• اخر تحديث : 2024-07-01 12:23
news-details
تقدير موقف

يشهد المجتمع الدولي مؤخرًا حالة من القلق والترقب نتيجة تصاعد الصراع الأوكراني الروسي، مع وجود تهديدات روسية بشن غزو عسكري على كييف؛ كما ينظر إلى أن التصعيد الروسي على الحدود الأوكرانية يُعد جزءًا من استراتيجية روسية من شأنها تهديد مستقبل الأمن الأوروبي الجماعي. وقد بدا أن النهج الروسي أكثر خطورة في الوقت الحالي؛ فبعد التوغل في  جورجيا وضم شبه جزيرة القرم إلى الأراضي الروسية في 2014، تهدد روسيا الآن بغزو شامل للأراضي الأوكرانية، وفي هذا السياق، صعدت واشنطن هي الأخرى بتهديدات للجانب الروسي يقتضي بفرض المزيد من العقوبات على موسكو، وذلك لمنع تمدد النفوذ الإقليمي لموسكو، وردًا على التصعيد الروسي، أعلنت واشنطن أنها بصدد نشر آلاف من القوات العسكرية وذلك دعمًا لقوات حلف شمال الأطلسي في منطقة أوروبا الشرقية، لدعم القوات الأوكرانية في مواجهة تهديدات موسكو بالغزو العسكري لكييف.

هذا، ويهدف تقدير الموقف إلى عرض تداعيات الأزمة الأوكرانية – الروسية على مستقبل العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وكذلك رصد تطورات المشهد بعد التهديدات الروسية بغزو كييف، والتهديدات الأمريكية بنشر القوات على الحدود، وتحديد المخاطر وتداعيات المشهد، وذلك من خلال استعراض عدد من المحور التالية:

أولًا: بداية الأزمة الأوكرانية – الروسية

ثانيًا: تداعيات الأزمة الأوكرانية والتصعيد الروسي وسط غياب الموقف الأوروبي

ثالثُا: مستقبل أوروبا وحلف الناتو في ظل الأزمة الأوكرانية

رابعًا: تأثير الأزمة على مستقبل اتفاق نورد ستريم 2 بين ألمانيا – روسيا

خامسًا: تفاقم الأزمة الأوكرانية للأمن الغذائي العالمي

أولًا: بداية الأزمة الأوكرانية – الروسية:

منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 اتجهت انظار الدول نحو الغرب بما فيهم روسيا، املًا في تحقيق النجاح الذي فشلت في تحقيقه التجربة الاشتراكية. إلا أن النجاحات التي تحققت لروسيا، خاصًة بعد تولي الرئيس فلاديمير بوتين السلطة في روسيا عام 2000، بعد استقالة بوريس يلتسن المفاجئة، وبوصول بوتين إلى سدرة الحكم والذي أحيا الأمل لروسيا بالعودة إلى مكانتها السابقة كقطب دولي مهم، والرغبة في إيجاد تكتلات اقليمية ودولية، مع الحفاظ على تحالفاتها القديمة لمن يمكن أن تعدهم حلفاء مساندين بوجه اطماع التمدد الغربي الذى يهدد مناطق نفوذها في حين استمرت الرغبة في الانضمام الى الاتحاد الأوروبي لدى شركائها في الاتحاد السوفيتي السابق ومنهم اوكرانيا، حالة أدت إلى نشوء تقاطعات بين الطرفين الروسي – الاوكراني، وتفاقمت الأزمة على الرغم من وجود تاريخ حافل بالأحداث المشتركة بينهما الى جانب المصالح الاستراتيجية السياسية والاقتصادية، فقد مثلت مرحلة الاتحاد السوفيتي السابقة مجالًا لانصهار  ثقافي واجتماعي بالإضافة إلى السياسي والاقتصادي، فقد أصبحت أوكرانيا مركزًا للصراع بين الشرق والغرب.

وكانت البداية لأول أزمة دبلوماسية كبيرة بين موسكو وكييف في عهد فلاديمير بوتين في خريف عام 2003؛ إذ بدأت روسيا بشكل مفاجئ في بناء سد في مضيق "كريتش" باتجاه جزيرة "كوسا توسلا" الأوكرانية، والتي اعتبرتها كييف محاولة لإعادة ترسيم حدود جديدة بين البلدين، وهو ما زاد من حدة الصراع، فيما تم حل هذه الأزمة بعد اللقاء الثنائي الذي جمع الرئيسين الروسي والأوكراني.

وأثناء الانتخابات الأوكرانية التي عُقدت عام 2004، دعمت روسيا المرشح الرئاسي المقرب منها فيكتور يانوكوفيتش، إلا أن "الثورة البرتقالية" حالت دون فوزه، ونحج المرشح الرئاسي فيكتور يوشتشينكو في الوصول إلى سدرة الحكم في كييف، وهو المعروف بميوله نحو الغرب، وخلال فترته الرئاسية قطعت روسيا إمدادات الغاز عن البلاد مرتين، في عامي 2006 و2009. كما أوقفت إمدادات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي.

والجدير بالذكر أن الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش أيد في قمة الناتو عام 2008 في العاصمة الرومانية بوخارست، فكرة انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، إضافة إلى أن عددًا من أبرز الدول الأعضاء في الناتو مثل كندا وبولندا دعموا الحق الكامل لضم أوكرانيا وجورجيا للحلف، وفقًا لنهج الباب المفتوح الذي يتبعه حلف الناتو، إلا أن هذه الخطوة لاقت معارضة من الرئيس الروسي بوتين، الذي لم تقبل حكومته استقلال أوكرانيا بشكل كامل، فيما ذكرت بعض التقارير أن ألمانيا وفرنسا أحبطا خطة "بوش" خوفًا من أن يعطل دعم عضوية أوكرانيا العلاقات مع روسيا.

تم تصعيد الأزمة في فبراير 2013 عندما أوقف الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا في ذلك الوقت فيكتور يانوكوفيتش الاستعدادات لتنفيذ اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وتبع هذا الإيقاف تظاهرات واحتجاجات واسعة النطاق، وصدامات بين التنظيمات الانفصالية والقوات الحكومية الأوكرانية، في العاصمة الأوكرانية.

ومع اشتداد الاحتجاجات من معارضي قرار الرئيس، وتحولها إلى ثورة كبيرة أدت إلى عزل الرئيس في 22 فبراير 2014 من قبل البرلمان، وتم تعيين رئيس برلمان أوكرانيا ألكساندر تورتشينوف بدلاً منه، ونتيجة لذلك سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014 في واحدة من أكبر عمليات ضم الأراضي التي عاشتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وهي من المناطق التي كانت تتمتع بحكم ذاتي، وفرضت كنتيجة للوضع اتفاقات لوقف إطلاق النار، اعتبرتها أوكرانيا غير مناسبة لها، كما نشبت حرب في أوبلاست دونيتسك ولوهانسك أوبلاست بين الانفصاليين الموالين لروسيا والحكومة الأوكرانية.

بعد ذلك انبثقت اتفاقية سميت بروتوكول مينسك نسبة إلى المدينة التي جرى فيها التفاوض عليها وهى الذي تهدف إلى وقف الصراع في أوكرانيا وتتضمن إضفاء الشرعية الأوكرانية على الأراضي التي مزقتها الحرب في إطار النظام السياسي لأوكرانيا، وذلك بعد وقف إطلاق النار بين الطرفين، وسحب الأسلحة الثقيلة، وإصدار عفو متبادل، وعودة المراقبة الحدودية إلى سلطات أوكرانيا، وهذا يعني من وجهة نظر أوكرانيا فقدان التوازن داخل أوكرانيا، لأن الأراضي التي تسيطر عليها روسيا ستفرض تأثيرا قويا ومانعا على السياسة الداخلية للبلاد، ولذلك تسعى أوكرانيا إلى تعديله

ثانيًا: تداعيات الأزمة الأوكرانية والتصعيد الروسي وسط غياب الموقف الأوروبي

ولعل غياب الموقف الأوروبي الموحد مع تراجع الدور الغربي في التعامل مع أزمة التصعيد الروسي إزاء أوكرانيا، والذي ينبع بشكل أساسي من الاختلال المتزايد في موازين القوى عبر الأطلسي، والذي نتج عن مساعي واشنطن لتعزيز هيمنتها وقوتها العالمية بمعزل عن حلفائها، مما أدى إلى حدوث فجوة كبيرة في ميزان القوى لصالح الولايات المتحدة الأمريكية مقارنةً بحلفائها الأوروبيين. كما أن تراجع الانخراط الأمريكي في القضايا العالمية في الآونة الأخيرة لصالح التركيز على مواجهة الصعود الصيني، فضلًا عن تصاعد الأزمات السياسية والاستقطاب الداخلي في واشنطن يُمثِّل عاملًا آخر أدى إلى تقويض فرص تشكيل تحالف غربي قوي.

وعلى صعيد التحول في ميزان القوى لصالح واشنطن، فإن هذا التحول برز بشكل واضح منذ عام 2008 في عناصر القوة الشاملة؛ حيث تجاوز الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بشكل كبير الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة؛ إذ أنه في عام 2020، نما الاقتصاد الأمريكي إلى نحو 20,9 تريليون دولار، بينما تراجع الاقتصاد الأوروبي إلى نحو 15,7 تريليون دولار، في الوقت الذي تستغل واشنطن هيمنتها العالمية لاكتساب قدرة واسعة لفرض عقوبات مالية على أعدائها وحلفائها على حد سواء، وذلك في ظل وجود إذعان أوروبي واضح. كما أن تنامي هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية في المجال التكنولوجي مقارنة بالدور الأوروبية؛ حيث اقتربت شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى (غوغل-أمازون-آبل- ميتا- مايكروسوفت) من السيطرة على الساحة التكنولوجية في أوروبا، وذلك بالتزامن مع غياب القدرة الأوروبية على تطوير بدائل محلية.

وعلى صعيد القوة العسكرية، تراجع الإنفاق العسكري الأوروبي مقارنةً بالإنفاق العسكري الأمريكي، ففي الفترة من 2008 إلى2020، زاد الإنفاق العسكري للولايات المتحدة من 656 مليار دولار إلى 778 مليار دولار، وذلك بالتزامن مع انخفاض الإنفاق العسكري لدول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة من  303 مليار دولار إلى 292 مليار دولار، في الوقت الذي تشهد فيه أوروبًا مزيدًا من الانقسامات المزمنة، والتي أدت إلى إضعاف الاتحاد الأوروبي خاصةً مع خروج بريطانيا من الاتحاد، الأمر الذي أدى إلى تقويض قدرته على بلورة سياسة خارجية مشتركة، وتسخير قوته الاقتصادية الكامنة، لا سيَّما مع تصاعد الانقسامات المتعلقة بالأزمة المالية بين دول الشمال والجنوب، وأزمة الهجرة، وكذا الأزمة الأوكرانية بين دول شرق وغرب وأوروبا.

وقد يعد غياب الدور الأوروبي القوي في الأزمة الروسية الأوكرانية، يُعد انعكاسًا لتزايد اعتماد الدول الأوروبية على الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى، لا سيَّما مع تصاعد المنافسة الجيوسياسية في العالم، مع وجود عقبات أخرى قد تحول دون الوصول إلى تحالف غربي قوى إزاء الأزمة الروسية الأوكرانية، وعلى رأسها تراجع انخراط واشنطن في الأزمات الدولية، وذلك لصالح التركيز على مواجهة تنامي النفوذ الصيني، فضلًا عن تزايد الاستقطاب الداخلي في واشنطن، والذي أدى إلى خلق تقلبات في السياسة الخارجية الأمريكية، وبروز توجهات مناهضة لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، والتي تنادي بضرورة أن تتبنى السياسة الخارجية لواشنطن شعار “أمريكا أولًا”، ومع تزايد اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة، مما قد يفضي إلى غزو روسي محتمل واسع النطاق على أوكرانيا، في ظل عدم قدرة الدول الأوروبية على لعب دور فعَّال وحاسم في الأزمة الأوكرانية خلال الفترة المقبلة، مؤكدًا أن أي حل أو تصعيد للأزمة سيأتي كنتيجة للمباحثات بين واشنطن وموسكو.

ثالثًا: مستقبل أوروبا وحلف الناتو في ظل الأزمة الأوكرانية

وفيما يتعلق بتداعيات التصعيد الروسي للأزمة على مستقبل حلف الناتو، فإن الغزو الروسي لكييف ربما يقود إلى تقويض النظام العالمي الحالي؛ إذ تنظر روسيا إلى الظروف الراهنة باعتبارها مهيأة لتعزيز سيطرتها واستعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي؛ إذ يرى بوتين أن الولايات المتحدة الآن في ظل إدارة جو بايدن في حالة ضعف وانقسام، وتفتقر لسياسة خارجية متماسكة، كما لا تزال الحكومة الألمانية الجديدة بقيادة أولاف شولتز تبلور ملامح سياستها، علاوة على تركيز أوروبا على تحدياتها الداخلية. كما يحاول بوتين الحصول على دعم الصين من خلال تكوين شراكات معها. كل هذا يجعل الفرصة سانحة أمام موسكو لاستعادة نفوذها.

كما أن عقيدة بوتين تتمحور حول جعل روسيا -على غرار الاتحاد السوفييتي- قوة يحترمها الغرب، مشيرًا إلى أن الرئيس بوتين يرغب في تقسيم حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وكذا إعادة التفاوض بشأن التسوية الجغرافية التي أنهت الحرب الباردة. ورغم أنه لا يزال من غير المؤكد ما إذا كان بوتين سيُقرِّر الغزو أم لا، فإنه لا شك أن موسكو ستكون أكثر خطورة في السنوات القادمة؛ ذلك لأن تزايد قدرات موسكو على تهديد جيرانها يعمل على إجبار الغرب على الجلوس على طاولة المفاوضات.

في الوقت الذي ينظر فيه الرئيس بوتين إلى انهيار الاتحاد السوفيتي بمثابة أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين، وكان دائمًا ما يتحدث عن المظالم الروسية، خصوصًا انفصال أوكرانيا، كما أنه يتخوف من انتشار قوات حلف شمال الأطلسي بالقرب من حدود بلاده؛ نظرًا لأن الأخيرة قد تعرَّضت للغزو المتكرر من قِبل الغرب. وعلى هذا يعتمد بوتين على وسائل الإعلام في تصدير المظالم الروسية، وفي تسليط الضوء على أن أوكرانيا أضحت خطرًا على الأمن الروسي؛ فهي -وفقًا لادعاءاته- بمثابة نقطة انطلاق الغرب ضد روسيا، لا سيما بعد أن أضحت روسيا اليوم قوة نووية لا يُستهان بها؛ وبالتالي تقل احتمالية غزو غربي لأراضيها، وبخلاف رواية بوتين عن المظالم الروسية التي تعرَّضت لها بلاده من قِبل الغرب، هناك رواية أخرى معارضة تؤكِّد أن الدول المجاورة هي التي تتعرَّض دومًا للغزو الروسي.

ولعل أكبر مكسب يمكن أن تحصل عليه روسيا من التصعيد ضد أوكرانيا يتمثَّل في تقويض التحالف عبر الأطلسي؛ لذلك عمدت لدعم الجماعات المناهضة للولايات المتحدة في أوروبا، وكذا المتشككين في التحالف مع الدول الأوروبية في الولايات المتحدة، ودعم الحركات الشعبوية من اليسار واليمين على جانبي المحيط الأطلسي، وفاقمت حدة الانقسامات داخل المجتمعات الغربية. ورغبة “بوتين” في دفع الولايات المتحدة للانسحاب من أوروبا، كما أن تمزيق التحالف عبر الأطلسي من شأنه تحقيق هدفه الرئيس ألا وهو التخلص من النظام الدولي الليبرالي القائم لصالح نظام يشبه ما كان قائمًا في القرن التاسع عشر، حيث ينقسم العالم إلى مناطق نفوذ ثلاثية، بقيادة روسيا والصين والولايات المتحدة، ويحترم كل منها مناطق نفوذ بعضها البعض.

رابعًا: تأثير الأزمة على مستقبل نورد ستريم 2 بين المانيا وروسيا

يعتبر "نورد ستريم 2" خط للأنابيب يبلغ طوله 745 ميلا (حوالي 1200 كيلومتر)، يمتد بين أوست لوغا بالقرب من حدود روسيا الغربية مع إستونيا وبين غرايفسفالد في شمال شرقي ألمانيا، ويهدف لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا من دون المرور بالأراضي الأوكرانية والبولاندية وذلك عبر بحر البلطيق [18]، وتم الانتهاء من بناء المشروع في سبتمبر 2021 بتكلفة 8.3 مليار جنيه إسترليني، لكنه لم يحصل بعد على الموافقة التنظيمية الأوروبية اللازمة للسماح للجهة المشغلة للمشروع.

ولعل الأمر الأكثر أهمية في ضوء الأزمة الدبلوماسية الحالية، أن خطي الأنابيب التوأمين “نورد ستريم” يسمحان لروسيا بإرسال الغاز إلى الغرب بوسائل أخرى غير تلك المباشرة عبر أراضي جارتها، وهي وسائل اعتمدت عليها روسيا من قبل وتلقت كييف في مقابلها رسوم عبور.

وفى هذا السياق أشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى أن خط الغاز "نورد ستريم 2" الروسي الألماني "سلاح جيوسياسي خطير" بيد موسكو وأوضح زيلينسكي في مؤتمر صحفي مع أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية السابقة أنه "ينظر إلى هذا المشروع من منظور أمني بحت ويرى أنه سلاح جيوسياسي خطير بيد الكرملين"، مؤكدا أن "لا أحد يستطيع إنكار أن أبرز مخاطر استكمال مشروع "نورد ستريم 2" ستثقل كاهل أوكرانيا".

ويعد خط "نورد ستريم 2" مهما لكل من بوتين، كطريق لبيع المزيد من الغاز إلى أوروبا، ولألمانيا التي تعتمد على إمدادات الغاز من روسيا. كان مشروع خط الأنابيب طويل الأمد هذا مصدر توتر دوري بين الولايات المتحدة وألمانيا، نظراً لعدم رغبة إدارة المستشارة أنجيلا ميركل في استخدامه كأداة سياسية مع بوتين.

ومن المرجح أن تستخدم موسكو خط "نورد ستريم 2" كورقة ضغط من أجل تهديد الاقتصاد الأوروبي، وتقسيم حلف شمال الأطلسي "الناتو"، حيث سيمنح المشروع روسيا ميْزة استراتيجية مهمة، كونه سيصل إلى ألمانيا دون الحاجة إلى المرور عبر بولندا أو أوكرانيا، وهما الدولتين اللتين تربطهما علاقات متوترة مع الجانب الروسي، كما أن الدول الغربية تتخوف من خطورة هذا المشروع كونه سيجعل ألمانيا والاتحاد الأوروبي أكثر اعتمادًا على الطاقة الروسية، مما يُضعف حلف الناتو، ويُقوِّض قدرته على ردع روسيا، لا سيما في ظل تهديداتها المستمرة بالتصعيد ضد أوكرانيا.

حالة الزخم التي يشهدها الكونغرس الأمريكي فيما يتعلق بجدوى فرض العقوبات على مشروع خط الأنابيب الروسي الألماني؛ إذ قدَّم السيناتور الجمهوري تيد كروز مشروع قانون في مجلس الشيوخ يدعو إلى فرض عقوبات على الكيانات المسؤولة عن تخطيط أو إنشاء أو تشغيل خط أنابيب "نورد ستريم 2"، إلا أن هذا المشروع لم يتم تمريره لأنه افتقر إلى دعم الديمقراطيين، الذين يرون أن فرض عقوبات على المشروع لن يؤدي إلى ردع روسيا عن غزو أوكرانيا، لكنه سيؤدي فقط إلى تعزيز الانقسامات بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، وتحديدًا ألمانيا.

وعارض البعض مشروع قانون "كروز"؛ لأن حاجة ألمانيا إلى الغاز الروسي قد تدفعها للتخلي عن حلف الناتو خوفًا على مصالحها الاقتصادية، وبالتالي، فإنه من الأفضل الوصول إلى تفاهمات مع ألمانيا، لا سيما أن برلين أخطرت الروس أنه لن يتم بدء التشغيل الخط حال غزو أوكرانيا، كما أنها وافقت في يوليو 2021 على اتخاذ إجراءات للحد من قدرات التصدير الروسية إلى أوروبا في قطاع الطاقة؛ وذلك لضمان عدم استخدام روسيا خط الأنابيب كورقة للضغط على أوروبا.

حيث لا يمكن أن يكون "نورد ستريم 2" عاملًا لتحقيق السلام، ذلك لأن الاعتبارات الاقتصادية لا بد أن تتسق مع اعتبارات الأمن القومي، كما أنه لا يمكن أن يبدأ خط الأنابيب المكتمل حديثاً العمل تحت بحر البلطيق دون موافقة الجهة التنظيمية الألمانية ومراجعة السلطات الأوروبية.

خامسًا: تفاقم الأزمة الأوكرانية للأمن الغذائي العالمي

ولعل تداعيات تفاقم الأزمة الروسية الأوكرانية قد تهدد الأمن الغذائي لعدد من دول العالم التي تعتمد على أوكرانيا في صادراتها الغذائية، لا سيما وأنها تُعد سلة غذاء أوروبا على مدار عدة قرون، فضلًا عن امتلاكها الحبوب والزيوت النباتية ومجموعة من المنتجات الزراعية الأخرى التي تُعد ضرورية لإمدادات الغذاء لإفريقيا وآسيا؛ حيث أن المشكلة الحالية تكمن في أن جزءًا كبيرًا من الأراضي الزراعية الأكثر إنتاجية في أوكرانيا يقع في مناطقها الشرقية، وهي المناطق الأكثر عرضة لهجوم روسي محتمل. ومن ثمّ تتنامى المخاوف بشأن مستقبل الأمن الغذائي في العديد من البلدان حول العالم.

وتجدر الإشارة إلى أهمية صادرات أوكرانيا من القمح؛ والتي بلغت 18 مليون طن من إجمالي إنتاج 24 مليون طن في عام 2020، وهو ما جعلها خامس أكبر مُصدِّر للقمح في العالم، ويُعد القمح الأوكراني ذو أهمية كبيرة بالنسبة لدول العالم النامي، فعلى سبيل المثال، كانت نصف واردات لبنان من القمح في عام 2020 من القمح الأوكراني. كما تستورد اليمن نحو 22% من واردتها منه، وتستورد ليبيا نحو 43% من واردتها من القمح الأوكراني أيضًا، فضلًا عن اعتماد ماليزيا وإندونيسيا وبنجلاديش على كييف لتلبية احتياجاتهم من القمح.

كما أن الغزو الروسي المحتمل للأراضي الأوكرانية ودعم الحركات الانفصالية، قد يؤدي إلى انخفاض إنتاجية كييف من القمح، وبالتالي، سيؤدي ذلك إلى تراجع الصادرات الغذائية وزيادة أسعار السلع الغذائية في العالم، الأمر الذي قد يسهم في انعدام الأمن الغذائي في العديد من البلدان النامية التي تعتمد على أوكرانيا.

ومن المرجح أن يقود الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا إلى حدوث أزمة غذائية عالمية، الأمر الذي يفرض على حكومات الدول وضع بدائل مناسبة لتجنب انعدام الأمن الغذائي، كما يتعين على الدول غير المتضررة وضع خطة لتقديم الدعم الغذائي للدول المعتمدة غذائيًا على كييف، مع تبنِّي الدول المتضررة لسياسات جديدة تستهدف تحسين الإنتاجية الزراعية وتحقيق الاكتفاء الذاتي.

وختامًا، من المرجح أن يشهد التصاعد العسكري الروسي ضد أوكرانيا حالة من القلق على دول شرق أوروبا، ويتوجَّب على الولايات المتحدة الاستمرار في اتباع النهج الدبلوماسي مع روسيا، والسعي للتوصل إلى حل "مؤقت" يحظى بتوافق الجانبيْن دون المساس بسيادة أي من الحلفاء، علاوة على ضرورة الاستمرار في التنسيق مع القوى الأوروبية للرد على الجانب الروسي؛ ذلك لأن التهديدات الروسية تهدِّد الأمن الأوروبي.

كما أن غزو روسيا المحتمل لأوكرانيا سيؤدي إلى حدوث أزمة غذائية عالمية، الأمر الذي يفرض على حكومات الدول وضع بدائل مناسبة لتجنب انعدام الأمن الغذائي، كما يتعين على الدول غير المتضررة وضع خطة لتقديم الدعم الغذائي للدول المعتمدة غذائيًا على كييف، مع تبنِّي الدول المتضررة لسياسات جديدة تستهدف تحسين الإنتاجية الزراعية وتحقيق الاكتفاء الذاتي. وقد يحدث حالة من الخلل المتزايد في ميزان القوى عبر الأطلسي سيكون في غير صالح الولايات المتحدة على المدى الطويل، لا سيَّما مع تصاعد حدة المنافسة الجيوسياسية مع كلٍ من روسيا والصين، لذا فإن واشنطن في حاجة إلى شركاء وحلفاء أوروبيين أكثر قوة.