• اخر تحديث : 2024-07-01 12:23
news-details
مقالات عربية

التأثير المتوقع للانسحاب الامريكي من افغانستان على المنافسة السياسية الداخلية في امريكا


ماذا ستكون آثار ما يحدث في أفغانستان على التنافس السياسي الداخلي الأمريكي على المديين القصير والمتوسط؟؟ يمكن اختصار الإجابة بأنه لا تأثير على المدى المتوسط، وبأن التأثير على المدى القصير غالباً سيكون محدوداً .. لكن كعادة الإجابات المختصرة فهي لا تشفي غليل الراغب في معرفة الأسباب وراء هذا الاستنتاج، أو ذاك كما أنها تهمل بعض الاحتمالات الأقل رجوحاً والمؤشرات التي يمكن مراقبتها لتحديث التوقعات مستقبلا .. وهذا كله سنحاول مناقشته في هذا المقال.
ما حدث في أفغانستان هو أن الرئيس ترامب صعّد من الضغط باتجاه تسريع سحب القوات الأمريكية لإنهاء الوجود الأمريكي هناك .. هذا ليس هدفاً جديداً فقد كان هدفاً معلنا لأوباما قبل ان يصل للرئاسة وسعى له طوال سنوات رئاسته وتعرض للضغوط بل ولبعض الخسائر السياسية بسببه لكنه في النهاية فشل في تحقيقه .. الانسحاب من أفغانستان وإغلاق سجن غوانتانامو كانا أكبر فشلين في أجندة اوباما التي سعى لتنفيذها خلال سنوات حكمه.
 
ترامب دخل البيت الأبيض وسحب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان على أجندته أيضاً .. وكأوباما تعرض للضغوط ولبعض الخسائر السياسية أيضاً .. لكن ما فعله ترامب في أفغانستان في أواخر سنوات حكمه هو أنه اندفع في مسار التفاوض مع طالبان بغرض تحقيق خروج سلمي للقوات الأمريكية .. الدافع لذلك -باختصار مخل يمكن لمن يريد تلافيه ان يبحث في مصادر العلوم العسكرية أكثر- ان الانسحاب يعني ببساطة أن القوات تقل وبالتالي قدرتها على الردع تقل مما يهدد بهجوم العدو وبالتالي تحقيق خسائر عالية .. تلافي هذه الخسائر يتم غالباً بأحد أسلوبين .. إما الاتفاق على خروج آمن مع العدو .. او زيادة أعداد القوات مؤقتًا ورفع حدة وكثافة الهجوم لإبعاد خطر العدو بدرجة تكفي لتحقيق انسحاب أكثر أمناً.
الخيار الثاني هو ما فعله نيكسون مثلا في فيتنام وقدم مقابله تنازلات لروسيا والصين في مقابل عدم ضغطهم ضد الزيادة المؤقتة للقوات الأمريكية وشراسة القصف لتأمين الانسحاب .. وان لم يتمكن نيكسون من إتمام خطته بالكامل حيث لم يكتمل الانسحاب إلا بعد استقالته.
ما حدث هو أن الأمريكان دخلوا في مفاوضات مع طالبان لتأمين الانسحاب .. طالبان بدورهم كانوا يرون انهم الأقوى على الارض في مواجهة الحكومة المركزية المدعومة أمريكياً وأن عامل الوقت يلعب لصالحهم لذا ليسوا مضطرين لتقديم تنازلات كبيرة لصالح الحكومة حتى لو قدموا الضمانات الكافية للأمريكان ليخرجوا بسلاسة وأمان.
وهذا ما حدث فعلا حيث اتفق الأمريكان مع طالبان على وقف إطلاق النار وترك الجنود الأمريكان ينسحبون بسلاسة وأمان تامين بدون أي اشتباكات او محاولة استغلال اي نقاط ضعف تنتج عن الانسحاب .. لكنهم لم يقدموا أي تنازلات بخصوص أي شكل من أشكال التعاون مع الحكومة المركزية سواءاً كان هذا على شكل نوع من أنواع تقاسم السلطة او حتى ايقاف الصدام العسكري معهم .. بقي المفاوضون الطالبانيون في قطر يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى ويمططون في المفاوضات معتمدين على ان عامل الوقت في صالحهم.
دخل بايدن البيت الابيض وأمامه اتفاقية ترامب وقرر تنفيذها فعلا وأصبح الباقي تاريخا كما يقول الأمريكان في التعبير الدارج.
لسنا هنا في معرض تقييم حسن أو سوء قرارات ترامب أو بايدن او مدى حسن او سوء الاطروحات التي تدافع عن هذا او تهاجم ذاك .. بل في معرض دراسة تأثيرها على الواقع السياسي الداخلي الأمريكي.
بايدن اعتمد في قراره بالدرجة الأكبر على كون تأييد سحب القوات -مهما كان الثمن- كبيراً جداً .. فقد كان يرى أن من سيهاجمونه أمامهم أحد سبيلين.
الأول أن يهاجموا فكرة الانسحاب نفسها وأنه كان يجب على الأمريكان البقاء في أفغانستان فترة أطول .. وقد رأى أن هذا الهجوم إن حدث سيكون معدوم التأثير لأنه كما ذكرنا الغالبية العظمى من الأمريكيين يريدون الانسحاب بسرعة.
الثاني أن يهاجموا أسلوب الانسحاب .. أطروحات من نوع "كان بالإمكان إرسال الأربعة آلاف جندي المتواجدون لتأمين المطار الآن قبل شهر والضغط على طالبان في المفاوضات أكثر بإيهامهم بأن بايدن يفكر جدياً بإلغاء اتفاق ترامب لضمان تحقيق مستوى أمن أعلى للحكومة المركزية وانسحاب أكثر تأميناً وتنظيماً من الفوضى التي نراها الآن.”
بايدن رأى أن هذا الطرح مهما بدا مغرياً خلال الأحداث إلا أنه سيفقد بريقه سريعاً حيث سيتمكن من إقناع الناخبين بأن تأمين الحكومة المركزية مستحيل مهما طال البقاء وطالبان قد تلتزم بأي اتفاق مع الأمريكيين مؤقتاً لأنها تريد خروجهم فعلاً لكنها ستنقض بعدهم مباشرة مهما كانت تفاصيل أي اتفاقات تمت معهم بالتالي لم يكن من المجدي تضييع مزيد من الوقت وإراقة مزيد من ماء وجه أمريكا .. الانسحاب سريعاً أفضل.
رأينا بوادر ذلك فعلاً في خطاب بايدن الذي وجهه للمواطنين بخصوص الانسحاب .. رغم أنه تحمل مسؤولية القرار وقال بصراحة أنه هو الرئيس وهو من يتخذ القرار وهو من يتحمل مسؤولية نتائجه .. إلا أن هذا جاء في وقت متأخر من الخطاب وبعد محاولات متعددة للاختباء وراء التأييد الشعبي للانسحاب وتبرير التوقف عن مساندة الحكومة بأنهم إذا لم يقاتلوا من أجل أنفسهم فلا يجب ان يقاتل الأمريكيين بدلا عنهم -في تأكيد لفكرة ان التأجيل لم يكن ليغير من الأمر شيئاً-.
هذا يجعلنا نصل لزبدة هذا المقال والتي كتبناه من أجلها .. ماذا سيكون أثر ذلك على التنافس السياسي الداخلي .. الشواهد التاريخية ترينا أنه على المدى المتوسط لن يكون هناك آثار كبيرة .. غالباً سينسى الشعب مرارة الإقرار بالهزيمة ومنظر الانسحاب سريعاً فمنذ سنوات طويلة وهم يسمعون بأن هذه حرب لا يمكن الانتصار فيها .. بل وربما يكون هناك عامل مساند لمصلحة بايدن في تصويره بصورة القائد الجريء الذي أنهى الحرب وأوقف الخسائر المالية والبشرية يوازن أي خسائر تنتج عما يحدث اليوم.
على المدى القصير هناك أثرين متوقعين .. الأول أن الهجوم سيزداد حدة على بايدن وإدارته .. وقد نرى مطالبات باستقالة او إقالة بعض كبار المسؤولين سواء في القطاع الدبلوماسي او الاستخباراتي .. ليس من قبل إعلام اليمين فقط بل حتى من قبل الإعلام المحايد فهذا الإعلام يتحين -بوعي او بلاوعي- لأي فرصة لمهاجمة بايدن على الأقل ليثبت بأنه فعلها كما كان يفعل مع ترامب وأن الهجوم يتم على ما يرونه خطأً بغض النظر عن شخص الرئيس.
منذ دخول بايدن للبيت الأبيض وهو ينفذ ما وعد به بنجاح جيد من حزمة التحفيز الاقتصادي لتوسيع توفر تطعيمات الكوفيد ١٩ لمستويات فاقت الطلب كثيراً لتمرير اتفاق لا حزبي على مشروع للبنية التحتية .. أرقام الاقتصاد والبطالة في تحسن مستمر وحتى انتشار المتحور دلتا مازال الأغلبية ينسبونه بالدرجة الاولى لرفض نسب عالية من سكان مناطق محددة لأخذ التطعيم (هذا قد يتغير لو تغيرت الأرقام ومناطق الانتشار في قادم الايام).
بالتالي فهذه هي الفرصة الاولى منذ ٧ أشهر حكم فيها بايدن للهجوم عليه وقطاعات كبيرة من الإعلام لن تدعها تمر بدون ان تشبع لطماً وهجوماً عليه .. لكن هذا لن يستمر طويلاً وغالباً لن يكون له تأثير انتخابي ملموس.
كيف يمكن قياس مدى صحة هذا الاستنتاج سريعاً؟؟ عن طريق قياس الرضى الشعبي عن أداء الرئيس .. الرضى عن أداء بايدن حالياً في أضعف مستوى له منذ دخوله للبيت الأبيض .. لكنه مازال جيداً بالمقاييس المعاصرة حيث أن معدل الرضى في حدود ٥٠% تقريباً .. إذا ارتفع هذا المعدل أو انخفض انخفاضًا محدوداً فهذا يعني أن بايدن لم يدفع أي ثمن حقيقي لما حدث على المدى القصير .. إذا انخفض هذا الرقم بثلاث نقاط أو أكثر .. بمعنى أننا رأيناه يصل الى ٤٧% أو أقل فهذا يعني أن بايدن دفع ثمناً فادحاً على المدى القصير وقد لا يكون استنتاجنا بخصوص المدى المتوسط صحيحاً.
الاستثناء الوحيد والهام لهذا التحليل هو ثبوت خطأ النظرية التي بني عليها قرار الانسحاب من أساسه .. هذه النظرية تقول بأن أمريكا دخلت أفغانستان أصلا بهدف معاقبة المسؤولين عن الإرهاب الذي يستهدف امريكا ومنع تكرار ذلك مستقبلاً.
هناك الكثير من الأحاديث والتوقعات حول ماذا ستفعل طالبان في قادم الايام .. هل ستمارس التشدد الداخلي بنفس الأساليب والمستويات السابقة ام لا؟ والاهم هل ستعود لتحالفاتها مع التنظيمات الإرهابية وتجعل من أفغانستان ملاذاً آمناً لهم ومركزاً لتصدير الإرهاب مجدداً أم لا؟
نظرية الانسحاب تعتمد على أن هذا لن يحدث وأن طالبان تعلمت الدرس ولن تسمح بتكرار أخطاء الماضي خصوصاً أنها ستنتقل من كونها حركة قتالية تسعى للسيطرة إلى نظام يسعى للحكم وإدارة الدولة.
لكن الجزم بصحة هذا الأمر بدون بحثه بالتفصيل تفكير رغبوي لا يمكن الاعتماد عليه لبناء استنتاجات صلبة .. لنضع توقع حول ما ستفعله طالبان علينا أن نعرف ماهي الأجنحة الموجودة داخل الجماعة وماهي توجهاتها وما مدى قوتها على مستوى القيادات والقواعد وماهي مؤشرات سعي كل جناح لتطبيق أجندته والنتائج المتوقعة لهذه المؤشرات ومن ثم نراقبها ونضع استنتاجات.
لكن هذا كله خارج مجال بحثنا المتعلق بالسياسة الأمريكية الداخلية لذا لن نخوض فيه بل سنتركه لمن يمتلكون أدواته .. وسنكتفي بوضع الاحتمالات ونتائجها.
اذا التزمت طالبان بما يتوقعه المتفائلون وقطعت صلتها بالتنظيمات الإرهابية وتمكنت من لجمها على أرض أفغانستان فعلاً فهذا سيكون نصراً لقرار الانسحاب وترك طالبان تسيطر على كل شيء بسرعة .. قد لا يكون لهذا نتائج انتخابية إيجابية لصالح التيار البايدني لكنه سيكون رداً على انتقاد طريقة الانسحاب وسيمحو أي أثر سلبي نتج عن فوضى الانسحاب.
أما إذا بدأت ظواهر التحالف بين طالبان ومنظمات كداعش والقاعدة بالظهور على السطح بوضوح بل والأسوأ لو انطلقت أعمال إرهابية من هناك فعلاً فهذا سيكون ضربة قوية لسياسة بايدن وسيكون عليه أن يتخذ ردود فعل قوية وفي كل الحالات سيخسر سياسياً .. حجم الخسارة سيرتبط بحجم الرد ومدى فاعليته لكنها ستظل خسارة وقد تكون خسارة كبيرة يمتد أثرها لما وراء انتخابات 2022.
لكن هناك أثراً آخر أيضا على المدى القصير للفوضى الحالية يجب على المتابع المدقق أن لا يغفل عنه .. أجندة بايدن الداخلية خصوصاً فيما يتعلق بالاقتصاد ومشاريع البنية التحتية وما تستلزمه من رفع لمعدلات الإنفاق وسقف الدين سيلقى دفعة جيدة.
جزء لا بأس به من المعارضة لهذه المشاريع -خصوصاً فيما يتعلق برفع سقف الدين- هي معارضة بحكم الضرورة وليست بحكم المبدأ .. بمعنى أن قطاعاً من السياسيين الجمهوريين الذين يحاربون هذه المشاريع ويضعون أنفسهم كسد منيع أمام رفع سقف الدين يفعلون ذلك لأنهم بحاجة لمعارضة بايدن ومهاجمته وليس لأنهم يؤمنون بأهمية هذه المواقف.
هذه الفئة ستجد في فوضى الانسحاب مجالاً خصباً للهجوم والمعارضة والظهور كرأس حربة في الصراع مع بايدن والليبراليين من وراءه بدون الحاجة لمعارضة أمور لا تهمهم او حتى قد يرونها مفيدة .. وقد يأملون أيضا أنهم يستطيعون تحقيق الفائدة من المشاريع التشريعية لبايدن بدون ترك بايدن يحصد مكاسب انتخابية كبيرة نتيجة لتمرير أجندته.
هذا سيجعل من طريق مرور بعض بنود أجندة بايدن أكثر سلاسة مما سيساهم في تمكين بايدن من تمرير أجندته بنجاح أكبر وهي المهمة الصعبة جداً بل والقريبة من الاستحالة في ظل الأغلبية الضئيلة في مجلسي الكونغرس والتي تجعل كل بند ضحية لتجاذبات الأجنحة المختلفة وتحد كثيراً من قدرة القيادات على تمرير القرارات والقوانين وهذا مهم لأن تمرير أجندة بايدن سيكون البند الرئيسي في الدعاية الانتخابية التي سيقدمها الديموقراطيون في انتخابات 2022 و 2024 سواء لأن هذه الأجندة هي أنجح ما فعله الديموقراطيون مؤخراً وبالتالي سيطلبون إعادة انتخابهم لإتمام تنفيذها أو لإبعاد الأثر السلبي لبعض بنود دعاية أقصى اليسار والتي يعتقد الديموقراطيون أنها أثرت عليهم سلباً في انتخابات 2020 ويرون الجمهوريون اليوم يسعون بشكل شبه حصري للتحشيد ضدها جاعلين من المعارك الثقافية بندهم الرئيسي في هاتين الدورتين الانتخابيتين.