة الشيوعية سخر من ماو ووصفه بأنه "يساري ودوغمائي متطرف".
أدت هذه القطيعة بين الزعيمين إلى إطاحة التعاون الصيني - السوفياتي، وفي العام 1960 سحب السوفيات خبراءهم العسكريين من الصين، وقطعوا التعاون الاستراتيجي، وتراجعت في العامين التاليين التجارة الثنائية بين البلدين بنحو 40 في المئة، وأعيد تسليح الحدود [نشر قوات عسكرية على الحدود]، وكاد القتال الذي اندلع عام 1969 أن يشعل فتيل حرب واسعة النطاق.
في أوائل السبعينيات استفاد نيكسون من الوضع وفاقم الانقسام من خلال التواصل مع الصين، وهي عملية بلغت ذروتها مع تطبيع العلاقات الأميركية - الصينية عام 1979، ولم ترجع العلاقات بين موسكو والولايات المتحدة إلا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
بعد نهاية الحرب الباردة، بدأت الصين وروسيا في إصلاح الأمور على مدار التسعينيات، ووجدتا حلاً لعدد من النزاعات الحدودية المتبقية، وفي العام 2001 وقعتا معاهدة حسن الجوار والتعاون الودي، ثم عمقتا تدريجياً التعاون العسكري والعلاقات التجارية مع اكتمال خط أنابيب النفط الأول من روسيا إلى الصين في العام 2010، ثم بدأت بكين وموسكو في مواءمة مواقفهما في الأمم المتحدة وتعاونتا في مبادرات تهدف إلى مواجهة النفوذ الغربي، مثل إنشاء منظمة شنغهاي للتعاون عام 2001 وما يسمى بمجموعة "بريكس" الاقتصادية التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا في العام 2009.
تعمقت هذه الخطوات التدريجية نحو التعاون الثنائي، وتسارعت في عهد شي وبوتين، وغذّاها قطع العلاقات بين موسكو والغرب عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، والتنافس المتزايد بين الولايات المتحدة والصين، ففي السنوات الأخيرة بدأت العلاقة بين الصين وروسيا تشبه التقارب الصيني - السوفياتي الوثيق في الخمسينيات، وتعزيزاً للتعاون العسكري الذي بدأ في التسعينيات ساعدت روسيا الصين في معالجة أولوياتها الدفاعية القصوى من خلال توفير المقاتلات النفاثة وأنظمة الدفاع الجوي الحديثة والصواريخ المضادة للسفن والغواصات، وحوالى 70 في المئة من واردات الصين من الأسلحة جاءت من روسيا خلال السنوات الأخيرة، أما بيع النفط والغاز إلى الصين فيدعم الاقتصاد الروسي ويقلص اعتماد الصين على طرق الإمداد البحري الأكثر ضعفاً، والآن روسيا تنافس السعودية كأكبر مورد نفط إلى الصين، فيما حلت الصين محل ألمانيا باعتبارها الشريك التجاري الأكبر لروسيا.
وفي عهد شي وبوتين تعاونت الصين وروسيا لمواجهة القواعد الليبرالية في الهيئات الدولية ونشر نوع من الحوكمة يقوم على الحكم الاستبدادي وسيطرة الدولة على منصات المعلومات في أجزاء كثيرة من العالم، وتتحد حملات التضليل وعمليات الاستخبارات الروسية مع النفوذ القسري [إلزام الطرف الآخر بما يخالف مصالحه] الذي يوفره الاستثمار الصيني من طريق دعم الأنظمة غير الليبرالية.
هذا التعاون على مستويات متعددة يعتبر مثيراً للإعجاب ومهماً للغاية، لكنه يقوم على قاعدة هشة ويفتقر إلى أساس من الثقة المتبادلة، مثلما حصل مع الشراكة الصينية - السوفياتية مطلع الحرب الباردة، ففي خمسينيات القرن الماضي غلب على العلاقات الوثيقة بين الصين والاتحاد السوفياتي الطابع الشخصي، مما جعلها عرضة لتقلبات العلاقة بين ماو وخروتشوف، واليوم يعتمد التعاون الصيني - الروسي إلى حد كبير على العلاقة غير المتوقعة بين شخصين هما شي وبوتين.
خلال العقد الأول من الحرب الباردة سعت موسكو إلى الاستقرار في الداخل والخارج، بينما فضلت بكين استمرار الثورة، واليوم تعتمد بكين على الاستقرار المحلي والدولي لتسريع نهوضها، بينما تستعرض موسكو عضلاتها خارج حدودها لتعزيز الفوضى، وخلال خمسينيات القرن الماضي ولدت هيمنة موسكو على الشراكة استياء في بكين، واليوم تتمتع الصين بالهيمنة علماً أن عدم تناسق القوة الشديد هذا يغضب روسيا.
من الصعب على الكرملين بشكل خاص ابتلاع هذا التفاوت في القوة، وبالنسبة إلى بوتين الذي تعتمد بصمته السياسية على محاولة إعادة روسيا إلى مكانة القوة العظمى ليس مستحباً في وطنه أن يبدو وكأنه مجرد مساعد لـ "شي"، لكن التفاوت بين البلدين صارخ ومتزايد، فالتجارة مع الصين تمثل أكثر من 15 في المئة من إجمالي التجارة الخارجية الروسية، بينما تمثل التجارة مع روسيا حوالى واحد في المئة من التجارة الخارجية للصين، وهذا الاختلال في التوازن آخذ في الازدياد مع تقدم قطاع التكنولوجيا الفائقة التطور في الصين.
يعيش في أقصى شرق روسيا حوالى 6 ملايين روسي على امتداد الحدود مقابل 110 ملايين صيني تقريباً في مقاطعات منشوريا الثلاث، وصارت المنطقة تعتمد بشكل متزايد على السلع والخدمات والعمالة الصينية، حتى أن المحلل الروسي البارز ديمتري ترينين ذهب إلى حد التنبؤ باحتمال "سيطرة صينية" على المنطقة.
صحيح أنه مضى وقت طويل منذ أن نشب خلاف بين البلدين على الأراضي والنفوذ في المناطق الحدودية، لكن النزعة القومية والعرقية عميقة في كلتا الثقافتين السياسيتين، ويمكنها إعادة إشعال نزاعات إقليمية طويلة الأمد. وفي هذا السياق، نشرت صحيفة "ساوث تشاينا مورنينغ بوست" تعليقاً مفاده أن "مغازلة شي لموسكو لا معنى لها، لأنها تتجاهل العداوة التي حددت العلاقات الصينية - الروسية منذ القرن الـ 17"، وتستمر مشاعر عداء الصين في روسيا في الازدياد، وكما هو الحال في أمكنة أخرى من العالم تؤججها الأصول الصينية لفيروس كورونا، لكن أوجه التحيز هذه بدأت قبل الوباء بكثير، تدعمها جزئياً التحيزات العنصرية نفسها التي اشتكى منها ماو قبل ستة عقود.
إن اعتماد روسيا المتزايد على الصين على المستوى الاقتصادي يتركها معرضة أكثر فأكثر إلى نفوذ بكين القسري، ويزيد من إدمان [تعويل] روسيا على تصدير الوقود الأحفوري الذي يمثل بيعه أكثر من ثلثي دخل الصادرات الروسية وثلث الموازنة الفيدرالية، ولا يمثل هذا رهاناً جيداً على المستقبل [إعداد العدة لمخاطر المستقبل] إذ يتجه العالم نحو مصادر الطاقة المتجددة، ومع أن مبادرة الحزام والطريق الصينية تنشر الاستثمار والبنية التحتية عبر أوراسيا، فهي تلتف في الغالب حول روسيا وتوفر لها فوائد قليلة، إذ فُتح عدد قليل من المعابر الحدودية الجديدة خلال السنوات الأخيرة، وكان الاستثمار الصيني في روسيا ضئيلاً. 
ينوي الروس ربط الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الخاص بهم بمبادرة الحزام والطريق، لكن النظامين يتنافسان أكثر مما يتكاملان، وفي العام 2017 اقترح الاتحاد الاقتصادي الأوراسي 40 مشروع نقل إلى الصين ورفضتها بكين جميعاً، كما لم يحضر وزير الخارجية الروسي اجتماعاً رفيع المستوى بشأن مبادرة الحزام والطريق العام الماضي، مشيراً، وفقاً لأنكور شاه، المحلل المتخصص في شؤون العلاقات الصينية - الروسية، إلى أن موسكو "لم تعد تشعر بأنها مضطرة للانحناء أمام مبادرة الحزام و الطريق الخاصة ببكين" [التوقف عن مقاومة هذه المبادرة ومنافستها].
لقد حلت الصين محل روسيا بشكل فعال باعتبارها القوة الاقتصادية المهيمنة في آسيا الوسطى، ويشكل اهتمام بكين بالاستفادة من التنمية الاقتصادية وممرات الشحن الجديدة في أقصى الشمال، ما تسميه الصين "طريق الحرير القطبي"، تحدياً واضحاً لاستراتيجية روسيا في المنطقة.
ظاهرياً، خطط الصين الخاصة بالقطب الشمالي تكمل الخطط الروسية، ولكن كما هو الحال مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومبادرة الحزام والطريق فإن الرؤى المتنافسة تثير القلق في موسكو.
في غضون ذلك، فقدت العلاقات الدفاعية بين الصين وروسيا بعضاً من زخمها السابق. الجدير بالذكر أن الجيش الصيني استفاد من عمليات نقل تكنولوجيا الأسلحة والأسلحة الروسية، ورحبت موسكو بالإيرادات والتعاون العسكري الناتج من ذلك، غير أن التقدم في قطاع الدفاع الصيني الذي أصبح ممكناً جزئياً بسبب سرقة الشركات الصينية لتكنولوجيا الأسلحة الروسية يجعل الصين أقل اعتماداً على الواردات الروسية، كما أن امتلاك الصين لصواريخ متوسطة المدى (التي تهدف ظاهرياً لمواجهة الوجود المتقدم للولايات المتحدة) يشكل أيضاً تهديداً افتراضياً للأراضي الروسية، ولا شك في أن موسكو تراقب عن كثب الترسانة الصينية الآخذة في التوسع التي تشمل صواريخ عابرة للقارات، وبناء منصات إطلاق جديدة في غرب الصين، وإذاً فروسيا قد ساعدت وحرضت على تحديث الصين عسكرياً ربما على حسابها الخاص [على حساب مصالحها].
في حال انجذبت روسيا نحو الغرب فذلك لن يكون نتيجة لمبادرات واشنطن أو إيثارها المصالح الروسية، بل بسبب تقويم الكرملين المتأني لأفضل طريقة يحقق فيها مصلحته على الأمد البعيد، فعرض واشنطن تقليص التوترات مع الغرب غير كاف، لأن بوتين يعتمد على مثل هذه التوترات لإضفاء المشروعية على قبضته السياسية الحديدية، وبالتالي  فإن التحدي الذي يواجه واشنطن يتمثل في تغيير حسابات الكرملين الاستراتيجية؛ وذلك من خلال إظهار أن المزيد من التعاون مع الغرب يمكن أن يساعد روسيا في معالجة نقاط الضعف المتزايدة الناشئة عن شراكتها مع الصين.
إن الخطوة الأولى الواجبة على واشنطن هي التخلي عن حصر استراتيجية الولايات المتحدة ضمن إطار "الديمقراطية مقابل الاستبداد". تحتاج الولايات المتحدة وشركاؤها الأيديولوجيون بالطبع إلى ضمان قدرتهم على تقديم الخدمات لمواطنيهم وتفوقهم على البدائل غير الليبرالية، لكن طرح المنافسة من منظور أيديولوجي علني لا يؤدي إلا إلى تقريب روسيا والصين بعضهما من بعض.
يجب أن تجري إدارة بايدن مناقشة صريحة مع موسكو حول المجالات التي تتداخل فيها مصالح الولايات المتحدة الطويلة الأجل مع مصالح روسيا، بما في ذلك ما يتعلق بالصين، لاتزال روسيا والولايات المتحدة على خلاف على جبهات متعددة، وبدلاً من أن ترضى واشنطن بالتباعد المستمر فعليها التوصل إلى أرضية مشتركة مع موسكو بشأن مجموعة واسعة من القضايا، بينها الاستقرار الاستراتيجي والأمن السيبراني والتغير المناخي، ومثل هذا الحوار، حتى في حال عدم إحراز تقدم سريع، ينبّه موسكو إلى أن وجود خيارات أخرى غير التحالف مع الصين.
وحري بإدارة بايدن الضغط على حلفائها الديمقراطيين لإجراء محادثات مماثلة مع روسيا، فهم بإمكانهم استكشاف المجالات ذات الاهتمام المشترك، وإبراز كيف أن قوة الصين المتنامية تأتي على حساب نفوذ روسيا وأمنها. ونظراً لعلاقات الهند الطويلة الأمد مع روسيا ونظرتها المتشككة بشأن النيات الصينية، قد تكون نيودلهي بارعة بشكل خاص في لفت نظر موسكو إلى أهمية الحفاظ على الحكم الذاتي الاستراتيجي والأخطار المحتملة لعلاقة وثيقة جداً مع بكين، ومن أجل تشجيع الهند على المساعدة في جذب روسيا بعيداً من الصين يجب على واشنطن التخلي عن العقوبات المعلقة حالياً ضد الهند لشرائها نظام الدفاع الجوي الروسي "إس-400".
على الولايات المتحدة وحلفائها أيضاً المساعدة في تقليص اعتماد روسيا اقتصادياً على الصين بشكل متزايد، وعلى الرغم من أن الصين هي الآن أكبر شريك تجاري منفرد لروسيا، فإن تجارة روسيا مع الاتحاد الأوروبي أكبر بكثير من تجارتها مع الصين، إذ تمثل ما يقرب من 40 في المئة من التجارة الخارجية لروسيا.
في الحقيقة كان قرار بايدن القاضي بإعطاء الضوء الأخضر لخط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" المثير للجدل، الذي سينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، في مثابة استثمار حكيم في تشجيع الروابط التجارية الأعمق بين روسيا وأوروبا، وعلى الرغم من أن العقوبات الغربية ضد روسيا كانت رداً ضرورياً على سلوك موسكو العدواني، فقد كان لها تأثير في دفع روسيا أكثر نحو أحضان الصين الاقتصادية. وفقاً لذلك، على الولايات المتحدة وشركائها التفكير مرتين قبل فرض عقوبات جديدة، مع وضع مجموعة واضحة من الخطوات التي يمكن لروسيا اتخاذها لإقناع واشنطن بتقليص العقوبات القائمة، بما في ذلك الالتزام بحل دبلوماسي للصراع في شرق أوكرانيا وكبح جماح الهجمات الإلكترونية المنطلقة من روسيا ضد الشبكات الأميركية.
كما يجب على الولايات المتحدة وشركائها الإشارة إلى استعدادهم لمساعدة روسيا في مكافحة التغير المناخي، وتحويل اقتصادها بعيداً من اعتمادها على الوقود الأحفوري. على المدى القريب، تستلزم هذه المهمة تبادل أفضل الممارسات لالتقاط "الميثان" والمساعدة في تطوير بدائل خضراء لإنتاج النفط والغاز، واتخاذ خطوات أخرى للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في روسيا، وعلى المدى الطويل على الولايات المتحدة أن تساعد روسيا في الانتقال إلى اقتصاد المعرفة، وهي خطوة لم يتخذها بوتين قط، وذلك على حساب بلاده وخلاف مصالحها بشكل واضح.
في المقابل، نادراً ما تشارك الصين التكنولوجيا، فهي آخذة لا مانحة، لذا حري بالولايات المتحدة اقتناص الفرصة لمشاركة المعرفة التكنولوجية مع روسيا كي تسهل انتقالها إلى اقتصاد أكثر اخضراراً وتنوعاً.
إضافة إلى ذلك، على الولايات المتحدة أن تعزز الحوار حول الاستقرار الاستراتيجي الذي أطلقه بايدن وبوتين في اجتماعهما في جنيف في يونيو (حزيران)، علماً أن انتهاك روسيا لمعاهدة القوى النووية متوسطة المدى دفع الولايات المتحدة إلى الانسحاب منها في 2019.
تحتاج الولايات المتحدة وروسيا الآن إلى التوصل إلى حل لسباق الصواريخ الذي يلوح في الأفق، وكذلك دفع الصين لقبول اتفاق متابعة [اتفاق مكمل وتال لذلك المبرم] يقيد ترسانة الصين الكبيرة والمتنوعة من الصواريخ متوسطة المدى، حتى إذا ثبت أن اتفاقاً ثلاثي الأطراف بعيد المنال، فمن المحتمل أن تؤدي محاولة التفاوض بشأن اتفاق مماثل إلى تسليط الضوء على الانقسامات بين موسكو وبكين، نظراً لإحجام الصين التقليدي عن الدخول في اتفاقات الحد من التسلح، كما أن لروسيا مصلحة راسخة في جذب الصين إلى محادثة أوسع مع الولايات المتحدة حول منع الانتشار، وعلى وجه التحديد إلى حوار يتناول البرامج النووية في إيران وكوريا الشمالية، حيث تتداخل المصالح الأميركية والروسية.
أما القطب الشمالي فهو منطقة أخرى، حيث يمكن لواشنطن أن تساعد موسكو في الإلمام بالجوانب السلبية الاستراتيجية لتشجيع طموحات بكين المتزايدة. يعمل التغيير المناخي على زيادة إمكان الوصول إلى أقصى الشمال إلى حد كبير، مما يؤدي إلى اهتمام روسي جديد بالقيمة الاقتصادية والاستراتيجية للمنطقة، ويثير استياءها من إعلان الصين أنها "قوة قريبة من القطب الشمالي".
لا تتفق واشنطن وموسكو في ما يتعلق بالمنطقة، ولكن من طريق كل من مجلس القطب الشمالي والحوار الثنائي عليهما تطوير مجموعة أكثر تماسكاً من القواعد التي تحكم النشاط الاقتصادي والعسكري في القطب الشمالي وتعالج مخاوفهما المشتركة بشأن النوايا الصينية. أخيراً، على واشنطن أن تشجع موسكو على المساعدة في كبح نفوذ الصين المتزايد في المناطق النامية، بما في ذلك آسيا الوسطى والشرق الأوسط الكبير وأفريقيا. في معظم المناطق، تتعارض السياسة الروسية بانتظام مع المصالح الأميركية، ولا تزال موسكو تعتبر واشنطن منافستها الرئيسة، ولكن مع استمرار بكين في توسيع نفوذها الاقتصادي والاستراتيجي ستدرك موسكو أن الصين، وليس الولايات المتحدة، هي التي تقوض النفوذ الروسي بانتظام في العديد من هذه المناطق، ويجب على واشنطن أن تبرهن على ذلك فتساعد في تحقيق توافق أكبر بين المصالح الروسية والأميركية، وتخلق فرصاً لتنسيق الاستراتيجية الإقليمية.
بالنظر إلى العداوة وغياب الثقة اللذين تشوبان حالياً العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، سوف يستغرق الأمر وقتاً ودبلوماسية هادفة ترمي إلى تغيير واشنطن حسابات موسكو الاستراتيجية، وقد تتمسك روسيا بمسارها الحالي ربما حتى يغادر بوتين منصبه في نهاية المطاف، ولكن في ضوء الوتيرة والنطاق المدهشين لنهوض الصين الجيوسياسي فقد حان الوقت الآن للبدء في زرع بذور الانقسام الصيني - الروسي، بخاصة بين الكادر الأصغر من المسؤولين والمفكرين الروس الذين سيتولون زمام الأمور بعد مغادرة بوتين.
إن جهود الولايات المتحدة لإدارة نهوض الصين بنجاح وبشكل سلمي ستتقدم بشكل كبير إذا واجهت الصين ضغطاً استراتيجياً على أجنحة كثيرة لا تقتصر على جناحها البحري، ولم يعد بإمكانها الاعتماد على الدعم العسكري والدبلوماسي الروسي الثابت.
حالياً الصين قادرة على التركيز على التوسع في غرب المحيط الهادئ وأبعد، وذلك في جزء منه يعود إلى أن يدها مطلقة نسبياً على طول حدودها القارية وإلى أنها تحظى بدعم موسكو، وسيكون من الحكمة أن تستثمر الولايات المتحدة في استراتيجية طويلة الأجل لتغيير تلك المعادلة من خلال المساعدة في إعادة صياغة علاقة الصين بروسيا، وسيعتبر القيام بذلك خطوة مهمة نحو إنشاء نظام متعدد الأقطاب، وعرقلة جهود بكين المحتملة لبناء نظام دولي تكون هي نواته.
 
* تشارلز أ. كوبشان هو باحث أميركي والمستشار السابق للرئيس أوباما في شؤون أوروبا.