على مدى الأيام والأسابيع القليلة الماضية، اكتظّ فضاء المعلومات بأنواع مختلفة من التنبؤات والسيناريوهات المروعة لتطور الأحداث في جميع أنحاء أوكرانيا. يتحدّث صحافيون وخبراء وسياسيون بجدية عن حتمية نشوب حرب روسية أوكرانية، والتحضير لانقلاب في كييف، وردّ مدمر من الغرب، وحتى عن الصراع العالمي المقبل باستخدام الأسلحة النووية.
فلنحاول الإجابة عن العديد من الأسئلة المترابطة التي ربما تُثار في رأس أي شخص تقصفه هذه الموجة من النبوءات والتنبؤات القاتمة. لماذا أُطلق هذا الهجوم المعلوماتي؟ من يستطيع أن يقف خلفه؟ من يستفيد منه؟ ما الذي يحدث بالفعل؟ أو ما الذي يمكن أن يحدث حول أوكرانيا في المستقبل القريب؟
لنبدأ بخطط موسكو ونيّاتها. يدرك أي شخص عارف إلى حد ما بهيكل السلطة في روسيا أنّ دائرة ضيقة جداً من الأشخاص القريبين بشكل خاص من هذه السلطة يمكن أن تكون على دراية بالخطط أو النيات الحقيقية للحكومة الروسية.
هؤلاء الناس في فضاء المعلومات، كقاعدة عامة، "غير مكشوفين". في العادة، الأشخاص الَّذين يدلون ببيانات صاخبة هم أولئك الذين وجّههم رؤساؤهم لإحداث بعض الضوضاء أو الذين يتصرّفون على مسؤوليتهم الخاصة، مخاطرين على حسابهم كي تتم ملاحظتهم وتقديرهم من قبل الإدارة العليا.
وبطبيعة الحال، لا يعرف أي من هؤلاء "المتحدثين" شيئاً من خطط الكرملين، لكن تصريحاتهم يمكنها أن ترفع أو تخفض مستواهم المهني ببساطة. لسوء الحظ، إن الحملة التي أطلقها هؤلاء الأشخاص المهتمون بالحرب الوشيكة المزعومة في أوكرانيا، والتي لا أساس لها، ولا تملك أهمية عملية، تؤثر حتماً في المزاج العام في روسيا، ما يسبّب الذعر من جهة، ويرفع مستوى المزاج العسكري من جهة أخرى.
إلى جانب العواقب الوخيمة الناجمة عن الوباء الذي لم يتم التغلب عليه بالكامل بعد، فإن حملة كهذه يمكن أن تؤدي إلى إضعاف معنويات المجتمع الروسي وإلحاق الأذى به. سيظهر الوقت عواقب هذه العملية، لكن لا يمكن توقع أي شيء جيد من هذه الهستيريا.
يمكن الافتراض أن شخصاً ما في روسيا يحتاج إلى حملة أخرى مناهضة لأوكرانيا من أجل صرف الانتباه عن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخطرة، ورفع الروح الوطنية للسكان، وتوحيد البلاد. إذا اعتقد شخص ما ذلك، فعلى الأرجح، بمرور الوقت، قد يصاب بخيبة أمل خطرة. إن فكرة الحرب ضد أوكرانيا أو فيها لن تؤدي في أي حال من الأحوال إلى فكرة وطنية جديدة، وهي ليست المنصة التي يمكن أن يتّحد المجتمع الروسي عليها على الإطلاق.
لنحاول الآن النظر إلى هذه المشكلة من الزاوية الأوكرانية. ينبغي الاعتراف بأن هناك عدداً غير قليل من القوى في أوكرانيا التي تهتم، لأسباب مختلفة، بإثارة هستيريا المعلومات حول العلاقات مع روسيا. إنها تنطلق من أن تجسيد دور الضحية البريئة للدب الروسي المتعطش إلى الدماء لا يمكن إلا أن يعطي مكاسب لأوكرانيا.
أولاً، في رأي ممثلي هذه القوى، في مثل هذه الحال، يكون من الأسهل تنفيذ خطة لتشكيل هوية وطنية جديدة. ثانياً، في ظل هذه الظروف، قد يكون الغرب مستعداً لغض الطرف عن الفضائح السياسية الداخلية والفساد والمشكلات الأخرى للدولة الأوكرانية. ثالثاً، من خلال تجسيد دور الضحية، يمكنهم أن يعتمدوا على زيادة المساعدة الاقتصادية والعسكرية. رابعاً، لا تؤدي العديد من الأعمال الخرقاء للدعاية الروسية إلا إلى زيادة المشاعر المعادية لروسيا في أوكرانيا نفسها. لذلك، من المنطقي أن نفترض أن كييف ستواصل بذل قصارى جهدها لإثارة التوتر في فضاء المعلومات.
بالنسبة إلى واشنطن وحلفائها الأوروبيين الأطلسيين، فإن الحملة حول "العدوان الروسي الوشيك في أوكرانيا" تؤدي دوراً لمصلحتها، إذ تسمح لها بتحويل الانتباه بعيداً عن مشاكلها الداخلية، وبرصّ الصفوف داخل كتلة شمال الأطلسي القديمة، وتصرف الانتباه عن فرار الجيوش الغربية المخزي من أفغانستان.
ومن خلال التركيز على الأحداث الجارية حول أوكرانيا، يحاول البيت الأبيض مكافحة الفكرة السائدة في أوروبا بأن الاتجاه الأطلسي للسياسة الخارجية الأميركية بات ثانوياً في سلّم الأولويات الأميركية، فاسحاً المجال أمام اتجاه واشنطن إلى المحيطين الهندي والهادئ.
باختصار، الجميع مشغولون بأعمالهم الخاصة، ويديرون حرباً دعائية حول أوكرانيا، لكن هل هناك قوى يمكن أن تكون مهتمة حقاً، ليس بالدعاية، ولكن بحرب حقيقية في أوكرانيا؟ هنا، تبدو الصورة مختلفة. إذا تجاهلنا آراء المتعصبين المسعورين والمحرضين المحترفين، فسنجد ما يلي: لا يحتاج أحد إلى حرب حقيقية باستخدام الأنواع الحديثة من الأسلحة، مع عدد لا يحصى من الضحايا ودمار هائل. الجميع سوف يخسرون في مثل هذه الحرب: روسيا والغرب وأوكرانيا.
إن حرباً كهذه ستكون لها تكاليف سياسية وعسكرية واقتصادية باهظة على الجميع، ولن يكون من السهل التعافي منها، ليس خلال سنوات فحسب، ولكن ربما خلال عقود كاملة أيضاً. لن تكون عواقب حرب كبرى في وسط أوروبا على المدى الطويل أقل من عواقب الحادث الذي وقع في محطة تشيرنوبل للطاقة النووية، وهي ماثلة في حياتنا منذ ما يقارب 40 عاماً حتى اليوم. مَنِ المستعد لتحمّل مثل هذه المخاطرة؟
فلنترك التنبؤات بشأن الصراع العسكري في وسط أوروبا وسيناريوهاته على ذمة استراتيجيي الأرائك الكثيرين، ودعونا نستخلص استنتاجاً غير مبتكر للغاية، لكنه لا يزال وثيق الصلة بموضوعنا:
إن الطريقة الوحيدة الجديرة بإخراج جميع الأطراف من الوضع الحالي هي أن يجلسوا من دون تأخير إلى طاولة المفاوضات، ويتناقشوا حول الضمانات الأمنية المتبادلة، فقد قدمت روسيا والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي المقترحات بهذا الشأن. مواقف الأطراف معروفة، والآن نحن بحاجة إلى التفاوض.
* إيغور إيفانوف: رئيس "المجلس الروسي للشؤون الدولية"، ووزير خارجية الاتحاد الروسي (1998-2004). بروفيسور في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية الروسية، وعضو مراسل في الأكاديمية الروسية للعلوم.