في الدراما الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، تؤدي إسرائيل دوراً غريباً غير مريح وغير سار: دور الصديق القديم لزوجين يمران بعملية طلاق. في البداية، عندما لم يكن الوضع بين الزوجين قد وصل إلى المحاكم، كان الصديق القديم قريباً من الطرفين. لكن بمرور الوقت، تفاقم النزاع شيئاً فشيئاً، وتحول الشجار الصامت إلى حرب صاخبة. هنا يأتي دور الصديق كي يدفع ثمن صداقته، إذ يطلب منه الطرفان، بإلحاح، اختيار أحدهما. هذا هو بالضبط الذي لا ترغب دولة إسرائيل في مواجهته.
ومثل الصديق القديم، كانت لدولة إسرائيل في العقد الأخير علاقات جيدة ومميزة مع روسيا بوتين، ومع أوكرانيا (التي أقامت معها الدولة اليهودية شبكة علاقات نوعية قبل أن يتولى رئاسة الحكومة فيها رئيس من أصل يهودي). طوال أعوام، وعلى الرغم من الاضطرابات التي حدثت بين روسيا وأوكرانيا، فإن إسرائيل نجحت في السير بين النقاط، والمحافظة على مصالحها من دون الانجرار إلى الحرب، ومن دون مواجهة خيار لا ترغب فيه واختيار الطرف الذي يجب أن تؤيده.
أثناء الأزمة الروسية – الأوكرانية السابقة، أزمة ضم الروس لشبه جزيرة القرم في سنة 2014، كانت المخاوف في إسرائيل مشابهة لمخاوفها اليوم. حينها، تباهى كبار المسؤولين في إسرائيل، وعلى رأسهم رئيس الحكومة آنذاك، بنيامين نتنياهو، "بالعلاقات الخاصة مع الصديق بوتين". قبل عامين، نظّم نتنياهو لبوتين حدثاً مهماً في صيف 2012، كذريعة لزيارة الرئيس الروسي إلى إسرائيل. على شاطئ البحر المتوسط، وفي منطقة الكورنيش في مدينة نتانيا، أقيم احتفال بتدشين النصب التذكاري للجنود السوفيات الذين سقطوا في الحرب العالمية الثانية. وُلدت فكرة إقامة النصب التذكاري والاحتفال الجماهيري، ودعوة الرئيس بوتين كضيف أساسي، من رغبة نتنياهو (أو من رغبة الذين نصحوه بذلك ويعرفون شيئاً ما عن عقلية الساكن في الكرملين) في إيجاد سبل للوصول إلى قلب بوتين، وتحسين العلاقات الإسرائيلية – الروسية ورفعها إلى مستوى لم تشهده منذ سنة 1948.
في تلك الفترة، في مطلع العقد، كان بوتين مفتوناً بفكرة توحيد الدول السلافية الثلاث، التي كانت جزءاً من دولة كبرى منذ زمن قريب، حول دورها في المساهمة السوفياتية في الانتصار على ألمانيا النازية. لم يكن للدول الثلاث (روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا) الكثير من الموضوعات المشتركة، لكن كانت لهم تضحية مشتركة ودموية، إذ سقط نحو 23 مليون مواطن من الاتحاد السوفياتي ضحايا في الحرب العالمية الثانية.
أمِل بوتين بنجاحه في بناء حلف سلافي جديد حول التضحية المشتركة هذه. وقام بحملة عالمية كبيرة، وفي إسرائيل كان هناك مَن وجد في ذلك فرصة كبيرة، وسعى لإقناع نتنياهو الذي كان في بداية ولايته الأولى لرئاسة الحكومة (بعد عودته إلى الحياة السياسية)، فقفز على المناسبة بكل قوته. شخصان من محيطه المقرب، وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، ورئيس الائتلاف آنذاك زئيف إلكين، كانا يعرفان ويفهمان جيداً عقلية الزعيم الروسي، وهما اللذان وجّها العملية. وُجهت الدعوة إلى بوتين، وأقيم النصب التذكاري، وجاء ليبرمان بنفسه إلى مطار بن غوريون لاستقبال بوتين، ومرّ الاحتفال بنجاح، وتحقق الهدف.
بعد مرور عامين على إقامة النصب، واجه الإنجاز الدبلوماسي اختبار ضم الروس لشبه جزيرة القرم. ليبرمان ونائبه إلكين ساهما في إقامة الخط الدبلوماسي الإسرائيلي، المبتكر والذكي، في النزاع بين روسيا وأوكرانيا. وأثبت هذا الخط الدبلوماسي نفسه: فقد قامت إسرائيل بكل ما تستطيع القيام به، ونقلت رسائل محسوبة جيداً، ونجت من المشكلات.
الآن، من المهم توضيح ماهية اللاعبين الذين تحاول إسرائيل المناورة بينهم من دون أن تصاب بأذى. القصة اليوم ليست بين روسيا وأوكرانيا، بل بين روسيا والولايات المتحدة. على الأقل بالنسبة إلى كل ما له علاقة بالمصلحة الإسرائيلية. فوائد الصداقة المرغوب فيها مع بوتين معروفة وواضحة. لم تمر زيارة واحدة لرئيس الحكومة الإسرائيلية إلى روسيا من دون التشديد على "أنه بفضل العلاقات المميزة جداً مع الصديق بوتين، تحظى إسرائيل بحُرية العمل فوق الأراضي السورية".
مقارنةً بالمكانة المركزية لروسيا في خارطة المصالح الإستراتيجية لدولة إسرائيل، ليست لأوكرانيا أهمية إستراتيجية عموماً، بالنسبة إلى إسرائيل. وعلى الرغم من قسوة كل هذا الكلام، فإن أوكرانيا بدأت تصبح مهمة، بالنسبة إلينا، بسبب المواطنين الإسرائيليين من أصول أوكرانية، وليس بسبب الرئيس زيلنسكي اليهودي، الذي يبدو مؤثراً جداً، لكن لا يمكن أن يكون عاملاً مهماً في لعبة جيوسياسية كبيرة. العامل المقرر هو حقيقة واحدة ووحيدة، وهي أن أوكرانيا مدعومة من الولايات المتحدة، وتشكل مصلحة أميركية في أوروبا الشرقية. نقطة على السطر.
هنا يبدأ التردد الإسرائيلي الحقيقي مع كل وضع جديد لجولة توتُّر بين موسكو وكييف: هل من الأفضل الآن إثارة غضب بوتين، أو الرئيس بايدن؟ مثلاً، عند التصويت في الأمم المتحدة على الإدانة الدولية لضم شبه جزيرة القرم، وبعد نقاشات وترددات، قررت إسرائيل التغيب عن التصويت. ونجح ذلك، الطرفان غضبا، لكن الحدث كان هامشياً وحافظت إسرائيل على علاقاتها الجيدة مع الطرفين.
بمرور الوقت، هدأت الأجواء بين روسيا وأوكرانيا قليلاً، وواصل ليبرمان وإلكين زياراتهما لبوتين أكثر من مرة. وبعد انتخاب فلاديمير زيلنسكي رئيساً لأوكرانيا، نجح إلكين، وهو من مواليد أوكرانيا، خلال وقت قصير، في بناء شبكة علاقات قريبة ومتطورة مع الرئيس الجديد والدائرة المقربة منه. وكان الرابح دولة إسرائيل حتى الجولة الحالية.
في الأيام الأخيرة، أجرى المدير العام لوزارة الخارجية، ألون أوشبيز، جولة محادثات ماراثونية شملت حديثاً معمقاً مع ميخائيل بوغدانوف، المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط. وسعى وزير السياحة، المقرب جداً من وزير الخارجية، يائير لبيد، إلى تنظيم لقاء مع السفير الروسي في إسرائيل، أناتولي فيكتوروف، في محاولة لفهم ما يجري من وجهة نظر موسكو، وما هي الخطط القادمة، من خلال حديث مباشر، ومن دون الحاجة إلى مترجمين. إلى جانب المشاورات الداخلية بين الوزارات، تحدث يائير لبيد في أيام التوتر الأخيرة مع نظيره وصديقه وزير المال. يقولون: إن تقدير أفيغدور ليبرمان كان طوال الوقت أنه "لن تحدث حرب ولا غزو، ومن المفيد لنا أن نهدأ".
طبعاً، هذا التقدير المتفائل يُعتبر في الأحاديث المغلقة موثوقاً به، لكن حيال الخارج تستمر الخارجية الإسرائيلية في الالتزام بالخط الأميركي، من خلال التركيز على سلامة الإسرائيليين الموجودين في أوكرانيا.