الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا عمل عدواني سيجعل التوترات المقلقة بالفعل بين الناتو وموسكو أكثر خطورة. أصبحت الحرب الباردة الجديدة بين الغرب وروسيا ساخنة. يتحمل فلاديمير بوتين المسؤولية الأساسية عن هذا التطور الأخير، لكن سياسة الناتو المتغطرسة والصم تجاه روسيا خلال ربع القرن الماضي تستحق حصة كبيرة أيضًا. فقد حذر المحللون الملتزمون السياسة الخارجية أميركية القائمة على الواقعية وضبط النفس لأكثر من ربع قرن من أن الاستمرار في توسيع أقوى تحالف عسكري في التاريخ نحو قوة كبرى أخرى لن ينتهي بشكل جيد، وتقدم الحرب في أوكرانيا تأكيد قاطع على ذلك.
التفكير في أزمة أوكرانيا - الأسباب
سيكون من الصعب للغاية توسيع الناتو شرقًا من دون أن تنظر روسيا إلى هذا الإجراء على أنه عمل غير ودي. حتى أكثر المخططات تواضعًا كانت ستأتي بالحلف إلى حدود الاتحاد السوفيتي القديم. "بعض الإصدارات الأكثر طموحًا سيجعل الحلف يحيط فعليًا بالاتحاد الروسي نفسه ". كتبت هذه الكلمات في العام 1994 في كتابي "ما وراء الناتو: البقاء خارج حروب أوروبا"، في وقت كانت فيه مقترحات التوسع تشكل مجرد تكهنات عرضية في ندوات السياسة الخارجية في نيويورك وواشنطن. أضفت أن التوسع "سيشكل استفزازًا لا داعي له لروسيا".
ما لم يكن معروفًا آنذاك هو أن إدارة بيل كلينتون قد اتخذت بالفعل القرار المصيري في العام السابق للضغط من أجل ضم بعض دول حلف وارسو السابقة إلى الناتو. ستقترح الإدارة قريبًا دعوة بولندا وجمهورية التشيك والمجر للانضمام إلى عضوية الحلف، ووافق مجلس الشيوخ الأميركي على إضافة تلك الدول إلى معاهدة شمال الأطلسي في العام 1998. سيكون ذلك أول موجة من موجات عديدة لتوسيع العضوية. لطالما كان من الواضح أن توسع الناتو سيؤدي إلى مأساة. نحن الآن ندفع ثمن غطرسة الولايات المتحدة.
حتى المرحلة الأولى أثارت معارضة روسيا وغضبها. لقد أقرت وزيرة خارجية كلينتون مادلين أولبرايت في مذكراتها أن "الرئيس الروسي بوريس يلتسين وأبناء بلده يعارضون بشدة التوسيع، ورأوا فيه استراتيجية لاستغلال ضعفهم وتحريك خط تقسيم أوروبا إلى الشرق ، وتركهم معزولين".
ووصف نائب وزيرة الخارجية ستروب تالبوت الموقف الروسي بالمثل. يرى العديد من الروس أن الناتو هو بقايا الحرب الباردة الموجهة ضد بلادهم. إنهم يشيرون إلى أنهم حلوا حلف وارسو ـ حلفهم العسكري ـ ويسألون لماذا لا ينبغي للغرب أن يفعل الشيء نفسه ". لقد كان سؤالاً ممتازًا، ولم تقدم إدارة كلينتون ولا خلفاؤها إجابة مقنعة حتى ولو عن بُعد.
لقد حذر الأب الفكري لسياسة الاحتواء الأميركية خلال الحرب الباردة جورج كينان في مقابلة أجرتها معه صحيفة نيويورك تايمز في أيار\مايو 1998 من تصديق مجلس الشيوخ على الجولة الأولى من توسع الناتو. صرح كينان: "أعتقد أنها بداية حرب باردة جديدة". أعتقد أن الروس سوف يتصرفون تدريجياً بشكل عكسي، وسيؤثر ذلك على سياساتهم. أعتقد أنه خطأ مأساوي. لم يكن هناك سبب لهذا على الإطلاق. لم يكن أحد يهدد أي شخص آخر".
لقد كان محقًا، لكن زعماء الولايات المتحدة وحلف الناتو شرعوا في جولات جديدة من التوسع، بما في ذلك الخطوة الاستفزازية المتمثلة في إضافة جمهوريات البلطيق الثلاث. لم تكن تلك الدول جزءًا من الاتحاد السوفيتي فحسب، بل كانت أيضًا جزءًا من الإمبراطورية الروسية خلال الحقبة القيصرية. فتلك الموجة من التوسع جعلت الناتو يجثم على حدود الاتحاد الروسي.
إن صبر موسكو على سلوك الناتو الأكثر تدخلاً بدأ ينفد. جاء تحذير ودي إلى حد معقول من روسيا عندما ألقى بوتين كلمة في مؤتمر ميونيخ الأمني السنوي في آذار\مارس 2007 بأن على الحلف التراجع. واشتكى بوتين من أن "الناتو وضع قواته في الخطوط الأمامية على حدودنا". يمثل توسع الناتو "استفزازًا خطيرًا يقلل من مستوى الثقة المتبادلة. ويحق لنا أن نسأل: هذا التوسع ضد من؟ وماذا حدث للتأكيدات التي قدمها شركاؤنا الغربيون بعد حل حلف وارسو؟".
صرح روبرت إم جيتس الذي شغل منصب وزير الدفاع في إدارتي جورج دبليو بوش وباراك أوباما في مذكراته عن اعتقاده بأن "العلاقة مع روسيا قد أديرت بشكل سيء بعد أن ترك جورج بوش الابن منصبه في 1993 ". من بين العثرات الأخرى، "كانت الاتفاقات الأميركية مع الحكومتين الرومانية والبلغارية لتناوب القوات عبر القواعد في تلك البلدان استفزازًا لا داعي له". أكد جيتس في توبيخ ضمني لبوش الابن أن "محاولة جلب جورجيا وأوكرانيا إلى الناتو مبالغ فيها حقًا". وزعم أن هذه الخطوة "تجاهل متهور لما يعتبره الروس مصالحهم الوطنية الحيوية".
في العام التالي، أظهر الكرملين أن استياءه من توغل الناتو المستمر في المنطقة الأمنية الروسية تجاوز الاعتراض الكلامي. لقد استغلت موسكو استفزازاً أحمقًا من قبل حكومة جورجيا الموالية للغرب لشن هجوم عسكري جلب القوات الروسية إلى ضواحي العاصمة. بعد ذلك، فصلت روسيا بشكل دائم منطقتين جورجيتين ذات عقلية انفصالية ووضعتهما تحت السيطرة الروسية الفعالة.
استمر القادة الغربيون ـ خاصة الولايات المتحدة ـ في إطفاء ضوء التحذير الأحمر واحدًا تلو الآخر. كان تدخل إدارة أوباما المتغطرس بشكل صادم في شؤون أوكرانيا السياسية الداخلية عامي 2013 و2014 لمساعدة المتظاهرين على الإطاحة برئيس أوكرانيا المنتخب الموالي لروسيا هو الاستفزاز الأكثر وقاحة، وتسبب في تصاعد التوترات. ردت موسكو على الفور بالاستيلاء على شبه جزيرة القرم وضمها، وبدأت حرب باردة جديدة بهدف الانتقام.
هل كان بالإمكان تفادي أزمة أوكرانيا؟
شكلت الأحداث التي وقعت خلال الأشهر القليلة الماضية الفرصة الأخيرة لتجنب حرب ساخنة في أوروبا الشرقية. وطالب بوتين الناتو بتقديم ضمانات بشأن قضايا أمنية عديدة. أراد الكرملين على وجه التحديد تأكيدات ملزمة بأن التحالف سيقلص نطاق وجوده العسكري المتنامي في أوروبا الشرقية، ولن يقدم أبدًا العضوية لأوكرانيا. لقد دعم تلك المطالب بحشد عسكري هائل على حدود أوكرانيا.
كان رد إدارة بايدن على سعي روسيا للحصول على تنازلات غربية وضمانات أمنية فاترة ومراوغة. ومن الواضح بعد ذلك أن بوتين قرر تصعيد الأمور. ان محاولة واشنطن جعل أوكرانيا بيدقًا سياسيًا وعسكريًا للناتو ـ حتى في غياب العضوية الرسمية للبلاد في الحلف ـ قد تنتهي بكلفة باهظة للشعب الأوكراني.
مأساة أوكرانيا
سيظهر التاريخ أن معاملة واشنطن لروسيا في العقود التي أعقبت زوال الاتحاد السوفيتي كانت خطأً فادحًا في السياسة ذات أبعاد أسطورية. كان من المتوقع تمامًا أن يؤدي توسع الناتو في النهاية إلى انتهاك مأساوي، وربما عنيف للعلاقات مع موسكو. حذر محللون مدركون من العواقب المحتملة، لكن هذه التحذيرات ذهبت أدراج الرياح. نحن الآن ندفع ثمن قصر نظر مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية وغطرستها.