أثارت بعض التقارير الخاصة بانتقال بعض القوات التابعة لمجموعة "فاغنر" الأمنية الروسية الخاصة، التي تتمركز في عدد من الدول الأفريقية مثل أفريقيا الوسطى ومالي وليبيا، للمشاركة إلى جانب القوات الروسية في الاقتتال الدائر في أوكرانيا منذ 24 فبراير الفائت (2022)، تكهنات عدة حول مدى تأثير الحرب الروسية- الأوكرانية على دور "فاغنر" في القارة الأفريقية، لا سيما أن هذه الحرب تلقي بظلالها بطبيعة الحال على أكثر من مستوى خصوصًا الاقتصادي والسياسي والعسكري، وسط مخاوف أفريقية متنامية من احتمالات تحويل أفريقيا إلى ساحة للمواجهة وميدان واسع للحرب الباردة الجديدة بين روسيا والغرب خلال المرحلة المقبلة.
انسحاب جزئي مؤقت
تكتسب "فاغنر" أهمية خاصة في الساحة الأفريقية خلال السنوات الأخيرة، وهو أمر نابع من كونها أداة مهمة توظفها موسكو بامتياز لتنفيذ سياساتها في القارة الأفريقية بما ينعكس على تعزيز نفوذها المتصاعد، وتعظيم مصالحها الاستراتيجية هناك، وهو ما يؤهلها لموازنة الأدوار الدولية في أفريقيا وتحجيم تحركاتها لا سيما النفوذ الفرنسي والأوروبي والأمريكي، في محاولة للهيمنة على بعض الملفات المهمة مثل ملف الإرهاب والهجرة غير الشرعية واللاجئين، والتي قد تُساوم بها موسكو الغرب في ظل التوترات المستمرة بينهما منذ العقد الماضي.
كما تحظى "فاغنر" بقدرٍ كبيرٍ من الترحيب الأفريقي على المستويين الرسمي والشعبي في بعض الدول الأفريقية مثل مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، خاصة في ظل الإخفاق الأوروبي لا سيما الفرنسي في مواجهة التنظيمات الإرهابية في الساحل وغرب أفريقيا، وهو ما ترتب عليه المطالبة بطرد القوات الفرنسية والاستعانة بالدور الروسي لمواجهة الإرهاب، وخروج التظاهرات الشعبية التي شهدتها بعض دول الساحل على مدار السنوات الثلاث الماضية مثل بوركينا فاسو ومالي وكذلك أفريقيا الوسطى ضد القوات الغربية، فضلًا عن التقارب الواضح بين موسكو وبعض النخب العسكرية التي استطاعت الوصول إلى الحكم في منطقة الساحل خلال العامين الماضيين، مما أثار المخاوف الدولية من تنامي ملحوظ للدور الروسي على حساب المصالح الغربية في أفريقيا.
وتنتشر مجموعة "فاغنر" في العديد من الدول الأفريقية، حيث توجد لديها مكاتب في 23 دولة أفريقية. وتنخرط قواتها بشكل أكبر في بعض مناطق الصراعات إذ تشير التقديرات إلى انتشار نحو 2000 عنصر من "فاغنر" في أفريقيا الوسطى منذ عام 2018، بينما ينتشر حاليًّا في مالي 800 عنصر في مناطق سيكاسو وموبتي في وسط البلاد وتمبكتو في شمال البلاد، وذلك وفقًا لاتفاق أمني بين الطرفين بموجبه ينتشر نحو 1000 عنصر في البلاد، وهو ما يعزز دور "فاغنر" في القارة الأفريقية بما يخدم النفوذ الروسي في المناطق الاستراتيجية بأفريقيا مثل الساحل وغرب أفريقيا لا سيما أنها تمتلك العديد من الثروات والموارد الطبيعية التي تتهافت عليها جميع القوى الدولية.
ومع اندلاع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير الفائت، أشارت العديد من التقارير إلى سحب موسكو للعشرات من عناصر قوات "فاغنر" من أفريقيا للحاق بالعملية العسكرية في أوكرانيا، حتى أن بعضها قد بدأ عملية الإجلاء منذ يناير الماضي (2022). فعلى سبيل المثال؛ تم رصد حركة للطيران الروسي بين مطار موبتي في وسط مالي ومطار العاصمة باماكو خلال الفترة الأخيرة. كما أشارت صحيفة التايمز البريطانية في 28 فبراير الفائت إلى انسحاب عناصر من "فاغنر" من دولتي أفريقيا الوسطى ومالي إلى أوكرانيا، الأمر الذي قد يدفع البعض للتنبؤ بتراجع الدور الروسي في أفريقيا خلال الفترة المقبلة
ويتزامن مع هذه الخطوة الروسية تباين المواقف الأفريقية تجاه الأزمة الروسية- الأوكرانية في الأمم المتحدة بين الإدانة والصمت الحذر، فقد امتنعت دولتا أفريقيا الوسطى ومالي عن التصويت لصالح القرار الأممي الذي يطالب روسيا بالتوقف عن استخدام القوة ضد أوكرانيا، وانضمت إليهما نحو 15 دولة أفريقية امتنعت هي الأخرى عن التصويت لصالح نفس القرار مثل السودان وجنوب السودان وموزمبيق وتنزانيا ومدغشقر وناميبيا وأوغندا وزيمبابوي، وهو ما يكشف عن مدى تشابك المصالح الاقتصادية والأمنية بين موسكو وبعض الدول الأفريقية بفضل التحركات الروسية خلال السنوات الأخيرة، مما يثير المزيد من القلق بالنسبة للقوى الدولية الفاعلة في القارة مثل الولايات المتحدة وفرنسا في ضوء الصعود الروسي المتنامي على الساحة الأفريقية، والذي أعلن عن نفسه بشكل واضح في تصويت الأمم المتحدة مؤخرًا.
تأثيرات متعددة
شرعت معظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية بمجرد اندلاع الحرب الروسية في فرض المزيد من العقوبات على روسيا بهدف إجبارها على إنهاء العملية العسكرية في أوكرانيا. ومع اقدام موسكو على الاستعانة في بداية الحرب بعناصر من قوات "فاغنر" التي انسحبت جزئيًّا ومؤقتًا من بعض الدول الأفريقية اعتقد المراقبون أن ذلك قد يكون بداية لمسلسل التراجع الروسي عن الساحة الأفريقية، وهو اعتقاد ربما يكون خاطئًا ومن المبكر التنبؤ به في ظل عدم وضوح الرؤية بشأن نهاية الحرب الروسية- الأوكرانية ومآلاتها على النظام الدولي بما في ذلك معادلة التنافس الدولي على أفريقيا خلال الفترة المقبلة. ومع ذلك، يمكن تلمس بعض التأثيرات المحتملة للحرب الروسية- الأوكرانية على دور قوات "فاغنر" في أفريقيا، وذلك على النحو التالي:
1. مضاعفة العقوبات الأوروبية والأمريكية على "فاغنر": وذلك نتيجة تورطها في الحرب الروسية- الأوكرانية، والتي قد تستهدف منها القوى الدولية أيضًا تحجيم دور موسكو على الساحة الأفريقية في ضوء استمرار العقوبات المفروضة عليها بالأساس بسبب تورطها في بعض مناطق التوتر الأفريقية منذ 4 سنوات مضت. ومع ذلك ربما لا تتأثر "فاغنر" بتلك العقوبات بخصوص دورها المتنامي في القارة الأفريقية لا سيما أنها أضحت أداة رئيسية للسياسة الخارجية الروسية تجاه أفريقيا في السنوات الأخيرة بالرغم من الانتقادات الغربية لها والتي تصفها بأنها مجموعات من المرتزقة الروس الخارجين عن القانون نتيجة التورط في انتهاكات حقوق الإنسان في مناطق النزاع بأفريقيا.
2. تعزيز دور "فاغنر" في أفريقيا: قد تستهدف موسكو عبر ذلك تحقيق هدفين: أولهما، الاستعداد لجولة جديدة من التنافس مع القوى الدولية لا سيما فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الأفريقية خاصة أن تلك القوى ستحاول الضغط على الدول الأفريقية لمقاطعة موسكو من أجل تطويقها وتضييق الخناق عليها لإجبارها على الرضوخ لشروطها واستنزاف اقتصادها في ضوء العقوبات المفروضة عليها وغلق الأسواق الأفريقية أمامها. وثانيهما، توسيع دائرة التأييد الأفريقية لروسيا وقضاياها في المحافل الدولية (الأمم المتحدة) في مواجهة النفوذ الأمريكي والأوروبي هناك. كما ستوظف موسكو "فاغنر" لمواجهة تشويه الآلة الإعلامية الغربية والأمريكية لروسيا في الأوساط الأفريقية في محاولة غربية لشيطنتها مما قد يهدد مصالحها الاستراتيجية في أفريقيا.
3. توسيع النفوذ الروسي في القارة: من المتوقع أن تُكثِّف موسكو جميع أدواتها الفاعلة خلال المرحلة المقبلة لتوسيع نطاق تحركاتها في الدول الأفريقية وفتح آفاق جديدة للتعاون على كافة المستويات بهدف مواجهة العقوبات الأوروبية والأمريكية، وتقليل الآثار السلبية على الاقتصاد الروسي والهروب من العزلة الدولية.
4. تراجع الاهتمام الأفريقي بالضغوط الدولية: والتي ربما تتزايد خلال الفترة المقبلة من قبل القوى الدولية مثل فرنسا والولايات المتحدة وكذلك من حلفائهما الإقليميين بهدف تخفيض الاستعانة بقوات "فاغنر" من أجل تحجيم الدور الروسي. إلا أن ثقة قطاعات واسعة من الرأي العام الأفريقي وبعض النخب الحاكمة في منطقة الساحل في الدور الروسي في مجال مكافحة الإرهاب سوف ترجح كفة موسكو، لا سيما أن "فاغنر" قد حققت نتائج طيبة في هذا المجال في جمهورية أفريقيا الوسطى ومن قبلها في سوريا -من وجهة نظر الأفارقة- وهو ما يعزز موقفها كأداة فاعلة في القضاء على خطر التهديدات الأمنية والتنظيمات الإرهابية التي تنشط في بعض دول الساحل مثل مالي وبوركينا فاسو وغيرها، خاصة بعدما أخفقت فرنسا في احتواء التنظيمات الإرهابية منذ انخراطها في الساحل على مدار السنوات التسع الماضية.
وإجمالًا، لا يمكن أن يعبر الانسحاب الجزئي والمؤقت لبعض قوات "فاغنر" من بعض الدول الأفريقية من أجل التورط في الحرب الروسية- الأوكرانية عن بوادر تراجع روسي محتمل في القارة الأفريقية خلال الفترة المقبلة. بل يمكن القول إن التفاعلات الدولية مع الحرب الروسية- الأوكرانية وتداعياتها المحتملة ترجح استمرار اعتماد موسكو على مجموعة "فاغنر" الروسية، والمضي قدمًا نحو توسيع دورها وتعزيز نفوذها هناك، لربما تندلع مواجهة روسية- غربية جديدة في ساحة النفوذ الأفريقي، وتسعى موسكو إلى تقليص أضرار العزلة الدولية المفروضة عليها من خلال بوابة أفريقيا. كما أن اعتماد النخب الحاكمة الأفريقية على "فاغنر" سوف يزداد طرديًّا مع التراجع الفرنسي والأمريكي في ظل تصاعد التهديدات الأمنية ومخاطر التنظيمات الإرهابية في القارة الأفريقية. فضلاً عن أن تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية الاقتصادية على أفريقيا تحديدًا ربما تزيد من احتياج بعض الأنظمة الحاكمة الأفريقية لقوات "فاغنر" لمواجهة التوترات والاضطرابات الشعبية المحتملة نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لقطاعات كبيرة من المواطنين الأفارقة خلال الفترة المقبلة.