نشر مركز الجزيرة للدراسات ورقة علمية أعدها الباحث المختص في الشأن الفلسطيني وتقاطعاته الإقليمية د. محمود جرابعة، ترصد السياقات السياسية المرتبطة بملف الإعمار وكيف يمكن أن تؤثر التحولات السياسية والأمنية في كل من إسرائيل، ومصر، والأراضي الفلسطينية، على مستقبل إعادة الإعمار. وتبحث في السيناريوهات المتوقعة لمستقبل إعادة الاعمار في ظل التوترات الأمنية مع إسرائيل واحتمال اندلاع مواجهة عسكرية.
توقفت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في 21 مايو/أيار 2021، بعدما خلَّفت دمارًا واسعًا في المساكن والبنية التحتية وأكثر من 250 شهيدًا، من بينهم 66 طفلًا. بالرغم من مرور أكثر من 5 أشهر على انتهاء الحرب، إلا أنه لم يتبلور مسار واضح حتى الآن لإعادة إعمار ما دُمِّر أو الاتفاق على الجهة التي ستتولى ملف الإعمار. يضاف إلى ذلك، الحاجة الماسَّة لتقديم مساعدات إغاثية لسكان القطاع المحاصرين منذ العام 2007 والذين يعاني ثلثاهم -من مجموع مليوني نسمة- من انعدام الأمن الغذائي.
وفي ظل توترات أمنية متواصلة وإصرار إسرائيل على تغيير قواعد المعادلة العسكرية مع قطاع غزة وتحولات سياسية فلسطينية داخلية وإقليمية عديدة، تعمل القاهرة على تثبيت وقف إطلاق نار طويل الأمد ما بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل والتقدم في ملف المصالحة الفلسطينية الداخلية.
ترصد هذه الورقة السياقات السياسية المرتبطة بملف الإعمار وكيف يمكن أن تؤثر التحولات السياسية والأمنية في كل من إسرائيل، ومصر، والأراضي الفلسطينية، على مستقبل إعادة الإعمار واحتمالية تأخيره. وتبحث في السيناريوهات المتوقعة لمستقبل إعادة الإعمار في ظل التوترات الأمنية الشديدة مع إسرائيل واحتمال اندلاع مواجهة عسكرية وشيكة.
تعدد اللاعبين
أطلقت حماس معركة "سيف القدس"، كما تسميها، في 10 مايو/أيار 2021، ردًّا على سياسات إسرائيل الساعية إلى تغيير الواقع الديمغرافي والديني في مدينة القدس وداخل الحرم الشريف الذي يشمل المسجد الأقصى. فمع انطلاق اليوم الأول من رمضان (13 أبريل/نيسان 2021)، قام المستوطنون، وبحراسة من الشرطة الإسرائيلية، باقتحامات منظمة ومتكررة للمسجد الأقصى، تخلَّلها اعتقالات واعتداءات على المصلين الفلسطينيين. وتصاعد التوتر في المدينة في أعقاب محاولة إسرائيل إخلاء منازل سبع عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح ومصادرتها لصالح المستوطنين وذلك بالتزامن مع حشد مجموعات يمينية متطرفة بهدف التظاهر في المدينة واقتحام المسجد الأقصى احتفالًا بمناسبة ما يطلق عليه "يوم القدس".
نتيجة لهذه الأحداث المتسارعة، أطلقت الفصائل الفلسطينية رشقة صاروخية باتجاه المستوطنات الإسرائيلية وهو ما اعتبرته إسرائيل إعلان حرب لتشن هجمات واسعة على القطاع. استمرت الحرب 11 يومًا وألحقت دمارًا واسعًا بالمساكن والبنية التحتية في القطاع، حيث بلغ إجمالي الخسائر 479 مليون دولار، كان أبرزها في قطاع البنية التحتية والمنشآت العامة والإسكان، فبحسب اللجنة الحكومية العليا لإعمار غزة، بلغت الخسائر 292 مليون دولار. وفي قطاع الإسكان، على سبيل المثال، دُمِّرت 2200 وحدة سكنية بشكل كامل، و50 ألف وحدة سكنية بشكل بين متوسط وطفيف.
تعهدت مجموعة من الدول بتقديم الدعم المالي لإعادة إعمار قطاع غزة كان أبرزها تعهد قطر ومصر بتخصيص كل منهما 500 مليون دولار. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح الجهة التي ستتولى عملية الإعمار والآليات التي ستُعتمد لإتمامها، حيث يبرز في هذا الملف حاليًّا أربعة لاعبين أساسيين:
أولًا: حركة حماس: تسيطر حركة حماس منذ العام 2007 على قطاع غزة وتُصنَّف "حركة إرهابية" من قبل العديد من الدول الغربية وهو ما يعقِّد مسألة إعادة الإعمار؛ حيث يخشى المانحون أن "تستغل" الحركة أموال التبرعات لخدمة مشاريعها السياسية والعسكرية. وبالرغم من أن يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحماس في قطاع غزة، أعلن أن الحركة لن تأخذ "قرشًا واحدًا من أموال إعادة الإعمار"، إلا أن إسرائيل وحلفاءها يرغبون في وضع آليات دقيقة ومعقدة لتوزيع المساعدات، تتجاوز حماس أو التعاون معها في هذا الملف. يسود الاعتقاد داخل إسرائيل بأن حركة حماس استطاعت تجاوز الآلية الدولية التي جرى الاتفاق عليها بعد حرب عام 2014 من أجل مراكمة قوتها العسكرية وهو ما أظهرته جليًّا الحرب الأخيرة. فبالرغم من الحصار المشدَّد، استطاعت حماس مع الفصائل الفلسطينية الأخرى خلال الحرب الأخيرة ضرب عمق المدن الإسرائيلية بأكثر من 4 آلاف صاروخ، أي أربع مرات أكثر مما فعلت في حرب الخمسين يومًا في عام 2014. وبالتالي، فإن إسرائيل تسعى إلى تغيير المعادلات السابقة مع القطاع وحرمان الحركة من القدرة على مراكمة القوة العسكرية والاجتماعية.
ثانيًا: السلطة الفلسطينية: لا تزال إسرائيل والمجتمع الدولي يعترفان بالسلطة الفلسطينية شريكًا أساسيًّا وشرعيًّا في إدارة الأمور في قطاع غزة، وهي محل إجماع دولي وإقليمي لتولي ملف الإعمار. ولكن منذ خسارتها للسيطرة الأمنية على القطاع، عام 2007، فقدت السلطة القدرة على التأثير في مجريات القضايا السياسية والأمنية في القطاع الذي تتحكم فيه حركة حماس. تتمسك السلطة بأحقيتها وشرعيتها في إدارة ملف الإعمار كونها السلطة الشرعية المعترف بها دوليًّا وهو ما تعارضه حركة حماس التي ترغب في إشراكها في هذا الملف كونها السلطة الواقعية في قطاع غزة. تعتقد حركة حماس أن السلطة الفلسطينية استخدمت جزءًا من أموال الإعمار، عام 2014، لدعم ميزانيتها وتعمدت تأخير وصول الأموال للقطاع، لذا لا تفضِّل تولي السلطة الفلسطينية هذا الملف مجددًا.
ثالثًا: الأمم المتحدة والأونروا: تلعب الأمم المتحدة ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين (أونروا) دورًا محوريًّا في تقديم المساعدات الإغاثية للقطاع المحاصر بما في ذلك إعادة الإعمار؛ حيث بدأت الوكالة بعملية إعادة إعمار المنازل المدمرة والمتضررة الخاصة باللاجئين بغزة. تلعب الأمم المتحدة دورًا مركزيًّا في قطاع غزة، وخاصة تقديم المساعدات الإغاثية للقطاع المحاصر والذي يعد واحدًا من أكثر بقاع العالم اكتظاظًا بالسكان؛ حيث يعيش ما يقرب من 2 مليون شخص ضمن بقعة جغرافية مستطيلة تبلغ مساحتها 360 كيلومترًا مربعًا، يشكِّل اللاجئون الذي شُرِّدوا من أراضيهم في حرب عام 1948 حوالي ثلثيهم. ومنذ العام 2012، أصدرت الأمم المتحدة تحذيرًا بأنه إذا لم يُغيَّر الواقع في قطاع غزة، فإنه بحلول عام 2020 قد يصبح مكانًا غير صالح للعيش بسبب الأزمات الإنسانية المتراكمة وضعف البنية التحتية. ومنذ ذلك الحين، تغير الواقع في القطاع ولكن بصورة أكثر مأساوية، حيث أصبح يعتمد 80% (1.8 مليون نسمة) من سكان القطاع على المساعدات الإغاثية في ظل حصار خانق واقتصاد هش، وارتفاع كبير في نسبة البطالة والفقر وارتفاع أعداد الإصابات بفيروس كورونا (كوفيد 19).
من المتوقع أن تلعب الأمم المتحدة بسبب مسؤوليتها تجاه اللاجئين، دورًا شريكًا -كما حصل في مرات سابقة- في إعادة الإعمار عبر آليات معقدة تتجاوز فيها حركة حماس، كما حصل بعد حرب عام 2014؛ حيث اتسمت عمليات الإعمار بالبطء الشديد والبيروقراطية المعقدة التي أعاقت الإعمار. فمنذ حرب عام 2014، لا تزال 1700 وحدة سكنية دون إعمار بسبب هذه الآلية المعقدة والتي تتحكم فيها إسرائيل. لذلك، ترفض الفصائل الفلسطينية والسلطة الفلسطينية العمل مجددًا بهذه الآلية.
رابعًا: مجموعة مستقلة فلسطينيًّا
بعد يومين من انتهاء الحرب (23 مايو/أيار)، أعلن رئيس المكتب الإعلامي الحكومي بغزة (تديره حركة حماس)، سلامة معروف، عن وجود توافق وطني على تشكيل مجلس وطني لإعادة إعمار غزة، بحيث يكون المجلس المدخل الرسمي والدولي لعمليات الإعمار ويشرف عليها. يتألف المجلس من الحكومة في قطاع غزة، والقطاع الأهلي والخاص وبعض الشخصيات الوطنية. ولكن حتى الآن لم يتبلور هذا المجلس على أرض الواقع ومن المستبعد أن ينال ثقة المموِّلين الذين يفضلون تقديم الدعم عن طريق السلطة الفلسطينية أو المؤسسات الدولية.
بغضِّ النظر عن الآلية التي سيجري الاتفاق عليها، ستتأثر عملية إعادة الإعمار بمواقف وسياسات كل من إسرائيل ومصر اللتين تسيطران وتتحكمان في حدود القطاع، وكذلك التطورات الفلسطينية الداخلية التي تشهد تغيرًا في موازين القوى.
إسرائيل: البحث عن معادلات جديدة
خلصت إسرائيل إلى نتيجتين أساسيتين من الحرب:
الأولى: فشل سياسة "الهدوء المتبادل": طبقت إسرائيل منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، عام 2007، حصارًا خانقًا على القطاع لعزل الحركة واحتوائها سياسيًّا وأمنيًّا. كما تبنَّت استراتيجية "الهدوء المتبادل"، أي تحقيق هدوء على جانبي الحدود مع ضمان حماس لأمن الحدود ومنع الهجمات ضد إسرائيل في مقابل سماح إسرائيل بإدخال المساعدات الإنسانية وتحسين الظروف الاقتصادية في القطاع المحاصر. وضمن هذا الإطار، نسَّقت إسرائيل منذ العام 2018، إدخال مساعدات قطرية شهرية، تبلغ حوالي 30 مليون دولار شهريًّا، عبر مطار بن غوريون إلى قطاع غزة عبر ما يُعرف بسياسة "الحقائب" وذلك لتمويل مشاريع البنية التحتية والتزويد بالوقود، ودفع رواتب موظفي القطاع، ودعم الأسر الفقيرة.
الثانية: تغيير قواعد المعادلة: راهنت إسرائيل على أن الهدوء المتبادل سيقلِّل مع الوقت من دافعية حركة حماس القتالية واستعداداتها بالتالي لشنِّ عمليات عسكرية ضد أهداف إسرائيلية. لذلك، اعتبرت تل أبيب جبهة قطاع غزة، على مدار سبع سنوات -أي منذ حرب عام 2014- معركة ثانوية أقل إلحاحًا من الساحتين الشمالية والإيرانية اللتين احتلَّتا موقعًا متقدمًا في الاستراتيجية السياسية والعسكرية الإسرائيلية. ولكن، أثبتت الحرب الأخيرة أن حركة حماس استفادت من التهدئة من أجل تعزيز قوتها العسكرية والاستعداد لمرحلة جديدة من الصراع مع إسرائيل. فاجأت معركة "سيف القدس" القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية التي باتت على قناعة بأن حركة حماس نجحت في تغيير قواعد المعادلة السابقة في علاقات إسرائيل بقطاع غزة -الهدوء مقابل الهدوء- وأن الحركة حققت أقصى قدر من الإنجازات بأقل قدر من الضرر. وفوق كل ذلك، أثبتت الحرب تآكل سياسة الردع الإسرائيلية في الحرب الأخيرة مع استمرار تساقط الصواريخ من قطاع غزة حتى اللحظات الأخيرة من وقت وقف إطلاق النار. فمن المنظور الإسرائيلي -وهو ما تؤكده التحولات الفلسطينية الداخلية- عززت الحرب مكانة حماس وشعبيتها وصورتها كقائد وطني منتصر بعدما استطاعت حشد الفلسطينيين في كافة أماكن وجودهم، بمن في ذلك الفلسطينيون في أراضي 1948، وبصورة غير مسبوقة.
وبالتالي، تجد إسرائيل اليوم نفسها أمام معضلة استراتيجية تجاه التعامل مع قطاع غزة، بما في ذلك إعادة الإعمار وتخفيف الحصار. فمن جهة، لا ترغب في رفع الحصار وبدء الإعمار خوفًا من زيادة نفوذ حماس وقوتها العسكرية في قطاع غزة. ومن جهة أخرى، استمرار الأزمة الإنسانية في القطاع قد يدفع الأوضاع الأمنية الهشة إلى الانزلاق مرة أخرى نحو المواجهة، خاصة أن حماس لم تتوقف عن الضغط على إسرائيل عن طريق المظاهرات على الحدود، وإطلاق البالونات الحارقة، وفي بعض الحالات المحدودة إطلاق الصواريخ، وذلك من أجل التوصل إلى معادلات سياسية وأمنية جديدة، تستجيب لشروط حماس بإنهاء الحصار وبدأ عملية الإعمار.
تعاني إسرائيل حاليًّا من استراتيجيتها المضطربة في التعامل مع القطاع، وتمر بمرحلة حسابات دقيقة لحسم موقفها ودورها في ملف الإعمار. فبعد الحرب، أعلنت في البداية عن سماحها بدخول المساعدات الإنسانية الأساسية فقط إلى القطاع وربطت إعادة إعمار ما دمَّرته آلتها العسكرية بإفراج حماس عن أربعة أسرى تحتجزهم الحركة منذ سنوات. ولكن مع زيادة الضغوط عليها، بدأت إسرائيل في تخفيف حصارها على القطاع وسمحت بدخول البضائع والأشخاص من وإلى القطاع مع استمرارها في الاعتراض على إعادة الاعمار، خوفًا من استخدام حركة حماس لمواد الإعمار في تعزيز مكانة الحركة على حساب السلطة الفلسطينية التي تعتبرها إسرائيل شريكًا سياسيًّا وأمنيًّا أساسيًّا لها.
مصر: مراكمة الضغوط
تلعب مصر منذ الانقسام الفلسطيني، عام 2007، دورًا أساسيًّا في الحصار المفروض على قطاع غزة، باستثناء فترات قصيرة، خاصة بعد سقوط نظام حسني مبارك، عام 2011، و"الانقلاب" على الرئيس محمد مرسي، عام 2013، حيث أحكمت السلطات المصرية إغلاق معبر رفح الحدودي بين مصر وقطاع غزة ما حرم أهلها من منفذهم الوحيد إلى العالم. ومنذ مجيء السيسي عام 2013، قامت القاهرة بتدمير مئات الأنفاق على طول الحدود وبناء سياج أمني موصول بالكهرباء وحواجز مائية ضخمة.
ألقت مصر بثقلها السياسي من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار وسارعت مع انتهاء الحرب إلى إرسال معدات هندسية وأطقم فنية للمساعدة في إزالة الانقاض من أجل التمهيد لمرحلة إعادة الإعمار. أثار الموقف المصري الكثير من التساؤلات وربطه البعض بمساعي القاهرة الرامية إلى ترسيخ نفسها لاعبًا إقليميًّا بعدما تراجع دورها خلال السنوات القليلة الماضية في أعقاب توقيع إسرائيل "اتفاقيات أبراهام" مع الإمارات والبحرين والمغرب، وما رافق ذلك من تهميش لدور مصر التاريخي المرتبط بإدارة، أو على الأقل ضبط الصراع ما بين الفلسطينيين وإسرائيل.
يضاف إلى ذلك، رغبة الرئيس السيسي في التقارب مع إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي كان أظهر اهتمامًا بوقف إطلاق النار بعد ضغوطات داخلية تعرض لها. كما أن التحولات الإقليمية المرتبطة بملف المصالحة التركية/القطرية-المصرية، قد تكون أسهمت في تخفيف مصر من مواقفها العدائية تجاه حركة حماس التي بدأت بدورها منذ العام 2017 في سياسات تقارب مع النظام المصري، تمثلت في فكِّ ارتباطها بالمسار السياسي لتنظيم الإخوان المسلمين في مصر، وتعاونت أمنيًّا مع القوات المصرية من أجل ضبط الحدود. وظهر ذلك جليًّا مؤخرًا في تحول خطاب الحركة من الانتقاد والهجوم على القاهرة، إلى الإشادة الدائمة بمصر ورئيسها السيسي الذي باتت صوره تُعلَّق بشكل لافت في الأماكن الحيوية في القطاع.
لم تثمر الجهود حتى الآن في بلورة خطوات ملموسة لوضع مسار واضح للبدء في إعادة الإعمار وتقديم مساعدات إغاثية عاجلة ودفع رواتب موظفي القطاع بالرغم من المباحثات متعددة الأطراف التي أجرتها القاهرة مع السلطة الفلسطينية، وحركة حماس، وإسرائيل. ويبدو أن القاهرة تربط ملف الإعمار بمسار سياسي واسع يشمل تهدئة طويلة الأمد، وتبادلًا للأسرى، وإحراز تقدم في ملف المصالحة الفلسطينية. وضمن هذا الإطار، يمكن تفسير مباحثات القاهرة المكوكية مع أطراف النزاع والتقارب المصري/الإسرائيلي غير المسبوق والذي تُوِّج بزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، إلى القاهرة لأول مرة منذ عشر سنوات.
تعهدت القاهرة، وعلى خلاف الحروب السابقة، بتخصيص مبلغ 500 مليون دولار من أجل الإسهام في إعادة إعمار القطاع بالرغم من ظروفها الاقتصادية الداخلية الصعبة وارتفاع نسبة الدَّيْن الخارجي خلال الربع الأول من العام 2021 لتبلغ 134.8 مليار دولار مع معاناة كبيرة في عجز الموازنة. أعلنت القاهرة بشكل مفاجئ قبل التوصل لوقف إطلاق النار عن إسهامها المادي والتي ستكون على الأغلب على شكل تصدير مواد بناء للقطاع المحاصر وإسهام الشركات المصرية في إعادة الإعمار. ومثلما فعلت إسرائيل في مشاريع إعمار سابقة، فإن مصر ستستخدم على الأغلب مواد الإعمار، في حال وافقت إسرائيل على ذلك بالطبع، من أجل مراكمة ومواصلة الضغط على الفصائل الفلسطينية سواء في ملف التهدئة مع إسرائيل أو ملف المصالحة الفلسطينية الداخلية؛ إذ لا تزال مصر تفضِّل إعادة السلطة الفلسطينية إلى القطاع شريكًا أساسيًّا في الإعمار.
تغير المعادلات السياسية الفلسطينية الداخلية
تتمسك السلطة الفلسطينية بالمسؤولية عن تولي ملف إعادة الإعمار بكونها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني والسلطة المعترف بها دوليًّا وإقليميًّا وإسرائيليًّا. ومع ذلك، أظهرت الحرب هشاشة السلطة الفلسطينية وضعفها في تمثيل الفلسطينيين أو الدفاع عنهم مقابل حركة حماس. وتُبرز نتائج الحرب تغير المعادلات السياسية الفلسطينية الداخلية وستنعكس على الأغلب على جهود الأعمار، كما ستعزز التنافس بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية على إدارة هذا الملف.
أولًا: صعود حماس وتراجع السلطة: لم تُخِفْ مراكمة حماس لقوتها العسكرية والسياسية إسرائيل فقط، بل السلطة الفلسطينية التي تنظر إلى الحركة وتتعامل معها كمنافس سياسي واستراتيجي خطير. فمع انطلاق صواريخ حماس، بدأت الحركة ترسخ نفسها كفاعل سياسي فلسطيني مركزي لا يمكن تجاوزه. فبعد أربعة أشهر من انتهاء الحرب، أظهر استطلاع للرأي العام الفلسطيني، أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، اهتزاز ثقة الفلسطينيين بقيادة السلطة ومؤسساتها الأمنية، مقابل الثقة الواسعة بأقوال ووعود حركة حماس. فالغالبية العظمى من الفلسطينيين (71%) ترى في نتائج الحرب الأخيرة انتصارًا لحركة حماس وتميل النسبة الأكبر منهم (45%) إلى الاعتقاد بأن حركة حماس هي الأجدر بتمثيل الشعب الفلسطيني وقيادته، مقابل نسبة (19%) تعتقد بأن حركة فتح هي الأجدر بذلك. وفي حال أُجريت انتخابات
رئاسية وتشريعية، فإن الحركة ستحقق انتصارًا واضحًا فيها على حساب حركة فتح. وبشكل خاص، ستُلحق الحركة هزيمة قاسية، في حال جرت انتخابات رئاسية، بالرئيس، أبو مازن، الذي انتهت شرعيته الانتخابية منذ أكثر من عشر سنوات ويطالبه اليوم 78% من الفلسطينيين بالاستقالة.
ثانيًا: وعي فلسطيني جديد: لم تؤدِّ الحرب إلى تعزيز قوة حماس الداخلية فقط، بل أسهمت بخلق وعي فلسطيني جديد تجاه الحلول السياسية المرتبطة بإنهاء الصراع مع إسرائيل. منذ انهيار المفاوضات الفلسطينية، عام 2014، عملت إسرائيل على تعزيز وجودها في الضفة الغربية وتوسيع الاستيطان؛ ما أدى فعليًّا إلى تلاشي خيار حل الدولتين من الناحية الواقعية، وبالتالي فشل مشروع السلطة السياسي الذي تحول مع مرور الوقت من إقامة دولتين لشعبين إلى إدارة كانتونات متقطعة تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية. جاءت الحرب الأخيرة لتعزز ثقة الفلسطينيين بقدرة العمل العسكري على تحقيق إنجازات سياسية وعسكرية بالرغم من الثمن الباهظ الذي يمكن أن ينتج عنه. يعتقد ثلثا الفلسطينيين (67%) أن الحرب التي "بدأتها" حماس كانت من أجل الدفاع عن القدس والمسجد الأقصى وأنه ينبغي على الحركة إعادة إطلاق الصواريخ في حال عودة إسرائيل إلى سياساتها السابقة في مدينة القدس والمسجد الأقصى. فالعمل المسلح أصبح هو الطريق الأمثل اليوم لغالبية الفلسطينيين أداةً لإنهاء الاحتلال، في حين تعمل السلطة الفلسطينية على إحلال المفاوضات محله وصناعة "الفلسطيني الجديد" الذي يحمي إسرائيل وينسق معها أمنيًّا.
وبالتالي، فإن السلطة الفلسطينية ترى في صعود حركة حماس خطورة على مستقبل مشروعها السياسي ليس فقط في قطاع غزة بل أيضًا في الضفة الغربية التي هبَّت لنصرة القدس وقطاع غزة. وهذا يعني أن نجاح إعادة الإعمار يمكن أن يرسِّخ موقع حركة حماس قائدةً للمشروع الوطني الفلسطيني وهو ما تسعى السلطة الفلسطينية لمنعه. وراهنًا، تؤكد الأحداث المتعلقة بملف إعادة الإعمار أن السلطة غير متحمسة للمساعدة في هذا الملف خوفًا على مصالحها السياسية والاقتصادية. فبعدما جرى الاتفاق مع قطر على آلية تقوم على تحويل أموال المساعدات إلى بنوك السلطة الفلسطينية ومن ثم تحويل الأموال إلى الموظفين، أوقفت السلطة مشاركتها في الخطة خوفًا من استهداف البنوك المشاركة بالعقوبات.
تداعيات وسيناريوهات
سيشكِّل انخراط مصر في إعادة الإعمار ووجودها في قطاع غزة على الأغلب ضمانة، ولو مؤقتة، لعدم انزلاق الأوضاع الأمنية مرة أخرى إلى حافة عدم العودة. تسعى مصر على الأغلب إلى ربط ملف الإعمار بتوافقات أمنية أوسع تشترك فيها السلطة الفلسطينية والفصائل الفلسطينية المختلفة. وعلى الأرجح، ستعمل مصر على ربط إعادة الأعمار بملف المصالحة الفلسطينية، أو على الأقل التنسيق مع السلطة في هذا الشأن. وفي المحصلة النهائية، سيكون هدف القاهرة إعادة ضبط الفصائل الفلسطينية واحتواءها ضمن عملية سياسية فلسطينية داخلية تؤدي في محصلتها النهائية إلى تقييد نشاطات الفصائل الفلسطينية العسكرية وزيادة تعاونها، وخاصة حركة حماس المسيطرة على القطاع، في تأمين الحدود المصرية مع قطاع غزة، من جهة، وتثبيت التهدئة مع إسرائيل، من جهة أخرى. وبالتالي، فإن إعادة الإعمار ستوفر للقاهرة أداة للضغط السياسي على حركة حماس ضمن مساعي احتواء الحركة عسكريًّا والتأثير على مسارها السياسي.
وبخصوص علاقة حماس والسلطة وفريقها، فموازين القوى الداخلية التي نتجت عن الحرب ستجعل السلطة الفلسطينية على الأرجح تتوجس من المشاركة في إعادة إعمار القطاع بصورة يمكن أن تؤدي إلى ترسيخ سيطرة حماس على القطاع وزيادة مكانتها فلسطينيًّا. في المقابل، فإن حركة حماس لا تُظهر حماسة تجاه الشراكة مع السلطة الفلسطينية التي تعتبرها متواطئة مع إسرائيل سياسيًّا وأمنيًّا. وفي ظل غياب انتخابات فلسطينية شاملة تعيد تجديد النظام السياسي واستعادة الوحدة ما بين قطاع غزة والضفة الغربية، سيكون جلب الأموال ومواد الإعمار من الخارج لبناء ما هُدم مسألة في غاية التعقيد. فحماس ستعارض أن تتولى السلطة الفلسطينية جلب الأموال ومسؤولية الإعمار خوفًا من أن تنفق هذه الأخيرة الأموال على ميزانيتها لتغطية بعض البنود، كما حدث في أموال الإعمار بعد حرب 2014. ولكن التأخر في إعادة الإعمار وتحسين الظروف الاقتصادية في القطاع سيشكِّل عامل ضغط على حماس وربما يُفقدها بعض التعاطف الشعبي. وكمخرج من هذه الأزمة، يبدو أن استقالة الحكومة الفلسطينية برئاسة محمد شتية وتشكيل حكومة فلسطينية جديدة من التكنوقراط تكون مقبولة لحركتي فتح وحماس وقد تشكِّل عاملًا مساعدًا في تسهيل دخول أموال ومواد الإعمار.
أما السيناريوهات المتعلقة بغزة وإسرائيل، فبالرغم من توصل الفصائل الفلسطينية، في 21 مايو/أيار 2021، إلى هدنة مع إسرائيل وتنفيذ المرحلة الأولى من إزالة أنقاض الحرب، تبقى كافة الخيارات مفتوحة بما في ذلك انهيار الوضع الأمني الهش، وهو ما يمكن رسمه في عدة سيناريوهات محتملة وتداعياتها على ملف الإعمار.
الأول: انهيار الهدنة الهشة: تعتبر الأوضاع الأمنية الهشة ما بين إسرائيل وقطاع غزة وغياب أي أفق سياسي للحل أحد العوامل التي تعيق إعادة الإعمار. يثير المانحون الكثير من القلق من إعادة تدمير إسرائيل لما سيجري إعماره في حال تجدد المواجهات العسكرية كما حصل في جولات سابقة من القتال وإعادة الإعمار. فمنذ انتهاء القتال، تتحضَّر إسرائيل إلى جولة ثانية من الحرب والتي ستعتمد هذه المرة على "عنصر المفاجأة"، كما أعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، أي إن إسرائيل يمكن أن تبادر هذه المرة لشنِّ حملة عسكرية كبيرة ومفاجئة على القطاع كما حصل في حرب عام 2008. وضمن هذه المساعي، لم تتوقف إسرائيل منذ انتهاء الحرب عن التحضير للخطط العسكرية وإجراء المناورات العسكرية على حدود القطاع والتي كان آخرها في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2021. وسواء كان ذلك بهدف زيادة الضغط على حركة حماس والفصائل الفلسطينية أو بهدف شن حملة عسكرية، فإنه يُظهر أن إسرائيل مصمِّمة على تغيير قواعد اللعب مع حركة حماس وأنها لا ترغب في تقديم تسهيلات في ملف الإعمار قبل تحقيق هذا الهدف. ويزيد من احتمالية المواجهة مع قطاع غزة التوترات الأمنية مع انسداد أفق إعادة الإعمار وتحسين الأوضاع المعيشية في قطاع غزة. فقد تلجأ الفصائل الفلسطينية إلى إعادة الاحتكاك مع قوات الاحتلال المتمركزة على حدود القطاع بهدف مراكمة الضغط وهو ما قد يؤدي إلى انهيار الوضع الأمني القائم. يضاف إلى ذلك، تصاعد التوتر الأمني في الضفة الغربية ومدينة القدس، وخاصة بعد التوتر الكبير الذي نشأ في أعقاب فرار الأسرى السِّت، والذي رافقه إطلاق صواريخ من غزة. فلم تتوقف إسرائيل خلال الأشهر الماضية عن استهداف الفلسطينيين وملاحقة الناشطين الفلسطينيين كان آخرهم استشهاد خمسة أشخاص أثناء عملية عسكرية واسعة النطاق للجيش الإسرائيلي ضد البنية التحتية لحركة حماس. كما أن إسرائيل لا تزال مستمرة في نهجها تجاه تهويد المسجد الأقصى، من ذلك سماح محكمة الصلح مؤخرًا للإسرائيليين "بالصلاة الصامتة" والذي قامت المحكمة المركزية لاحقًا بإلغائه. فمن المرجح أن تقود هذه التوترات الأمنية إلى مواجهة أمنية واسعة هذه المرة والتي ستعيد النقاش حول الإعمار إلى نقطة الصفر.
الثاني: استعادة الردع: يسود الاعتقاد داخل إسرائيل بأن الردع الإسرائيلي قد تآكل في نظر حركة حماس التي باتت مقتنعة بأن إسرائيل مشغولة في أزمتها السياسية الداخلية، ومتاعبها الاقتصادية، وأزمة كورونا، والمشروع النووي الإيراني؛ وهو ما يجعل من الصعب عليها شن حملة عسكرية كبرى ضد القطاع. بالتالي، تسعى حماس إلى انتزاع التنازلات من إسرائيل، وخاصة في مسألة تبادل الأسرى التي تعوِّل عليها الحركة لمراكمة رصيدها الشعبي والسياسي بين الفلسطينيين. وضمن هذه المعطيات ستكون السياسة الإسرائيلية على الأغلب أمام خيارين:
أولًا: إعادة تفعيل سياسة الردع: وذلك عن طريق شنِّ حرب واسعة ضد حركة حماس، على غرار الحروب ما بين 2008-2014، مع استهداف محدد ومكثف لقيادات حركة حماس وهو ما سيسمح لإسرائيل بتشكيل واقع استراتيجي أكثر ملاءمة لها بعد إضعاف الحركة والعمل على تدمير بنيتها العسكرية. من الناحية العملية، تأمل إسرائيل بأن عملية عسكرية مفاجئة وشديدة قد تؤدي إلى انخفاض كبير في نطاق التصعيد بصورة مشابهة للوضع الأمني في مرحلة ما بعد حرب عام 2014، وربما إلى المزيد من المرونة من جانب حماس بشأن موضوع أسرى الحرب الإسرائيليين لديها.
ثانيًا، تحسين الوضع الإنساني في غزة وتسهيل إعادة الإعمار مقابل مرونة شديدة من قبل حركة حماس وهدوء طويل الأمد: أي إعادة تفعيل سياسة "الهدوء مقابل الهدوء". مؤخرًا، طرح وزير الخارجية الإسرائيلي -وهو أيضًا رئيس الوزراء بالتناوب- يائير لبيد، خطة جديدة من أجل تحسين الوضع الاقتصادي وإعادة الإعمار في القطاع تقوم على مبدأ "الاقتصاد من أجل الأمن". قال لبيد خلال مؤتمر أمني في جامعة رايشمان، إنه منذ انسحاب القوات الإسرائيلية من غزة في عام 2005، لم تكن السياسة الإسرائيلية، التي تضمنت الحصار والقيود على الواردات والصادرات وأربع جولات من الحرب، فعالة في وقف الهجمات المتكررة من قبل حماس والجماعات المسلحة الأخرى.
وتقوم خطة لبيد على تحقيق الاستقرار على جانبي الحدود مع محافظة حركة حماس على هدوء طويل الأمد. وتشمل مرحلتين، في الأولى منها إعادة إعمار "البنية الإنسانية" وتشمل شبكات الطاقة والغاز وتحلية المياه، والخدمات الصحية، والمواصلات. وفي حال جرى الحفاظ على الهدوء على الحدود وضمان أمن إسرائيل، يجري الانتقال إلى المرحلة الثانية وتشمل بناء جزيرة اصطناعية قبالة شاطئ غزة لميناء جديد. بالإضافة إلى ذلك، سيُعاد ربط غزة بالضفة الغربية، لاسيما أن إسرائيل تحظر حركة الأشخاص والبضائع بين المنطقتين.
خلاصة
سواء لجأت إسرائيل إلى المواجهة العسكرية أو الهدوء طويل الأمد، فإن إعمار القطاع سيحتاج إطارًا سياسيًّا شاملًا يضمن حلًّا متكاملًا للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني مع توافقات دولية تضمن عدم قيام إسرائيل مجددًا بتدمير ما أعيد إعماره. كما لا يمكن تنفيذ عملية إعمار فعالة في ظل الحصار المطبق المفروض على القطاع وهو ما يتطلب إزالته بصورة دائمة مع قبول ضمني بحركة حماس واقعًا في قطاع غزة.