• اخر تحديث : 2024-07-01 12:23

حديث النظام العالمي والتغيير الذي سيحدث فيه لا ينقطع منذ بدء الهجوم العسكري الروسي ضد أوكرانيا في 24 فبراير 2022، وقبله بأشهر عندما وضعت موسكو على الحدود قوات تُحشد عادةً لأغراض قتالية. يوحى السلوك الروسي الهجومي، ورد الفعل الغربي الدفاعي، لكثير ممن يتوقون إلى تغيير في النظام العالمي بأن هذا التغيير اقترب، أو بات وشيكًا، أو لعله بدأ فعلاً.

ولهذا يثير ما يحدث في أوكرانيا وحولها أسئلة عن نتائج إقدام روسيا على شن أول حرب كبيرة في أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعما إذا كان العالم يتجه إلى تغيير جوهري في علاقات القوى، وهل أصبح النظام العالمي متعدد الأقطاب، أو بات هذا التعدد وشيكًا، وغيرها.

وهي كلها أسئلة مهمة. ولكن السعي إلى إجابات عنها يبدأ بسؤال لابد، من الناحية المنهجية، أن يسبقها وهو: كيف سيحدث الانتقال في النظام العالمي الراهن؟ وقد فضلتُ استخدام تعبير انتقال Transition، وليس تغييرًا Change، انطلاقًا من فرضية أطرحُها للتفكير فيها وبحثها موضوعيًا بمنأى عن الانحيازات، وهى أن احتمال حدوث تجديد في النظام العالمي من داخله، وفى إطار قواعده الأساسية المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة مع بضع إضافات محتملة في الاتجاه نفسه، ربما يفوق احتمال تغييره بالكامل وبواسطة تحدى هذه القواعد أو بعضها، وأن احتمال التطور الكمي فيه –بالتالي- قد يكون أكبر من احتمال التغيير النوعي، وأن احتمال حدوث التجديد على هذا النحو اعتمادًا على قوة النموذج ربما يكون أوفر من احتمال تغيير استنادًا على قوة السلاح.

وتعبير الانتقال، الذي ينطوي بطابعه على تدرج، أقرب إلى طبيعة هذه الفرضية، التي يمكن أن نصوغها مبدئيًا كالتالي: كلما ازدادت قوة النموذج الجديد الذي تقدمه الصين وجاذبيته، قل تأثير القوة العسكرية في التفاعلات المؤدية إلى تجديدٍ في النظام العالمي.

ولكى نبدأ التفكير في هذه الفرضية، بدون أن نطمح إلى سبر أغوارها بشكل كامل فى مقالة تهدف أساسًا إلى طرحها والحث على البحث فيها، يحسن أن نعود قليلاً إلى تاريخ غير بعيد لإلقاء نظرة سريعة على الخطوط العامة جدًا لتطور النظام العالمي، والتغيير الذى حدث فيه، منذ أوائل القرن التاسع عشر حين ظهر هذا النظام في صورته الحديثة، قبل أن يُسمى بهذا الاسم، وحتى أواخر القرن العشرين بعد الانتقال من نظام عالمي ثنائي القطبية إلى نظام القوة الأولى أو القوة الأكبر من قوى أخرى، وليس نظام القطب الأحادي بخلاف ما بدا أنه سيكون فور تفكك الاتحاد السوفيتي السابق ومعسكره، ولكن لم يمض عقد من الزمن حتى تبين أن هذا الذى بدا لم يكن هو الذى يحدث في الواقع.

مرحلةُ التحولِ في النظامِ العالمي بقوةِ السلاح

كان ضروريا أن تُهزم هزيمة فرنسا النابليونية عسكريًا، وتنتهي حروبها التي امتدت في الفترة بين 1798 و1814، لكي تنضج الظروف لتأسيس نظام عالمي حديث على أساس تعاقدي في مؤتمر فيينا (سبتمبر 1814 – يونيو 1815)، والمعاهدة التي تمخضت عنه ووقعتها الدول الأوروبية الكبرى. فقد أرست تلك المعاهدة مبادئ أساسية في مقدمتها توازن القوى، واحترام سيادة الدول، وعدم قيام أي منها بتهديد الأخرى، وحرية الملاحة في الأنهار الدولية وغيرها.

وكان مؤدى ذلك الحدث غير المسبوق في تاريخ العلاقات الدولية قيام نظام عالمي متعدد القوى أو الأقطاب، بدون أن يعنى هذا تساويها بشكل كامل، إذ بقي ثمة تفاوت بينها، ولكنه محكوم بالمبادئ التي أُرسيت. فكانت بريطانيا، التي ستسبق غيرها إلى الثورة الصناعية بعد قليلٍ من ذلك المؤتمر، أقوى. ولكن المسافة كانت قصيرة بينها وبين دول أوروبية أخرى، مثل فرنسا والنمسا وبروسيا (ألمانيا لاحقًا) وروسيا. كما لم تكن المسافة بعيدة عن دول أخرى مثل إيطاليا عقب إكمال وحدتها التي حدثت تدريجيًا حتى عام 1870، وبلجيكا، وكذلك اليابان خارج أوروبا. ولكن نظام تعدد القوى أو الأقطاب لم يُحقَّق السلام الذي كان مأمولاً، إذ اندلعت في العقود التالية حروب عدة خلقت توترات تراكمت حتى بات الوضع مهيئاً لأول حرب عالمية.

وما أن انتهت تلك الحرب المهولة حتى حاولت الدول الكبرى المنتصرة فيها إعادة بناء النظام العالمي في مؤتمر تاريخي ثان (بعد مؤتمر فيينا) عُقد في فرساي عام 1919. وأسفر ذلك المؤتمر، فضلاً عن معاقبة ألمانيا والدولة العثمانية، عن إيجاد آلية جديدة غير مسبوقة هي عصبة الأمم التي كانت بداية تنظيم دولي حلم بمثله المفكر الألماني إيمانويل كانط مبكرًا جدًا في كتابه (السلام الدائم – رؤية فلسفية) الصادر عام 1795، والذي نقله د. عثمان أمين إلى العربية تحت عنوان (مشروع للسلام الدائم).

لكن قسوة العقوبات التي فُرضت ضد ألمانيا دفعت التيار القومي المتطرف فيها إلى الصدارة، وصار أكثر تطرفًا بقيادة أدولف هتلر الذي قاد العالم إلى حرب عالمية ثانية كانت أكثر ضراوة من سابقتها، ولكنه فشل في تحقيق التغيير الذي أراده.

مرحلة التحول في النظام العالمي بقوة النموذج

شنت ألمانيا النازية الحرب عام 1939 سعيًا لإحداث تغيير تستعيد بموجبه حقوقها وفق ما تصوره هتلر، وترفعها إلى قمة النظام العالمي. وحدث التغيير فعلاً بواسطة هذه الحرب، ولكن في اتجاه مختلف تمامًا لم يتوقعه أي ممن خاضوها، لأن التحاق الولايات المتحدة بها أحدث تحولاً نوعيًا في مسارها، كما في موازين القوى الدولية، بالتوازي مع الدور المحوري الذي لعبه الاتحاد السوفيتي آنذاك في مواجهة التوسع الألماني خلال الحرب، ودخول قواته بلدانُا عدة في شرق أوروبا ووسطها، وهو ما صار أساسًا لتقاسم النفوذ مع الولايات المتحدة.  فلم تمض سنوات قليلة حتى تبين أن بريطانيا وفرنسا، اللتين اعتمدتا على الولايات المتحدة لإعمار ما دمرته الحرب فيهما، كما في أوروبا، أخذتا في التراجع، في مقابل صعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إلى قمة النظام العالمي.

وكانت تلك هي المرة الأخيرة التي حدث فيها تغيير في النظام العالمي بواسطة القوة العسكرية، التي ظلت هي أداة كل تحول حدث في العالم عبر تاريخه الطويل، فقد رفع الردع المتبادل تكلفة أي حرب بين القوى الكبرى التي تملك أسلحة نووية، لأن نتيجتها دمار شامل فعلاً، وليس مجرد اسم أُطلق على هذه الأسلحة.

لم تتحول الحرب الباردة رغم شدتها إلى ساخنة، ولجأت القوتان اللتان تصدرتا النظام العالمي على وكلاء، فانتشر نمط الحرب بالوكالة في أنحاء مختلفة من العالم. لكن الولايات المتحدة اعتمدت على تقديم صورة زاهية انتشرت في العالم، فيما أُطلق عليه "الحلم الأمريكي"، لتكون الأداة الأساسية في إدارة الصراع ضد الاتحاد السوفيتي، وجعلت قوتها الناعمة أساسًا لنموذج اعتمد على الحرية والديمقراطية والمواطنة، ومجال عام مفتوح، ونمط حياة منفتح، ومصادر متعددة للقوة الثقافية، وتوفير فرص العمل والكسب وتحقيق الذات، والارتقاء بمستوى التعليم، وتحقيق قفزات في البحث العلمي والابتكار. وذاعت شهرة هذا النموذج حتى صارت بعض ملامحه جاذبةً لقطاعات متزايدة من الشعوب في الاتحاد السوفيتي والدول المتحالفة معه.

وبرغم أن سباق التسلح أثر في النتيجة التي انتهت إليها الحرب الباردة، فقد أتاحت قوة النموذج للولايات المتحدة إمكانات أكبر من الاتحاد السوفيتي الذى أضعفت تلك التكلفة اقتصاده، في الوقت الذى عجز نظامه السياسي الأحادي عن حل مشكلة القوميات التي يصعب معالجتها في غياب قدر معقول من حرية التعبير عن كل من هذه القوميات، ومناخ مناسب للتفاعل الإيجابي بينها، بخلاف الحال في الولايات المتحدة التي تمكن النظام التمثيلي فيها من دمج الأقليات الإثنية بدرجات متفاوتة، والحد من أزمة العنصرية ضد الأمريكيين من أصل إفريقي، وتحقيق تقدم جزئي في التعامل معها بدءًا من ستينات القرن الماضي.

وهكذا حدث انتقال سلس في النظام العالمي اعتمادًا على قوة النموذج الأمريكي، وبدون طلقة واحدة. وبعد ما بدا أن هذا النظام يمضي باتجاه هيمنة أمريكية، تبين أن الولايات المتحدة صارت في وضع أقرب إلى القوة الأولى، منها إلى القطب الواحد أو الأحادي، وخاصةً بعد أن بدأت عملية التنمية الضخمة في الصين تؤتى ثمارها تدريجيًا مع نهاية القرن المنصرم، وشرعت روسيا بدءًا من منتصف العقد الأول في القرن الحالي في التطلع إلى استعادة ما فقدته، أو شيئًا منه، وتنامى أدوار ما صارت تُعرف بالقوى الصاعدة.

مستقبل النظامِ العالمي بينَ قوةِ السلاحِ وقوةِ النموذج

كان من سمات النظام العالمي الذي نتج عن انتهاء الحرب الباردة، فضلاً عن عدم تمكن الولايات المتحدة من التفرد بقمته، ظهور عوامل عدم استقرار جديدة مثل تنامى الإرهاب وازدياد التهديدات المترتبة عليه، وجموح السياسة الأمريكية في رد فعلها على خطره الذي وصل إلى قلبها، وعدم قدرتها على إدارة العلاقات مع الصين الصاعدة بطريقة خلاٌقة، وتحول روسيا إلى قوة مراجعة Revisionist تدفعها طاقة استياء وغضب شديدين ليس بسبب ما حدث للاتحاد السوفيتي السابق فقط، ولكن لما تعرضت له في الفترة التالية أيضًا. وبفعل هذه المؤثرات، وغيرها، وصل النظام إلى النقطة التي يُثار عندها السؤال عما بعده في وقت أقصر من النظامين السابقين، اللذين استمر أحدهما (التعددي) قرنًا كاملاً، والثاني (الثنائي) ما يقرب من نصف القرن.

وصار هذا السؤال أكثر إلحاحًا اليوم في ضوء نشوب أول حرب كبيرة في أوروبا منذ انتهاء النظام الثنائي القطبية. فهل يمكن أن يكرر التاريخ نفسه، ويعود العالم إلى مرحلة تغيير النظام العالمي بالقوة العسكرية، التي تعنى هذه المرة القوة النووية، وكأن المرحلة التي صارت قوة النموذج فيها هي العامل الرئيسي في التغيير لم تكن، أو كأنها كانت "جملة اعتراضية" يمكن التغاضي عنها؟

وحتى إذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن تغيير النظام العالمي بالقوة العسكرية هذه المرة في وجود أسلحة نووية يمكن أن تدمر العالم بما ومن فيه، وهل تبقى أهمية لصراع على هذا النظام في ظل دمار شامل سيلحق بالعالم ويصعب تخيل المدى الذي يمكن أن يبلغه؟

وحتى إذا مضينا أبعد من ذلك، واستهنا بالأسلحة النووية ودمارها، أو هوَّنا من شأنها، وتخيلنا أن هناك منتصرًا في حرب تُستخدم فيها هذه الأسلحة سيتصدر النظام العالمي، أو تصورنا أن العالم سيرضخ لمن يلوح باستخدام الأسلحة النووية ليضعه بين خياري التسليم له، أو المغامرة بحرب إفناء الكون، أفلا يعنى هذا أنه قد يصير في إمكان أي من أعضاء النادي النووي أن يسعى إلى تغيير هذا النظام متى يشاء؟

والسؤال التالي منطقيًا في هذا السياق، هو: هل يبدو احتمال تغيير النظام العالمي بالقوة العسكرية ممكنًا حقًا، حتى إذا استخدمها من لا يملك من عناصر القوة الشاملة للدولة غيرها، وخاصةً حين نأخذ في الحسبان أن واقع العلاقات الدولية يشى بتقدم سريع للصين في الطريق إلى قمة العالم، اعتمادًا على قصة نجاح اقتصادي- اجتماعي لا مثيل لها، وعلى نموذج جديد آخذ في التطور وقابل لأن يكون جاذبًا مع بعض الإصلاحات فيه خلال عدة سنوات، في الوقت الذى تضعف جاذبية النموذج الأمريكي، على نحو يمكن أن يجعل الدولتين متعادلتين تقريبًا في قوة النموذج وقدرته على التأثير؟

وألا يفرض هذا التطور تركيزًا أكثر للاهتمام على احتمالٍ قد يكون أقرب، وهو أن العالم كان يتجه قبل الحرب الروسية على أوكرانيا صوب نظام ثنائي القطبية مرة ثانية، ولكن مع وجود الصين هذه المرة بجوار الولايات المتحدة في قمته، وتقدمهما بمسافة معتبرة على القوى الكبرى الأخرى مثل روسيا والاتحاد الأوروبي واليابان، وبعدها القوى الصاعدة التي ستتمكن من مواصلة الصعود؟

وألا يدل موقف الصين المحايد إلى حد كبير تجاه هذه الحرب، وعدم اصطفافها مع روسيا، على أنها ليست لها مصلحة في استخدام القوة العسكرية لتحقيق تغييرٍ قطعت بالفعل شوطًا طويلًا في الطريق إليه، وأنها تستطيع بلوغ هدفها من داخل النظام العالمي، وليس عن طريق تغييره؟ وأليس هذا ما يُستفاد من أهم ما قاله وزير خارجيتها وانج يي، في مؤتمر صحفي عقده في 7 مارس 2022، وهو أن الصين تحافظ على النظام العالمي، وتعمل لتدعيم قيم التنمية المستدامة والتعاون والسلام وتعزيز الثقة وحل النزاعات بالحوار، وتحرص على الانفتاح في الاقتصاد العالمي بدون مواجهات بين كتل في العالم؟

وألا يعنى هذا عدم صواب النظر إلى الصين بوصفها قوة مراجعة Revisionist للنظام العالمي الحالي، بخلاف الحال بالنسبة إلى روسيا؟ ثم كيف تكون الصين قوة مراجعة، وهي المستفيد الأول من هذا النظام، الذي تُحرز في ظله تقدمًا مستمرًا، إذ باتت القوة التجارية الأكبر، والمصدر الأهم للإقراض العالمي، إلى جانب تحولها لمركز عالمي للابتكار، واقترب حجم اقتصادها من معادلة الاقتصاد الأمريكي؟  وأليس الأرجح منطقيًا أن تواصل هذا المنهج لما يحققه من نتائج آخذة في التراكم ما لم تحدث مفاجأة قد ترتبط بتفاعلات داخلية أو إقليمية، وتؤدى إلى اختلاف في المعطيات الحالية والمتوقعة في الفترة القادمة؟ وهل يمكن، بالتالي لأي حرب تشنها روسيا أو غيرها أن تثنى الصين عن هذا المنهج الذي يجعلها موضع ثقة الجميع تقريبًا (استخدم مُنسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل عبارة "دولة موثوق بها من جميع الأطراف" في سياق حديثه، الذي نُشر في صحيفة البايبس الإسبانية في 4 مارس 2022، عن أنها التي قد تستطيع القيام بدور الوسيط لوقف الحرب)؟

وأليس متوقعًا، والحال هكذا، أن تكون الصين الرابح الأول من الحرب في أوكرانيا، وتليها الولايات المتحدة التي يُرجح أن تكون خسائرها أقل من روسيا والاتحاد الأوروبي؟

هذا غيض من فيض أسئلة يتعين أن نطرحها على أنفسنا عند اختبار الفرضية التي بدأنا بها هذه المقالة، وربما نجد في ثنايا بعضها إجابات عنها.

*وحيد عبد المجيد - مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية