مع دخول الحرب الروسية على أوكرانيا واستفحال الصراع الدائر في ظل تصاعد وتيرة القتال، جمعت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية 4 من كبار كُتابها في حلقة نقاش للتداول حول ما الذي قد يحدث بعد ذلك.
والكُتاب الأربعة هم: توماس فريدمان، ولولو غارسيا نافارو، وروس دوثات ويارا بيومي. وجاءت حلقة النقاش بُعيد إلقاء الرئيس الأميركي جو بايدن أمس الاول الأربعاء خطاب "حالة الاتحاد" السنوي الذي تعهد فيه بأن روسيا ستواجه المزيد من الألم بسبب أفعالها.
فهل وصل الغرب أقصى حدود إمكاناته بشأن ما يمكن فعله إزاء الإجراءات الاقتصادية؟ هذا هو السؤال الذي ابتدرت به الصحيفة حلقة النقاش بين كُتابها الأربعة.
ضمان تسليح الأوكرانيين
وفي معرض إجابته عن السؤال، أعرب توماس فريدمان عن اعتقاده بأن أهم شيء يمكن للغرب أن يفعله هو التأكد من أن الأوكرانيين الذين يقتلون دفاعا عن وطنهم لديهم كل الأسلحة اللازمة للقيام بذلك. ويعتقد أن محرك هذا الصراع هو ما يحدث بين الأوكرانيين المدافعين عن وطنهم وجيش الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يحاول السيطرة على الأرض.
ويبدو لي -يضيف فريدمان- أن بوتين اعتقد أن غزو أوكرانيا سيكون مجرد نزهة، وأنه صدّق أوهامه، وظن أن هناك حفنة من النازيين تدير شؤون أوكرانيا، وأنه بمجرد دخوله فإن الشعب الأوكراني سيستقبله بالورود وسيطالبه بطرد أولئك الحاكمين.
لكن ذلك لم يحدث، وبدا جليا أن بوتين لا يملك خطة بديلة، "كما أنه لن يمكنه ببساطة أن يفعل ما كان يطمح له ألا وهو تنصيب دمية ثم يعود أدراجه".
وإذا نجح الرئيس الروسي في تنصيب دمية فإنه سيضطر لإبقاء قواته في أوكرانيا إلى الأبد، كما يعتقد الكاتب الأميركي الذي يرى أن أمام بوتين 4 خيارات فقط "فإما أن يخسر مبكرا، أو يخسر متأخرا، أو يخسر كثيرا أو يخسر قليلا".
ما الذي يردعه؟
وتلتقط الكاتبة لولو غارسيا نافارو الخيط لتسأل: "ما الذي قد يردع بوتين، هل إحباط المقاومة الأوكرانية لتقدم قواته، أو العقوبات الغربية؟ فليس ثمة خيار آخر".
وبدوره، يرى الكاتب روس دوثات أن منطق الردع لم يعد قابلا للتنفيذ حقا في هذه الحالة، مضيفا أن الغرب وبقية العالم اتخذا معا خطوات ربما تؤدي إلى انهيار الاقتصاد الروسي على نحو يمكن مقارنته على الأقل بما مرت به روسيا في تسعينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي صعد خلالها بوتين إلى سدة الحكم وأذنت بنهاية الحلم الليبرالي لبلاده.
وتؤمن لولو نافارو أن العقوبات أضرت بروسيا بالفعل، فقد أصبحت معزولة اقتصاديا بعد أن أغلق المجال الجوي الأوروبي أمام الطيران التجاري الروسي، وستطبق الولايات المتحدة الشيء نفسه ابتداء من اليوم.
الشعب أكثر تضررا
وتوافقها الرأي يارا بيومي إذ تقول إن ما نراه اليوم حتى الآن هو "إفراط في رد الفعل" من جانب الغرب في ما يتعلق بالتضييق التام على الاقتصاد الروسي اعتقادا منه أن ذلك يقيد قدرة بوتين على تمويل الحرب، "إلا أن الحقيقة أن الأمر سينتهي بأن الشعب سيكون الأكثر تضررا".
وتتابع بيومي قائلة إن أفراد الشعب الروسي لن يكون بمقدورهم الآن سحب أموالهم من البنوك، كما أن المجال الجوي للطيران التجاري مغلق ومن ثم ليس أمامهم أي مهرب. أما رواتبهم فقد انخفضت بشكل مفاجئ ومثير مع تراجع قيمة العملة المحلية (الروبل).
وتحدثت بيومي عن الاحتجاجات التي شهدها العديد من المدن في روسيا، رغم أن بوتين أوجد بيئة لا تطيق أي نوع من المعارضة.
نحن في خضم الحرب العالمية الثالثة
بيد أن ما يهدد كل ذلك هو أن روسيا قوة نووية، بحسب نافارو التي تزعم أننا بالفعل في خضم الحرب العالمية الثالثة "إلا أننا لم ندرك ذلك بعد".
ويعرج فريدمان إلى الحديث عن شخصية الرئيس الروسي، بأن هناك ما هو أخطر من بوتين القوي ألا وهو أن يصبح بوتين ضعيفا وعلى وشك الهزيمة أو الانهيار. ويقول الكاتب الأميركي إنه ما يزال يأمل، بل ويشك في أن بوتين سيبدأ في استخدام الأسلحة النووية.
ويستطرد فريدمان بأنه لم يتضح بعد ما الذي يعتزم الزعيم الروسي فعله، مشيرا إلى أن ذلك ما يثير القلق الشديد في نفسه. ومع ذلك فإن الكاتب يوضح بأنه قد لا يتفق تماما مع الرأي القائل إننا في خضم الحرب العالمية الثالثة.
مصطلح غير مناسب
ومن جانبه، يشدد روس دوثات على أن الحرب العالمية الثالثة ليس هو المصطلح المناسب، ما لم نعتقد أن الحرب الباردة برمتها كانت بالفعل حربا عالمية. ونبه إلى أن كثيرا مما انطوت عليه الحرب الباردة من أحداث كانت حروبا بالوكالة، وصراعات عسكرية، ودولة روسية تفرض إرادتها -أحيانا بوحشية- على دول مجاورة لها.
ولفت دوثات إلى أن تلك الأحداث أديرت بدرجة عالية من توخي الحذر والحرص تفاديا، على وجه التحديد، لسيناريو حرب عالمية ثالثة. وفي رده على سؤال نافارو حول ما الفصول التالية المحتملة، أجاب الكاتب نفسه بالقول إذا غزا بوتين دول البلطيق، فإن التحالف العسكري معها يتطلب من الغرب أن يهرع للدفاع عنها، مؤكدا أن بوتين يعي ذلك.
وتعقيبا على ذلك، تقول يارا بيومي إن ثمة موانع كثيرة هي التي حالت دون تحول الحرب الباردة إلى حرب عالمية، مضيفة "أننا لا نملك حاليا من الموانع ما يدرأ ذلك، سواء كان ذلك في شكل اتفاقيات للحد من التسلح، أو من قبيل ذلك الوعي الثقافي لدى كثير من الناس الذين ترعرعوا إبان الحرب الباردة".
تسوية قذرة أو إبعاد بوتين
وتطرق النقاش للتصورات (السيناريوهات) التي سبق أن تناولها توماس فريدمان في مقاله بصحيفة نيويورك تايمز، حيث أكد أن ثمة تصورين هما الأكثر احتمالا للحدوث. فالأول منهما يتعلق بنوع مما يسميه بتسوية قذرة أو تسوية غير سارة متمثلة في أن يوافق الأوكرانيون في الأساس -عبر المفاوضات الجارية مع الروس- على أن تحصل روسيا على المناطق الشرقية التي هي بالفعل تحت سيطرة موسكو حاليا، وأن تعلن كييف بشكل قاطع أنها لن تنضم إلى حلف الناتو. وبالمقابل، تغادر القوات الروسية أوكرانيا وترفع الدول الغربية عقوباتها.
أما السيناريو الثاني -والذي يراه فريدمان الأفضل رغم كونه الأقل احتمالا- فهو أن يهب الشعب الروسي بشجاعة دفاعا عن حريته كما فعل الشعب الأوكراني، ويخلص المنطقة من الحرب من خلال عزل بوتين من منصبه.
ويقول في ذلك "سنشهد تدخلا، ليس في أوكرانيا، ولكن في الكرملين مع سيادة الرئيس. وأعتقد أن ذلك سيكون صعبا للغاية ذلك لأن بوتين أحاط نفسه بمستويات متعددة من الأمن".
دروس مهمة من هذه الحرب
ويعود دوثات -من ناحيته- فيقول إن ما يثير قلقه أن الجميع يبالغ في الالتزام بما يتجاوز قدرته على الإنجاز، فالرئيس الروسي انتقل من التصريح بأنه لا يريد توسعا للناتو بالقرب من حدود بلاده، إلى القول إن "أوكرانيا ليست دولة بمعنى الكلمة، ويجب إعادة توحيدها مع روسيا البلد الأوسع والأكبر التي تنتمي إليها أساسا".
وعلى بوتين -والرأي لدوثات- العودة إلى تصريحه الأول، واصفا إياه بأنه الأكثر اعتدالا، وأن يتراجع عن الثاني.
ومن وجهة نظر دوثات أن الصراع الدائر حاليا أفاد الولايات المتحدة في مسألتين رئيسيتين قد تفضيان إلى الاستقرار العالمي على المدى الطويل. فقد أثبت الصراع لحلفاء أميركا الأوروبيين أن عليهم أخذ المشاكل القديمة على محمل الجد كتلك التي تتطلب تحشيدا عسكريا كبيرا، وحاجتهم لبعض التحرر من الاعتماد على روسيا "المتسلطة" في تدبير احتياجاتهم من الطاقة.
وعلى المنوال نفسه، يتوجب على الصين أن تنظر في مدى معاناة بوتين لإخضاع أوكرانيا، وإدراك أنها قد تواجه تحديات مماثلة في حال أقدمت على غزو تايوان.