لاقت الزيارة التي قام بها رئيس "دولة" إسرائيل يتسحاق هرتزوغ إلى تركيا في التاسع من مارس الجاري (2022)، اهتماماً كبيراً من المعلقين في البلدين وفي العديد من بلدان الشرق الأوسط، ومالت التقديرات إلى اعتبار هذه الزيارة بمثابة بداية لإزالة التوتر في العلاقات بين البلدين والمستمر منذ ما يقرب من خمسة عشر عاماً. غير أنه من السابق لأوانه الحكم على قيمة هذه الزيارة ومدى تأثيرها على العلاقات بين البلدين، إذ أنه على الرغم من المصالح المشتركة الأمنية والاقتصادية بينهما، إلا أن عناصر أخرى عديدة يمكن أن تقوض أي فرصة لتحسين العلاقات التركية-الإسرائيلية في المستقبل المنظور.
طبيعة زيارة هرتزوغ
حسب قوانين أساس دولة إسرائيل (تعتبر بديلاً للمبادئ الدستورية)، فإن منصب رئيس الدولة هو منصب شرفي ولا يمتلك شاغله أية صلاحيات سياسية حقيقية، ولكن ما أكسب زيارة هرتزوغ كل هذا الاهتمام، هو استقبال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان له، وهو صاحب الصلاحيات الواسعة دستورياً والذي يعادل منصبه في تركيا منصب رئيس الحكومة في إسرائيل وليس رئيس الدولة.
ورغم أن هرتزوغ صرح بأن الزيارة وجدول الأعمال الخاص بها تمت بتنسيق كامل بينه وبين نفتالى بينت رئيس الحكومة ويائير لابيد وزير الخارجية، إلا أن ذلك لن يغير من طبيعة الزيارة كونها مجرد خطوة رمزية لفتح مسار ربما يكون شاقاً وملئ بالعقبات في طريق تحسين العلاقات بين البلدين.
ومن المؤكد أن شخصية هرتزوغ وتاريخه السياسي قد لعبت دوراً في قرار أردوغان بدعوته لزيارة تركيا والمراهنة على الثمار التي يمكن جنيها من خلف هذه الزيارة رغم المنصب الشرفي له، وذلك للأسباب التالية:
1. يمتلك هرتزوج من خلال المناصب التي شغلها علاقات دولية وإقليمية واسعة، فقد تولى رئاسة الوكالة اليهودية في الفترة 2018-2021، ومن قبل ذلك وفي عام 2007 تولى منصب وزير الشتات ومكافحة معادة السامية، أي أنه وبحكم هذين المنصبين كان على تواصل دائم مع قيادات الطوائف اليهودية في العالم بأكمله، ومع قيادات الدول الكبرى التي تعرف قيمة التأثير القوي للوبي اليهودي في السياسات المحلية والدولية.
وحسب السيرة المهنية له على موقع الكنيست: "أقام هرتزوغ شبكة من العلاقات الدولية مع قيادات العالم وعلى الساحة الدبلوماسية والدولية وتم اعتباره لاعباً مركزياً ورئيسياً في دفع عملية سياسية وإقليمية حاسمة كادت تؤدي إلى تغيير المناخ السياسي لدولة إسرائيل. من خلال العلاقات التي أقامها زرع البذور التي تجسدت في العام الماضي في الاتفاقات الإبراهيمية".
2. يعتبر هرتزوغ شخصية ذات خبرات أمنية كبيرة، إذ التحق خلال فترة تجنيده التي بدأت عام 1978 بالوحدة 8200 التي تعتبر أهم الوحدات وأكثرها سرية في جهاز أمان (المخابرات العسكرية الإسرائيلية)، ويتم انتقاء عناصرها عبر سلسلة من الاختبارات المعقدة لأفضل الشباب الإسرائيلي تعليماً وموهبة. ومهمة هذه الوحدة هي جمع المعلومات، وفك تشفير المعلومات الواردة من المصادر الأجنبية المختلفة، فضلاً عن تشغيل وسائل جمع المعلومات وتحليلها ومعالجتها، وتقديم تقديرات موقف لصانع القرار في أكثر القضايا حساسية للأمن الإسرائيلي.
ولا يعرف على وجه الدقة المدة التي قضاها هرتزوغ في هذه الوحدة، وإن كانت المعلومات القليلة المتوافرة تشير إلى أنه وصل إلى رتبة رائد فيها، وحتى عندما انتقل لممارسة العمل السياسي تم تعيينه مستشاراً لرئيس الحكومة لشئون الشباب عام 1999 (في عهد رئيس الوزراء الأسبق ايهود باراك)، وهو منصب يغلب عليه الطابع الأمني أكثر من سياسياً.
3. يؤمن هرتزوغ بحل الدولتين كوسيلة لإنهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ويمتلك خبرة واسعة في التعامل مع الفلسطينيين اكتسبها من خلال لقاءاته بقيادات من السلطة الفلسطينية خلال فترة توليه رئاسة حزب العمل (2013-2017).
4. رغم كونه قاد حزباً علمانياً في فترة من فترات حياته السياسة (حزب العمل)، امتلك هرتزوغ على الدوام علاقات طيبة مع تيار الصهيونية الدينية، بسبب الاحترام الذي يكنه هذا التيار له بوصفه حفيد أول حاخام أكبر للأشكيناز في إسرائيل في الفترة 1948-1959.
هذه العناصر الأربعة جعلت الرئيس التركي متحمساً لدعوة هرتزوغ للقائه في أنقرة، فحتى لو لم يكن للزيارة فائدة مباشرة وسريعة بسبب رمزية منصب هرتزوغ، وحتى لو لم تسفر في النهاية عن إذابة الجمود في العلاقات الإسرائيلية-التركية، تظل الصلات التي نسجها أردوغان معه مهمة، بداية من أن خبرات هرتزوغ الأمنية وعلاقاته المتشعبة مع الكثير من الشركات الإسرائيلية العاملة في مجال التكنولوجيا الراقية التي تعتبر أساس الصناعات العسكرية الحديثة، يمكن أن تساعد أردوغان الذي لم يخف رغبته في زيادة التعاون مع إسرائيل في مجال الصناعات العسكرية، وتقديم بلادة كشريك يمكن الثقة به مستقبلاً فيما يخص هذا المجال.
وأيضاً ووبسبب إيمان هرتزوغ بحل الدولتين مع الفلسطينيين، فإن بوسع أردوغان تصوير استقباله للرئيس الإسرائيلي على أنه محاولة للتأثير في السياسة الإسرائيلية لصالح الفلسطينيين، وبذلك يقلل من الانتقادات التي يمكن أن تثيرها هذه الزيارة من جانب قطاع من الفلسطينيين والشعوب العربية والإسلامية. وأخيراً، فإن علاقة هرتزوغ المتوازنة مع كل الأطراف بما في ذلك الفلسطينيين والتيارات الدينية الإسرائيلية بما فيها تيار الصهيونية الدينية، والتي تجسدت في قيامه بزيارتين عقب انتخابه رئيساً للدولة العبرية، كانت الأولى لقرية كفر قاسم التي ارتكبت فيها إسرائيل مذبحة أودت بحياة ما يقرب من خمسين فلسطينياً عام 1956 وقدم خلال الزيارة اعتذاره لسكان القرية عن المذبحة، وكانت الثانية لمستوطنة متطرفة في الخليل أوقد خلالها مع قادة الاستيطان شمعة في العيد اليهودي المعروف بعيد الحانوكاه (الأنوار) وأكد على الصلة بين اليهود وبين الحرم الإبراهيمي في الخليل، وهو ما دعا زعيم حزب الصهيونية الدينية المتطرف بتسلئيل سموترتش للإشادة به… هذه الصلات وتلك الزيارتين جنّبت الرئيس التركي الهجوم عليه عند استقباله لهرتزوغ، حيث كان في وسعه أن يقدم الأخير كرجل سلام بسبب اعتذاره عن مذبحة كفر قاسم، رداً على من سينتقدون من الفلسطينيين والعرب استقباله لرئيس إسرائيلي يتلقى الإشادة من أكثر التيارات الدينية تطرفاً في إسرائيل.
وفي هذا الإطار تحديداً، يمكن فهم لماذا حرص أردوغان على الحديث أثناء لقاءه بهرتزوغ عن العلاقة الخاصة التي تجمع "اليهود بالأتراك"!! دون أن يوضح طبيعة هذه العلاقة، إلا لو اعتبرنا أأأن أردوغان كان يقصد أنه مثلما يعتبر هرتزوغ جسراً بين العلمانيين والمتدينين في إسرائيل، فإنه (أي أردوغان) هو الشخص الذي راهن عليه الغرب في فترة قريبة ليكون جسراً بين الإسلام والغرب (ربما تجاهل أردوغان هنا حقيقة أن الغرب اكتشف في السنوات القليلة الماضية عبث مثل هذا الرهان بعد أن تلاعب أردوغان بالإسلام لتحقيق طموحاته لاختراق العالم العربي وإحياء الخلافة العثمانية، وليس من أجل نشر الاعتدال والديمقراطية في العالمين الإسلامي والعربي).
عقبات عديدة
ليس من المنتظر أن تسفر زيارة هرتزوغ لتركيا عن نتائج سريعة، رغم إعلان هرتزوغ أن وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو سيلتقي نظيره الإسرائيلي يائير لابيد في شهر أبريل القادم. والملاحظ أن هرتزوغ أفصح عن الزيارة المنتظرة بصيغة لا تُظهر من كان المبادر بطلب هذه الزيارة، حيث قال: "علمت من وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أنه ينوي زيارة إسرائيل والأراضي الفلسطينية في أوائل شهر أبريل القادم، كما سيناقش مع وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد إعادة تعيين السفراء". فظاهر التصريح يمكن أن يشير إلى أن إسرائيل لم تدع تشاويش أوغلو لزيارتها، وأن وون الأخير هو من طلبها، لأنه من المستبعد أن يكون وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد قد أخفى عن هرتزوغ قيامه بدعوة نظيره التركي لزيارة إسرائيل، خاصة وأن هرتزوغ قال قبل زيارته لتركيا أنه نسق الزيارة بشكل كامل مع رئيس الحكومة نفتالى بينت ووزير الخارجية لبيد!، والتفسير الوحيد لتصريح هرتزوغ السابق، أنه يرسل رسالة لتركيا بأن لا تبني بشكل مبالغ فيه على زيارته لتركيا، وكان هرتزوغ واضحاً أيضاً عندما صرح بوضوح بأن إسرائيل رغم إيمانها بأهمية العلاقات مع تركيا، إلا أنها لن تنفذ كل ما يطلبه أردوغان منها مقابل تحسين العلاقات بين البلدين، كما شدد على أن اليونان وقبرص (الدولتان التي تجمعهما علاقات متوترة مع تركيا) على اطلاع على تفاصيل المحادثات بين إسرائيل وتركيا وسيتم إطلاعهما على ما سيجري خلال هذه الزيارة، وهو ما يعني أن هرتزوغ أراد أن يوضح لأردوغان أن إسرائيل لن تقايض تحسين علاقتها بتركيا على حساب علاقتها مع قبرص واليونان.
على الجانب الآخر، بدأ الاعلام الإسرائيلي في وضع العراقيل أمام تحسين العلاقات الإسرائيلية- التركية عبر صياغة خبر الزيارة المنتظرة لوزير الخارجية التركي بشكل يمكن أن يحرج أردوغان، فعلى سبيل المثال نوهت القناة الإسرائيلية المعروفة I24 في التاسع من مارس الجاري لهذه الزيارة بعنوان بارز نصه "الرئيس الإسرائيلي: وزير الخارجية التركي يلتقي نظيره الإسرائيلي أبريل القادم في القدس". الإشارة إلى مكان اللقاء في القدس- التي تصر إسرائيل على أنها موحدة وعاصمة أبدية لها- ستضع الرئيس التركي في مرمى نيران الغاضبين من زيارة هرتزوغ، إذ كيف يمكن لوزير الخارجية التركي أن يلتقي نظيرة الإسرائيلي في القدس التي تتضمن الجانب الشرقي الذي احتلته إسرائيل عام 1967، والتي طالما زعم أردوغان أنه من أشد المدافعين عن هويتها الفلسطينية والإسلامية!، وحتى تتم هذه الزيارة سيكون من الصعب تصور كيف ستحل تركيا مشكلة مكان اللقاء بما يحمله من دلالات، فحتى إجراءه في القدس الغربية لن يعفي أردوغان ووزير خارجيته من الانتقادات طالما أن الإعلام الإسرائيلي سيشير لمكان اللقاء دون إلحاق كلمة الغربية بالقدس!.
في الاتجاه نفسه، وفي معرض محاولة إسرائيل إحراج أردوغان، فقد تم الإعلان أثناء زيارة هرتزوغ عن تمرير الكنيست لقانون يمنع منح الجنسية للمتزوجين من مواطنين من عرب إسرائيل فلسطينيين أو فلسطينيات، وهو ما يعني عملياً تشتيت العائلات التي ينطبق عليها القانون. والأمر المؤكد أن صورة أردوغان التي كان يحرص عليها كنصير لحقوق العرب والمسلمين والفلسطينيين في الأراضي المحتلة سوف تتشوه، خاصة أن الهجوم بدأ مبكراً عليه حينما أعلنت حركة الجهاد الفلسطيني في بيان رسمي لها إدانتها لزيارة هرتزوج لتركيا، حيث قالت أنها "تستنكر بشدة استقبال هرتزوغ في تركيا على وقع التصعيد العدواني الإسرائيلي في القدس"، معتبرة أنها "تمثل انحيازاً للعدو (إسرائيل) في مواجهة جهاد الشعب الفلسطيني". وأضاف البيان أن "السعي لاستعادة العلاقات مع إسرائيل بذريعة مصلحة هذه الدولة أو تلك هو خذلان للقدس وفلسطين". أما حركة حماس فقد قالت في بيانها: "نتابع بقلق بالغ زيارات مسئولي إسرائيل وقادته لعدد من الدول العربية والإسلامية، وآخرها زيارات هرتزوغ لعدد من دول المنطقة (دون ذكر اسم تركيا)، ونجدد التّأكيد على موقفنا المبدئي برفض أشكال التواصل كافة مع عدونا الذي ينتهك حرماتنا ويدنس ويقوم بتهويد القدس والأقصى ويواصل حصاره وعدوانه على أهلنا في قطاع غزّة".
ومن المؤكد أن ردات الفعل الغاضبة من الفلسطينيين تجاه تركيا ستشتد إذا ما تمت زيارة تشاويش أوغلو للقدس، ولن يكون أمام أردوغان إلا الاختيار بين تحسين علاقته بإسرائيل أو الحفاظ على ما تم بناؤه من جسور مع الفلسطينيين والشوارع العربية والإسلامية على مدى سنوات سابقة.
والأهم من ذلك أن أردوغان يعرف تماماً أن إيران ستستغل أي تحسن في العلاقات التركية- الإسرائيلية لجذب الفلسطينيين أكثر نحوها خاصة حركة حماس التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع تركيا، وسيعني ذلك إضعاف أي دور تركي محتمل للانخراط في أي تسوية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ويمكن لإيران أن تستغل زيارة هرتزوغ لتركيا ولفت الانتباه إلى حقيقة أن هرتزوغ كان مهندس عملية السلام الإبراهيمي لكي تضع تركيا في موقع الدولة التي تراجعت عن إدانتها الشديدة للاتفاقات التي تم توقيعها بين إسرائيل وعدد من الدول العربية في العامين الماضيين، لتصبح (أي تركيا) مرشحة لتكون إحدى الدول الإسلامية التي ستنضم لهذه الاتفاقات مستقبلاً!
ويبقى في النهاية أن إسرائيل لا تثق في أردوغان الذي تقلب في مواقفه منها منذ عام 2008، وأوصل العلاقات بين البلدين إلى حالة قطيعة رسمية مرتين كان آخرها عام 2018، كما تدرك إسرائيل أن أردوغان ربما يسعى للتقارب معها فقط من أجل إنقاذه من المأزق الذي يعيشه على وقع الأزمة العنيفة التي يواجهها الاقتصاد التركي، وعلى إثر توتر علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية وخلافاته مع روسيا حول الملف السوري، جنباً إلى جنب مع تدهور شعبيته في الداخل التركي في وقت سيتعين عليه العمل من أجل البقاء في السلطة بعد الانتخابات التي ستجرى في منتصف العام المقبل.
تدرك إسرائيل إذن أن نوايا أردوغان لتحسين علاقاته معها ربما لا تكون حقيقية، وأن عليها أن تمضي بحذر وألا تقدم على منح أردوغان أي فرصة لتحقيق أهدافه بمناورة مكشوفة جسدتها زيارة هرتزوغ لتركيا. بل الأوقع أن أي تحسن في العلاقات بين إسرائيل وتركيا لن يكون ملموساً قبل ظهور نتائج الانتخابات التركية في العام المقبل، فبعدها يمكن لإسرائيل أن تختبر توجهات أردوغان إذا ما استمر في السلطة، وهل سيستمر في محاولة تحسين علاقته معها، أم سيعود مرة أخرى لخطابه الشعبوي الذي يحاول تأليب العالمين العربي والإسلامي ضدها على أمل استعادة الخلافة العثمانية المدعومة!.
والاعتقاد السائد بين الخبراء الإسرائيليين أن رحيل أردوغان عن السلطة هو ما يمكن أن يطرح أملاً حقيقياً في تطوير العلاقات مع تركيا، رغم أن إسرائيل قد برهنت عبر ما يقرب من خمسة عشر عاماً على قدرتها على التعامل مع أردوغان وردعه عندما يتجاوز خطوطها الحمراء.