ستترك الحرب الأوكرانية آثاراً عميقة على النظام الدولي، فالأحداث بهذا الحجم وفي هذه الجغرافيا لابد أن يكون لها أثر تحويلي على علاقات القوى الكبرى، التي تمثل المحدد الأهم لطبيعة النظام الدولي. ومن المستحيل في هذه المرحلة المبكرة استشراف تفصيلات القرارات والانعطافات، فتفاعلات الأطراف لا تكف عن الإتيان بالجديد. غير أن الحدث الكبير لم يولد فجأة، فهو الحلقة الأحدث في سلسلة متصلة من تطورات تتقدم في اتجاه تمكن ملاحظته، ويمكن تشخيص آلياته وتحليلها، ويمكن رسم ملامح الاتجاه المستقبلي الذي يتخذه.
النظام الدولي الراهن
بعد انتهاء الحرب الباردة دخل النظام الدولي في مرحلة هيمنة القطب الواحد الأمريكي والعولمة الاقتصادية. ومنذ سنوات عدة يتعرض هذا النظام لضغوط ناتجة عن زعزعة موقع الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي؛ بسبب الصعود السريع للصين ونجاحها في تضييق الفجوة مع القوة العظمى المهيمنة، وهو ما أشعر الولايات المتحدة بالتهديد، فبدأت في تطبيق سياسة لإعادة التموضع تجاه آسيا Pivot to Asia.
بدأت الولايات المتحدة في زيادة التركيز على آسيا منذ فترة الرئاسة الأولى للرئيس أوباما في فترة الرئيس ترامب أخذ الاهتمام الأمريكي بآسيا شكل سياسات تجارية عقابية ضد الصين، فتم فرض رسوم باهظة على واردات الصين، وشرعت الولايات المتحدة في التضييق على التعاون مع الصين، خاصة في مجالات التكنولوجيا الفائقة، فبينما كان للإجراءات الحمائية التي اتخذها الرئيس ترامب بعد تجاري واقتصادي، فإن فرض القيود على نقل التكنولوجيا للصين، وعلى قدرة الصين على تسويق منتجاتها التكنولوجية المتقدمة كان مدفوعاً أساساً بأسباب استراتيجية وأمنية. لقد تم التخلي عن سياسات حرية التجارة والعولمة الاقتصادية لصالح سياسات الخصومة الاستراتيجية strategic rivalry بين القوى الكبرى.
وصل الرئيس الديمقراطي جو بايدن إلى الرئاسة، وبينما قام بعكس سياسات سلفه الجمهوري في المجالات كلها تقريباً، إلا أنه أبقى على الإجراءات كلها التي اتخذها سلَفه ضد الصين. ليس هذا فقط بل قام بتعميق هذه السياسات؛ فجعل سياسات القيود التجارية والتكنولوجية جزءاً من سياسة أوسع تستهدف احتواء الصين، وإحاطتها بتحالفات أمريكية. في هذا الإطار تم تطوير تحالف أوكوس للدول الثلاث الناطقة بالإنجليزية، الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، كما قام بتنشيط الائتلاف الرباعي كواد، الذي يضم الهند واليابان وكوريا الجنوبية.
عكست هذه التطورات تزايداً في التوترات الدولية، حتى إن بعضهم اعتبرها دخولاً في حرب باردة جديدة. وتشير هذه التطورات إلى نهاية النظام الدولي الذي ساد في العشرية الأولى التالية لانتهاء الحرب الباردة، أو النظام الدولي الليبرالي القائم على العمل وفقاً لقواعد عكست رؤية العالم وعقيدة المنتصرين في مرحلة الحرب الباردة. وبعد أن كان توسيع نطاق العولمة وحرية التجارة والاستثمار ونشر الديمقراطية أهدافاً رئيسية للقوة العظمى المهيمنة، أصبح التصدي للتحدي الصيني هو الهدف الأهم، وأصبح السؤال الذي يشغل العالم هو: هل من الممكن لصعود الصين أن يتم بطريقة سلميةأم لا؟
لقد أسهمت الولايات المتحدة في إضعاف النظام الدولي الليبرالي عندما تحدت قواعد عمل النظام الدولي، وذهبت لاحتلال العراق دون تفويض من الأمم المتحدة، مذكرة العالم بأن القانون الدولي ليس للتطبيق على الكبار. الصين وروسيا يغيران النظام الدولي، لكنْ كلٌّ على طريقته. ففي حين تبني الصين قوة اقتصادية وعسكرية كبرى بشكل تدريجي لكنه سريع، تغير روسيا النظام الدولي بالصدمات وباستخدام القوة المسلحة. وبينما لم يحارب الجيش الصيني ولا معركة كبيرة واحدة منذ عام 1979 أثناء الحرب الصينية – الفيتنامية، حارب الجيش الروسي في جورجيا عام 2008، وحارب في أوكرانيا عام 2014، ويحارب في سوريا منذ عام 2015، وتحارب وحدات منه بشكل غير رسمي في ليبيا والساحل الأفريقي فيما عرف بمجموعة فاغنر.
وفيما تعمل الولايات المتحدة على إطالة لحظة انفرادها بصدارة النظام الدولي الأحادي القطب، فإن الصين وروسيا تسعيان لإقامة نظام دولي يقوم على تعدد الأقطاب. لقد تعززت العلاقات بين روسيا والصين، وعبرت القمة الروسية الصينية التي انعقدت قبل أسابيع قليلة من بدء الحرب في أوكرانيا عن التقارب المتزايد بين القطبين، وعن تعاون استراتيجي واسع النطاق وبعيد المدى بينهما.
ماذا غيرت الحرب الأوكرانية؟
هناك عدد من الاتجاهات المهمة التي ولدتها الحرب الأوكرانية، والتي يرجح لها أن تمثل أجزاء من الواقع السياسي والأمني الدولي في المرحلة التالية. ويقتصر التركيز في هذا القسم على التغيرات الهيكلية التي تمثل عناصر أساسية في النظام الدولي الراهن، والتي يمثل تغيرها إيذاناً بتغيرات في هذا النظام.
صدمة الثقافة الأمنية الأوروبية
لقد اجتاحت الدبابات بلداً أوروبياً، وقصفت الطائرات والصواريخ أهدافاً في مدنها، وشهد العالم صوراً لمبانٍ سكنية ومنشآت مدنية مدمرة، بالإضافة إلى حطام الطائرات والدبابات على مشارف المدن الأوكرانية وداخلها. لقد خرج مئات الآلاف من النازحين واللاجئين من مدنهم في أوكرانيا، وانتقلوا إلى مناطق بعيدة عن القتال، أو عبروا الحدود باتجاه جيران أوكرانيا الغربيين. لقد شهد الأوروبيون شيئاً من هذا من قبل وأثناء حروب تفكك يوغوسلافيا السابقة. لكن الحروب اليوغسلافية كانت حروباً أهلية بين جماعات عرقية، تدخلت فيها قوى خارجية لوضع حد للفظائع والمعاناة الإنسانية التي صاحبتها، وذلك على عكس ما يحدث اليوم في أوكرانيا، حيث تقوم دولة كبرى بمهاجمة دولة جارة صغيرة، متسببة في مأساة سياسية وإنسانية.
لقد تكوَّن لدى الغرب خلال الأعوام الثلاثين الماضية شعور بالأمن والحصانة، وكف الناس عن التفكير في الأمن بالمعاني التقليدية التي سادت العالم حتى نهاية الحرب الباردة، فراح الأكاديميون والمثقفون يعيدون تعريف معنى الأمن ونطاقاته، مركِّزين على مفاهيم الأمن الإنساني، حيث لم تعد الدولة هي مناط الأمن في الثقافة الأمنية الأوروبية الجديدة، وترافق مع ذلك نمو مشاعر مناقضة للقومية والوطنية والرايات والرموز المرتبطة بالدولة، ولم تعد الجيوش مصدراً للفخر، وأصبح ينظر للدولة على أنها كومنولث للرفاهية المشتركة، وليست تعبيراً عن جماعة وهوية وطنية، وأعيد تعريف المواطن وحقوقه، وارتبط بهذا نقاش كبير حول الهجرة واللجوء وحقوق المهاجرين واللاجئين، وعن حدود الحقوق الحصرية التي يتمتع بها المواطن في مواجهة المهاجر واللاجئ، والأساس الأخلاقي للتمييز بينهما في الحقوق. صحيح أن هناك تيارات شعبوية وقومية ويمينية تتصدى لهذه الرؤى وتقاومها، إلا أن هذه القيم المستحدثة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ثقافة مؤسسات سياسية رئيسية، خاصة المؤسسات فوق القومية.
لقد دخلت الثقافة الأمنية الأوروبية في مرحلة “ما بعد التهديدات العسكرية”، واعتقد كثير من الأوروبيين أن عصر الحروب والتهديدات العنيفة التقليدية قد انتهى، وأن العالم الأوروبي قد دخل مرحلة جديدة يهتم فيها بأولويات أمنية مختلفة، وهو الاعتقاد الذي دحضته الحرب الأوكرانية؛ ما سيترك آثاراً عميقة على السياسات الأمنية الأوروبية في السنوات المقبلة.
تغيير عميق في السياسة الخارجية والدفاعية الألمانية
ألمانيا هي البلد الأوروبي الأكبر، وهي البلد الذي أسهم أكثر من غيره من البلدان الأوروبية في صياغة الثقافة والسياسات الأمنية الأوروبية في المرحلة المنقضية منذ انتهاء الحرب الباردة. لقد كانت هناك دائماً الرؤية الأمريكية للأمن الأوروبي، وهي الرؤية التي غلب عليها الحزم والتأكيد على أهمية التهديدات العسكرية وضرورة الاستعداد للتصدي لها، وهي الرؤية التي عارضتها ألمانيا، استناداً إلى مزايا الاشتباك البناء والمراعاة المتبادلة وتبادل المنافع والاعتماد المتبادل في إدارة العلاقات بين الدول.
لقد أجبرت الأزمة الأوكرانية ألمانيا على التخلي عما يمكن اعتباره من محرَّمات السياسة الخارجية الألمانية؛ فقد تخلت ألمانيا عن مبدأ عدم تقديم الأسلحة إلى الأطراف في مناطق الصراع، كما وافقت على إخراج روسيا من نظام “سويفت” البنكي الذي يتم من خلاله تنفيذ التحويلات البنكية وتسويتها. وعندما تقوم ألمانيا بتنفيذ هذه الخطوات فإنها تغادر سياسة عمرها عقود عدة تقوم على أخذ المصالح الروسية في الاعتبار، وتعميق المصالح المتبادلة بين البلدين. وتعكس هذه الإجراءات موقفاً أصبح يلقى تأييداً واسع النطاق في أوساط التيار الرئيسي في المجتمع الألماني، وهو التيار المطالب بقيام ألمانيا بكل ما يلزم لفض الارتباط مع روسيا.
الخطوة الأكثر راديكالية تمثلت في قرار الحكومة الألمانية بزياد الإنفاق الدفاعي فوراً بما قيمته مئة مليار يورو، على أن يتم تخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي في السنوات التالية. لقد اتخذت هذا القرار حكومة ألمانية من تحالف اليسار ويسار الوسط الذي كان تقليدياً الأعلى صوتاً في معارضة التسلح، والأكثر تأييداً لسياسة دمج روسيا. لقد لاقى هذا التحول في السياسة الدفاعية الألمانية تأييد حزب المعارضة الرئيسي -الحزب الديمقراطي المسيحي، بحيث أصبحنا إزاء إجماع وطني عابر للأيديولوجيات في ألمانيا.
استنفار وتعزيز تماسك التحالف الغربي
لقد أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى استنفار الدول والمؤسسات الغربية ذات الصلة، وتعزيز التماسك في أهم تنظيمين تنتظم في عضويتهما الدول الغربية: حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي. وفي اليوم التالي للغزو أصدرت قمة حلف الأطلسي بياناً قوياً ينبئ بأن الحلف اختار مواجهة الاعتداء الروسي. ومن أهم الفقرات التي جاءت في بيان الحلف أن “قرار الرئيس بوتين بالهجوم على أوكرانيا خطأ استراتيجي فادح ستدفع روسيا ثمناً باهظاً له اقتصادياً وسياسياً لسنوات مقبلة”، لقد تم إصدار هذا البيان عن اجتماع شارك فيه الاتحاد الأوروبي، وهو منظمة تتمسك بطبيعتها ومهامها غير العسكرية، كما شاركت فيه دول غربية محايدة من غير أعضاء حلف الأطلسي، وهما السويد وفنلندا، في إشارة إلى وطأة الاستفزاز والتهديد الذي شعرت به الدول الغربية، والذي دفعها للانحراف عن سياساتها المستقرة لسنوات، من أجل اتخاذ موقف قوي، يتضامن بمقتضاه بعضها مع بعض ومع الشعب الأوكراني ضد الغزو الروسي.
وأكدت قمة حلف الأطلسي الالتزام الدفاعي للحلف تجاه أعضائه، وقررت نشر قوات إضافية في القسم الشرقي من المناطق التي تغطيها التزامات الحلف، بحيث باتت حدود الحلف الشرقية محصنة عسكرياً بكثافة شديدة، من أجل تأكيد قوة ردع الحلف وتعزيز دفاعاته، في تكرار لصورة قديمة كانت قد اختفت من القارة الأوروبية منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
ليس لحلف الأطلسي التزام دفاعي تجاه أوكرانيا، فالأخيرة ليست عضواً في الحلف، لهذا فإنه سوف يكون على أوكرانيا أن تدافع عن نفسها بمفردها، لكن دول أعضاء حلف الأطلسي، بالإضافة إلى الدول الأوروبية من غير أعضاء الحلف، بادرت بتقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا، وهو موقف شديد الخطورة والحساسية، بسبب ما قد يحدث من أخطاء أو سوء تقدير أو فهم يؤدي إلى مواجهة عسكرية بين روسيا والأطلسي.
تراجع الاعتماد الاقتصادي المتبادل
منذ سقوط جدار برلين عام 1989 وهناك عملية متواصلة لتعزيز العلاقات الاقتصادية بين روسيا والغرب. لقد اختفت الكتلة الشرقية أعضاء حلف وارسو التي ركز الاتحاد السوفيتي على التجارة معها قبل سقوط جدار برلين، وكان على روسيا الاتحادية البحث عن أسواق جديدة، فكانت الأسواق الأوروبية والصينية هي أهم الوجهات المفضلة للتجارة الروسية.
وعلى عكس سياستها الخارجية الشديدة الاستقلالية، فإن روسيا اقتصادياً على درجة عالية من الاعتماد المتبادل مع العالم؛ فتجارة روسيا الخارجية تمثل 46.7% من ناتجها المحلي الإجمالي، وهي النسبة الأعلى بين الدول التي تحتل قمة النظام الدولي، إذ تبلغ هذه النسبة في الصين 34.5%، فيما تبلغ في الولايات المتحدة 23.5%. ويمكن اعتبار هذه الحقائق إحدى مفارقات الوضع الدولي الراهن؛ فالولايات المتحدة التي تقود النظام الاقتصادي الدولي هي أقل الدول الكبرى اندماجاً فيه، فيما تُعَدُّ روسيا التي تمثل أحد عناصر مقاومته هي الأكثر اندماجاً فيه بكثير، ولأن الاندماج يخلق تبعية، فإن روسيا تبدو أكثر تبعية للنظام الاقتصادي الدولي من الصين والولايات المتحدة.
الأهم من هذا هو أن الشركاء الغربيين يمثلون الشركاء الخارجيين الأهم للاقتصاد الروسي، فدول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا تستقبل 45.8% من الصادرات الروسية، أما فيما يتعلق بالواردات الروسية، فإن دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا هي المصدر لما نسبته 38.2% من واردات روسيا.
وعليه، فإن التأزم في العلاقة بين روسيا والغرب سيضع حداً للاعتماد الاقتصادي المتبادل. لقد وقّعت الدول الغربية عقوبات صارمة على روسيا، واستهدفت بالأساس النظام المصرفي، الذي من خلاله يتم تنفيذ صفقات التجارة والمال بين روسيا والعالم. فتمت مصادرة أصول لبنوك روسية رئيسية، كما تم إخراج روسيا من خدمات نظام السويفت. وباستثناء صادرات النفط والغاز والفحم وغيرها من مصادر الطاقة، فإن قدرة روسيا على مواصلة التعاون التجاري مع العالم قد تأثرت بشدة، خاصة بسبب وقف رحلات الطيران وبعض الصعوبات التي تواجهها سفن روسية في مواني العالم.
والأهم من ذلك أن الدول الأوروبية، التي تعتمد بشدة على وارداتها من الطاقة الروسية، قد شرعت في البحث عن نظام جديد لتأمين مصادر الطاقة، وقد تم وضع هذه القضية رسمياً على جدول أعمال الاتحاد الأوروبي بعد أن كانت قضية الطاقة خارج نطاق اهتمام الاتحاد، إذ كانت قضية الطاقة متروكة لكل دولة على حدة لتهتم بها بالطريقة التي تناسبها، وقد زادت الضغوط الواقعة على أوروبا لإعادة النظر في سياسات الطاقة بعد أن قامت إدارة الرئيس الأمريكي بايدن بمنع استيراد مصادر الطاقة من روسيا.
البُعد الصيني
نشبت الحرب الأوكرانية على خلفية نظام دولي يتسم بالتوتر المتزايد بين الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى المهيمنة، والصين القوة العظمى الصاعدة والمتحدية. الصراع بين هاتين القوتين هو السمة النظامية الأهم المميزة للنظام الدولي الراهن، فبينما تواصل الصين إغلاق الفجوة بينها وبين الولايات المتحدة، شرعت الثانية في السنوات الأخيرة في التضييق على الصين، والعمل على حرمانها من الموارد والتسهيلات التي تمكّنها من تعظيم قوتها، كما بدأت في تكوين تحالفات ذات طابع عسكري بهدف احتواء الصين، وفي هذا السياق تم تطوير الاستراتيجية الأمريكية المتعلقة بمنطقة المحيطين الهندي والهادي، التي نشرها البيت الأبيض في فبراير 2022، قبل أيام قليلة من اندلاع الحرب الأوكرانية.
الولايات المتحدة والصين قوتان عُظمَيَان، تتمتع كل منهما بهيكل موارد قوة متوازن، يجمع بشكل مناسب بين الموارد الطبيعية والصناعة والقوات المسلحة والتكنولوجيا والابتكار والعلم، وإن كانت الولايات المتحدة تتفوق بمراحل كثيرة في موارد القوة الناعمة. على الجانب الآخر تتسم روسيا بعدم توازن عناصر قوتها، فبرغم أنها تتمتع بجيش هو الثاني على مستوى العالم، فإنها لا تمتلك اقتصاداً متنوعاً يناسب مكانتها كقوة كبرى، وتعاني أوجه نقص فيما يخص التطوير التكنولوجي والابتكار، وتعتمد على تصدير المواد الأولية.
لقد نمت العلاقات بين الصين وروسيا بسرعة خلال العقدين اللذين حكم فيهما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، غير أن العلاقات بينهما أخذت دفعة كبيرة منذ عام 2014. لقد زاد التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا بعد أن ضمت الأخيرة شبه جزيرة القرم، فيما كانت واشنطن تتخذ خطوات جادة نحو تنفيذ استراتيجية التموضع تجاه آسيا.
تشترك روسيا والصين في اعتبار الولايات المتحدة التهديد الأول لهما، الأمر الذي يجمع البلدين، وإن كانا يختلفان في قضايا كثيرة أخرى. السيناريو الأسوأ في الأزمة الأوكرانية هو دخول الصين على خط الأزمة، عبر وقوفها إلى جانب موسكو، أو قيامها باستغلال الفرصة لتنفيذ هجوم عسكري ضد تايوان بغرض إلحاقها وضمّها. لقد تصرفت الصين بطريقة معتدلة وحذرة، وجنبت نفسها التورط في مغامرات روسيا. فقد امتنعت الصين عن التصويت في مجلس الأمن لإدانة الغزو الروسي، وهو ما يمكن اعتباره موقفاً وسطياً، أرضى الغرب، ولم يغضب موسكو تماماً. ورفضت الصين فرض العقوبات على روسيا، كما رفضت اعتبار العمل العسكري الروسي ضد أوكرانيا غزواً، لكنها بالمقابل لم تمارس حق النقض ضد قرار مجلس الأمن، وهو القرار الذي أسقطه الفيتو الروسي في أي حال، كما تحدث وزير خارجية الصين هاتفياً مع نظيره الأوكراني بناء على اتصال من الأخير، وفي الاتصال أسف المسؤول الصيني لتطورات الوضع في أوكرانيا، وأكد المبادئ التي تتمسك بها الصين، والمتمثلة في احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وفي أن تحقيق أمن أحد الأطراف يجب ألا يكون على حساب أطراف أخرى، ورفض الأحلاف العسكرية.
إن التشابه بين الموقفين في أوكرانيا وتايوان لم يفت المتحمسين في الصين؛ فدعَوا على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية الحكومة في بكين إلى استغلال الفرصة للتحرك ضد تايوان، لكن وسائل التواصل الاجتماعي الصينية هي في جانب كبير منها موجَّهة من جانب سلطات الدولة والحزب، بما يشير إلى أن الصين تمشي على حبل مشدود في هذه الأزمة، فوسائل الإعلام الصينية، وكلها مملوك للدولة، وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي الصينية تروّج بين مواطنيها مواقف نقدية للغرب وتظهر تعاطفاً مع روسيا. على الجانب الآخر، فإن الصين تحرص في مواقفها الرسمية على الالتزام بموقف أكثر توازناً، يتفهم المطالب الروسية، ولا يرحب برد الفعل الغربي ضد روسيا، لكنه لا يذهب إلى حد إثارة عداء الغرب. كما أن الصين تتعاطف مع أسباب قلق روسيا الأمنية، وتعتبرها مخاوف مشروعة، لكنها تتحفظ على النزعات التاريخية العرقية في السياسة الروسية، وترفض استخدام القوة لحل المشكلات بين الدول.
إن الصين ترى عناصر إيجابية من وجهة نظرها في الموقف الروسي المتحدي للغرب، وترى روسيا شريكاً مهماً يتبنّى مبادئ مشابهة للمبادئ التي تتبنّاها الصين أيضاً، خاصة احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وحق الدول في اختيار نظام الحكم الذي يناسبها، وأن الديمقراطية الليبرالية ليست النظام الأفضل الذي على كل الدول تطبيقه. وعلى الجانب الآخر فإن الصين تتحفظ على دفاع روسيا عن الأقليات الروسية في بلاد أخرى، فالصين تتجنب إثارة قضية العرق والهوية العرقية في سياستها الخارجية، فهي لا تدّعي تمثيل كل الصينيين في آسيا والعالم، وترفض تدخل أي دولة لصالح أقليات عرقية داخل الصين، فالصين لا تقيم سياساتها الخارجية على أساس من مصلحة العرق الصيني، بل مصلحة الدولة الصينية.
إن العلاقة الصينية – الروسية علاقة استراتيجية، والأرجح أن الصين ستحرص على مساعدة روسيا للخروج بأقل قدر من الخسائر في هذه الأزمة؛ لأن خسارة روسيا في هذه المعركة، تعني وقوف الصين وحيدة بلا حلفاء في وجه الولايات المتحدة والغرب.
أي مستقبل للنظام الدولي؟
إن التطورات التي جرت مناقشتها آنفاً سوف تترك آثاراً عميقة على النظام الدولي. لقد حدث تبدل كبير في التحالف الغربي. فمشهد الغرب المفكّك الضعيف الذي ساد قبل الحرب يختلف جذرياً عن الغرب المتأهب المتضامن لاتخاذ قرارات مكلفة لكنها ضرورية لمعاقبة روسيا بسبب العدوان على أوكرانيا. فبدلاً من الاسترخاء والإحساس بالأمن، وتجاهل الاستعداد العسكري، والانشغال بالتعاون الاقتصادي العابر للحدود، تكوّن في الغرب شعور قوي بالتهديد، وحدثت عملية إعادة تقدير لأهمية الجيوش والقوة المسلحة، وتم تحويل الاقتصاد والعلاقات الاقتصادية إلى سلاح، وأعيد اكتشاف قيمة الاكتفاء الذاتي في الغذاء والطاقة ونظم وشبكات التبادل المالي والتجاري.
تمثل هذه التطورات عكساً للاتجاه الذي ساد خلال العقد الأخير، حيث كان تراجع الغرب وانقسامه وافتقاده الحسم والحزم هو الانطباع السائد، خاصة بسبب الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي، وخروج بريطانيا منه، والخطوات الأمريكية المتتالية للتخفف من التزاماتها تجاه حلفائها، ودعوتهم إلى حمل النصيب الأكبر في الدفاع عن أنفسهم. فالانسحاب الأمريكي من أفغانستان، خاصة الطريقة غير المنظمة التي تم بها هذا الانسحاب، رسخ انطباعاً عن الولايات المتحدة الأمريكية كبلد يحكمه رئيس مُسِنّ محروم من الكاريزما، يهرول بعيداً عن مناطق الصراع ويفر من المواجهة، الأمر الذي شجع خصوم الولايات المتحدة على التمدد، وربما تُظهر الوثائق لاحقاً أن مشهد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان كان في خلفية تفكير الرئيس بوتين عند اتخاذ قرار الهجوم على أوكرانيا.
ومن الناحية النظرية، يتكون النظام الدولي من بُعدين أساسيين: الأول هيكل توزيع القدرات بين الفاعلين الرئيسيين في النظام، والثاني طبيعة العمليات والعلاقات بين هؤلاء الفاعلين، بما في ذلك العمليات والتفاعلات الرئيسية الجارية في قنوات النظام ومؤسساته. وفي الواقع لقد حدث تغيير كبير في البُعدين، بما يؤشر إلى اتجاه النظام الدولي للانتقال نحو مرحلة جديدة، وإن كان التغير الحادث في البُعد الخاص بطبيعة التفاعلات الجارية بين القوى الكبرى أكثر أهمية بكثير حتى هذه اللحظة.
التغير في هيكل توزيع القدرات
الأزمة الدولية الراهنة هي مواجهة بين روسيا من ناحية والغرب بقيادة الولايات المتحدة من ناحية أخرى. يتعرض الطرفان الغربي والروسي لضغوط كبيرة في هذه الأزمة، وإن كانت الضغوط التي تتعرض لها روسيا أكبر كثيراً من الضغوط التي يتعرض لها الغرب. وقد اتخذ الغرب قراراً بدعم أوكرانيا والضغط على روسيا، وهو يعاقب روسيا بحرمانها من الوصول إلى الأسواق والموارد المالية والاقتصادية والتكنولوجية الغربية. المعضلة أن كل قرار عقابي يتخذه الغرب ضد روسيا له تكلفة تتحمله اقتصادات الدول الغربية نفسها. ويحاول الغرب تجنب تحميل نفسه تكلفة تزيد على طاقته بينما هو يحاول معاقبة روسيا. لهذا تجنب فرض قيود على صادرات الطاقة الروسية للاتحاد الأوروبي. وباستثناء القرار الأمريكي – البريطاني بحظر استيراد منتجات الطاقة الروسية، فإن إمدادات الطاقة الروسية لأوروبا بقيت على حالها، وهو ما يعفي روسيا من أكثر أشكال الضغط الاقتصادي الذي يمكن أن تتعرض له.
إن التغير الأهم في مجال القدرات يتعلق بالقرارات التي اتخذتها حكومات غربية لزيادة الإنفاق الدفاعي وزيادة حجم القوات المسلحة، ويتجه الغرب إلى اتباع سياسات تعبوية، وحشد موارده من أجل تعزيز قوته العسكرية، والأرجح أن يخرج الغرب من هذه الأزمة ولديه قدرات عسكرية أكبر مما كان لديه قبل الحرب.
على مستوى آخر، فقد منحت الحرب الأوكرانية للغرب الفرصة لبث الحيوية والتماسك في مؤسساته العسكرية والاقتصادية، حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. فبعد سنوات من التعثر وتراجع الفاعلية، وجدت الدول الغربية في المؤسستين إطاراً مناسباً لتنظيم وتنسيق رد الفعل الغربي المشترك ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، من خلال تعزيز التضامن الغربي، ودعم المؤسسات التي تجسد هذا التضامن وتعضيد قدرة الدول الغربية على التنسيق بينها.
إن كل هذه التطورات تسهم في تعزيز قوة الكتلة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة في مواجهة القطبين الدوليين البازغين؛ الصين وروسيا. والتحدي الأهم الذي يواجه الغرب في هذا المجال هو إذا ما كانت دول التحالف الغربي تستطيع الحفاظ على هذا القدر من الوحدة لفترة طويلة، وأن الاختلافات الموضوعية بين السياسات المختلفة التي تتبعها الدول الأوروبية لتوفير احتياجاتها من الطاقة لن تؤدي إلى ظهور انقسامات سريعة في التحالف الغربي، وسيكون من الممكن توزيع أعباء الغزو الروسي لأوكرانيا وتكلفة مواجهته بشكل عادل بين الدول الغربية، بحيث يمكن الحفاظ على تماسك الكتلة الغربية وفعاليتها لفترة أطول.
التغيّر في تفاعلات النظام الدولي
التغير الأهم الحادث في النظام الدولي هو تغير طبيعة العمليات والتفاعلات الجارية في النظام الدولي. فبدلاً من التركيز على النمو الاقتصادي أصبح التركيز على الأمن والتسلح، وبدلاً من التبادل التجاري وحركة الأموال العابرة للتكتلات السياسية، أصبح هناك جدار عازل يزداد ارتفاعه بسرعة بين روسيا والغرب.
خاتمة: النظام الدولي.. في أي اتجاه؟!
لقد قدم لنا “كوفيد – 19” فرصة مصغرة لتفهم أثر الأزمات على النظام الدولي، ففي عام 2019، وبينما كانت الصين والولايات المتحدة مشتبكتين في حرب تجارية، وفيما كان الغرب يفرض عقوبات مخففة ضد روسيا بسبب ضمها شبه جزيرة القرم وتشجيعها انفصاليين أوكرانيين عام 2014، اجتاح وباء “كوفيد – 19” العالم دون تمييز. كانت هناك لكل دول العالم مصلحة مشتركة في التعاون لمواجهة الوباء، ولكن بدلاً من ذلك فقد تحول الوباء إلى محفز لتعميق الخلافات الدولية، ولتسريع عملية الخروج من النظام الدولي الليبرالي المحكوم بقواعد، إلى نظام دولي تحكمه الخصومات الاستراتيجية، وبما يؤكد أن الخصومة الاستراتيجية بين القوى الكبرى هي تطورات أصيلة وبعيدة المدى.
السيناريو الأرجح هو أن الأزمة الأوكرانية الراهنة ستمارس أثرها في اتجاه تأثير أزمة “كوفيد – 19” نفسه، وأن الخصومة الاستراتيجية بين القوى الكبرى ستتعمق، وتصبح أكثر حدة، بحيث يصبح اللجوء لاستخدام القوة في العلاقات الدولية أكثر شيوعاً، فيما سيتراجع الاعتماد الاقتصادي المتبادل والانتقال غير المقيَّد للتكنولوجيا بين الدول والتكتلات الدولية، في عالم تتزايد فيه درجة الاستقطاب. هذا هو المسار البعيد المدى المرجح لتطور النظام الدولي، غير أن هذا لا ينفي وجود تعرجات في هذا المسار، وهي التعرجات التي تعكس مصالح خاصة وجزئية لبعض الأطراف، وبعض الاعتبارات التكتيكية الواجب أخذها في الاعتبار.
ففي إطار المسار العام المرجح لتطور النظام الدولي نحو مزيد من الاستقطاب، ستكون هناك قضايا فرعية تشكل الصورة التفصيلية للمسار الذي ستأخذه الأحداث، ومن أهم هذه القضايا:
1. أين ومتى ستقرر روسيا وقف تقدم جيوشها؟ وما الصيغة التي ستقدمها لإنهاء الأزمة؟
2. كيف ستتفاعل الصين مع هذه الأحداث؟ وإلى أي حد ستكون مستعدة لمساعدة روسيا، وتوظيف الأزمة في القارة الأوروبية لصالحها؟
3. إلى أي مدى سينجح التحالف الغربي في الحفاظ على تماسكه، خاصة في ظل الاعتماد الأوروبي الكثيف على مصادر الطاقة المستوردة من روسيا؟
4. إلى أي مدى ستتواصل المقاومة الأوكرانية؟
5. ما الأثر الذي ستتركه العقوبات على روسيا، وهل يمكن أن تؤدي إلى تغيير سياسي