للوهلة الأولى، كان يبدو أن إسرائيل وأجهزة الأمن التابعة لها، جاهزة إزاء أي تصعيد قد يحدث في شهر رمضان، لكثرة التقديرات والتوقعات التي تم نشرها في الإعلام، وتنذر بتصعيد مرتقب. إلّا إن "موجة" العمليات الأخيرة التي حدثت في فلسطين فاجأت أجهزة الأمن الإسرائيلية، لأسباب عدة تتعلق بشكل هذه العمليات وأبعادها ومواقعها، بالإضافة إلى حقيقة أن عمليتين من أصل ثلاث عمليات حدثت، نُفِّذت على يد فلسطينيين من أراضي الـ 48، وهي الجبهة التي لم تتوقعها إسرائيل، في الوقت الذي كان الحديث يدور عن القدس والمسجد الأقصى، كمركز للتصعيد في شهر رمضان. وعلى الرغم من عدم وجود أي رابط تنظيمي بين العمليات الثلاث، فإنها شكلت، سوياً، ما سُمِّي إسرائيلياً "موجة"، كما فتحت الباب أمام عدة أسئلة ترتبط بالحالة الفلسطينية وأبعادها المختلفة وتركيبها في ظروف راهنة بات فيها النظام السياسي الفلسطيني الرسمي يعيش حالة من الموت السريري، من دون أي استراتيجيا وطنية شاملة قادرة على التعامل مع هذه الظروف.
عمل فني، حنين نزال، 2022
شكّلت موجة العمليات تحدياً كبيراً للطرفين: الإسرائيلي، بسبب طبيعتها وشكلها الذي ميّز ولا يزال يميز الحالة الفلسطينية ما بعد الانتفاضة الثانية، بالإضافة إلى كون المنفّذين من حمَلة الهوية الزرقاء في أراضي الـ 48؛ والفلسطيني، بسبب هوية المنفّذين في عمليتيْ النقب والخضيرة، إذ ربطتهم علاقة سابقة بتنظيم "داعش"، ونية للانضمام إلى صفوف التنظيم في سورية وغيرها من مناطق انتشاره سابقاً، بحسب الرواية الإسرائيلية.
العمليات الفردية وسؤال "المحاكاة"
لا توجد أي علاقة تنظيمية بين العمليات الثلاث التي حدثت في فلسطين، هذه حقيقة يتحدث عنها الإعلام الإسرائيلي علانية. فالعملية الأولى في بئر السبع تم تنفيذها بصورة فردية، الأداة كانت سكيناً، ولم يشارك منفّذها مخططاته مع أي شخص كما يبدو، وخلفيته إسلامية، وكان قد أراد الانضمام إلى داعش سابقاً؛ العملية التي نفّذها شابان من أم الفحم في الخضيرة، كانت بأسلحة حديثة، وبكميات كبيرة جداً من الذخيرة، ويبدو أن هناك مَن ساعد ومدَّ بالسلاح، استناداً إلى ما تم نشره في الإعلام الإسرائيلي ووجود سيارة، وهم أيضاً لهم علاقة بتنظيم "داعش" في وقت سابق، وتمت محاكمتهم؛ أمّا العملية الثالثة، فنفّذها الشاب الفلسطيني ضياء حمارشة، من قرية يُعبد بالقرب من جنين، وهو أسير محرَّر، عامل في ورشات البناء، قال والده إنه تعرّض لضغوط كثيرة وحواجز، يُضاف إليها اعتداءات المستوطنين وظروف الواقع. وباختصار: العمليات الثلاث لم تكن منسّقة، كما لا توجد حالة جارفة. وعلى الرغم من ذلك، فإن إسرائيل أعلنت عبر الإعلام أنها تحارب "موجة إرهابية"، وتتوقع الكثير من العمليات، وأعلنت في نهاية المطاف ما يُسمى "كاسر الأمواج"، كعملية عسكرية للمواجهة نشرت من خلالها وحدات قتالية في الضفة، كما نشرت الجيش في القدس ليساند الوحدات الشرطية الموجودة هناك. وباختصار: تمت صناعة حالة تأهُّب أمني وصلت إلى رفع حالة الطوارئ القصوى في الشرطة، بالإضافة إلى توجّه من رئيس الحكومة إلى المواطنين بحمل السلاح.
جاءت هذه العمليات الثلاث في ظرف مركّب جداً على الصعيد الإسرائيلي ولأسباب عدة تتعلق أولاً بنوعية العمليات، وثانياً بالسياسة الإسرائيلية الداخلية، وثالثاً بسبب شهر رمضان وعيد الفصح اليهودي: أولاً، شكّل مقتل 11 إسرائيلياً في العمليات الثلاث التحدي الأساسي أمام ما درج على تسميته إسرائيلياً بـ"المحاكاة"، وهو مصطلح درج بعد بدء موجات العمليات الفردية التي انطلقت في فلسطين منذ سنة 2015، ويُفترض أن أي عملية "ناجحة" ستدفع بآخرين لمحاكاتها، وهو ما أرادت إيقافه أولاً؛ ثانياً، السلاح الحديث المستعمل في هذه العمليات وسهولة الوصول إليه، وبصورة خاصة في أراضي الـ 48، حيث كان انتشار السلاح واسعاً أعواماً طويلة، ولطالما كان موجهاً إلى حرب الإجرام الداخلي وصدور العرب؛ وثالثاً، بسبب وجود شخصية كنتنياهو ومعسكره اليميني المتطرف في المعارضة، وهو ما يجعل الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي يشارك فيها حزب عربي للمرة الأولى، وتحكم فيها أحزاب ما يسمى بالـ "يسار- مركز"، أمام حالة تحريض لم يسبق لها مثيل، ذكّرت كثيراً بفترة العمليات خلال مفاوضات "أوسلو" ومقتل رابين لاحقاً، وسط تحميلها وتحميل سياساتها مسؤولية العمليات، ووضع إمكانية وقف الموجة محلّ سؤال بسبب تركيب الحكومة الحالية. أمّا العامل الإضافي الذي زاد في تركيب العمليات إسرائيلياً، فهو مشاركة اثنين من أراضي الـ 48 بالعمليات، وهو ما طرح السؤال الإسرائيلي الذي بدأ مع هبّة أيار/مايو، عمّا يسمى "فصل الجبهات" والدور الذي سيؤديه الفلسطيني في أراضي الـ 48 في حال نشوب حرب إسرائيلية على أيّ من الجبهات، على الرغم من الاختلاف الكبير بين ما حدث خلال هبّة أيار/مايو، وبين ما حدث في العمليات الأخيرة. وفي الحقيقة، فإن ربط الجبهات هذا، جاء بسبب سيطرة إسرائيل على كل الأراضي الفلسطينية التاريخية وانعدام أي أفق سياسي لمنطقة من مناطق الوجود الفلسطيني.
رد الفعل: حملة انتقام مضبوطة
نمط العمليات الفردية، أو "منطق الهبّات"، هو المنطق المسيطِر في فلسطين ما بعد الانتفاضة الثانية. وهو عبارة عن حالة يقوم فيها فلسطيني بأخذ زمام المبادرة وتنفيذ عملية من دون تخطيط مسبق في أغلب الأحيان، ومن دون قرار تنظيمي أو سياسي. هذا النمط من العمليات أو الحالات، يشتق بالأساس من حقيقة الاحتلال: منظومة السيطرة الإسرائيلية اليومية على كافة مناحي الحياة الفلسطينية: الحركة، والحصار، والاعتداءات المستمرة، وكذلك الإعدامات الميدانية. هذا في الوقت الذي يعيش المشروع الوطني الفلسطيني حالة من الشلل أو الموت السريري، من دون أي أفق سياسي أو استراتيجيا وطنية وسياسية شاملة تضع حداً لهذا الجحيم، أو تنذر بحلّ في الأفق. لذلك، لا يمكن قراءة نمط "العمليات الفردية" إلاّ من خلال قراءة المزيج المسيطِر على الحالة الفلسطينية: شلل سياسي داخلي، وانفلات استعماري في الوقت ذاته. على الرغم من أنه نتاج ما أرادته إسرائيل وسعت له من أجل تفكيك البنى السياسية الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس تحديداً، فإن له جوانب أُخرى أكثر خطورة، وفي مقدمها التحدي الأمني في العمل مقابل أفراد من دون بنية تنظيمية واضحة ومتماسكة لها هيكليتها وكوادرها ورسالتها وقرارها المركزي. وهذا ما تؤكده العمليات الأخيرة، كما أكدته العمليات التي سبقتها: صعوبة، وحتى استحالة الوصول إلى المنفّذ، قبل اتخاذ قراره والسعي فيه. وهو أيضاً ما يؤكده مسؤول سابق في "الشاباك" بالقول إنه "على الرغم من غرابة ما سأقول، فإن العمل مقابل بنى منظمة أسهل بكثير من حالة العمليات الفردية".
ومن هنا، فإن ما يسمى إسرائيلياً "موجة" وانتشارها، استناداً إلى منطق "المحاكاة"، هو أمر لا يتعلق بالقمع الجماعي للفلسطينيين بالقدر الذي يتعلق بعمليات وأفراد فلسطينيين بقرار ذاتي. لكن الظروف الموضوعية التي جاءت خلالها العمليات، وخصوصاً تلك التي تتعلق بوجود نتنياهو في المعارضة، ووجود بينت اليميني المتدين على رأس حكومة "وسط- يسار"، بمشاركة الحركة الإسلامية الجنوبية، وسط دعوات كثيرة إلى تظاهرات ضد الحكومة يقودها معسكر اليمين المتدين الذي كان بينت حتى وقت قصير جداً زعيمه الواعد، دفع باتجاه ما أُطلق عليه عملية "كاسر الأمواج"، كردّ على العمليات. وفيها تم تعزيز شرطة "حرس الحدود" بـ 300 شرطي جديد، وإضافة 1300 جندي احتياط إلى الشرطة لمساندتها. والحقيقة، إن هذه الحملة تبدو كتحضير لعملية قمع جماعي أكثر مما هي حملة لمواجهة "موجة عمليات"، وخصوصاً أننا في شهر رمضان، حيث التوتر في أعلى مستوياته، ليس بسبب العمليات، بل إنه يعود إلى حقيقة أن الفلسطينيين يخرجون في هذا الشهر إلى الحيز العام احتفالاً، بعد الصلاة أو الإفطار، للسيطرة على الحيز العام في القدس، وتحديداً في باب العامود، وكذلك الأمر بالنسبة إلى عكا وغيرها من المدن المحتلة في أراضي الـ 48، وإلى حقيقة أن هذا الوجود الفلسطيني يهدد ما يُسمى الـ"سيادة" الإسرائيلية في هذه المناطق: فرفع العلم الفلسطيني في باب العامود هو ذريعة للقمع؛ وكذلك فإن مسيرة كشفية هناك هي مناسبة للقمع؛ ووجود الشبان في مركز البلدة القديمة هو أيضاً مناسبة للقمع.
المعضلة الأساسية الإسرائيلية في هذا السياق تتركز على كيفية ضبط القمع: كيف يمكن تلبية مطالب المجتمع الداخلية بالانتقام، وقمع الفلسطينيين خلال رمضان في القدس وباب العامود تحديداً، وعدم دفع الضفة الغربية إلى الانفجار، أو ما يُسمى إسرائيلياً عدم "الدفع بالمجتمع الواسع إلى الحلقة"، والإبقاء على روتين حياة معين في ذات الوقت. وهو ما تم خطّه بالمناسبة خلال ولاية أيزنكوت وبداية هبّة السكاكين في سنة 2015، إذ يُعتبر النجاح الأكبر في تلك المرحلة، ليس في قمع الهبّة والعمليات فقط، بل في منع الاحتكاك في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية وعدم الدخول في مواجهة مع المجتمع الواسع في مناطق أ، وهو ما يُشار إلى أنه منع ولا يزال يمنع اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة. وباختصار: كيفية زيادة القمع بشكل حساس، يسمح باستمرار الوضع القائم. وهنا، من المهم الإشارة إلى تقارير إسرائيلية تقرّ بأن حالة الرعب الاجتماعي الإسرائيلي وموضوع الهبّة، تغذيها القيادات الأمنية ذاتها، وتبدو ذريعة ممتازة للحصول على ميزانيات في أوقات التصعيد أكثر مما هي حالة عامة، هذا بالإضافة إلى كونها ذريعة قمع جماعي، في واقع كل ما يقال عنه أنه "محاكاة" و"عمليات فردية".
"داعش" وحالة شلل فلسطيني
خلفية منفّذي عمليتيْ الخضيرة وبئر السبع وإدانتهم سابقاً بالانضمام إلى صفوف تنظيم "داعش" الإرهابي، أثارت حالة من البلبلة التي لم يسبق لها مثيل في أراضي الـ 48، لسببين: الأول والأساسي هو الموقف من "داعش" الذي استغلته إسرائيل جيداً لتبدأ بطلب الإدانات بشكل واسع جداً، وهو ما وضع المجتمع الفلسطيني في أراضي الـ 48 تحديداً، أمام حالة من الدفاع التلقائي عن النفس، ووضعهم جميعاً في موقف دفاعي غير منطقي ينم عن ضياع باطني خرج إلى السطح؛ الثاني، وهو السبب الذي كان في الخلفية، النية المبطنة لدى السلطات الإسرائيلية للانتقام من المجتمع في أراضي الـ 48 بسبب مشاركته في "هبّة أيار/مايو"، وما حدث في اللد وعكا وما يسمى "المدن المختلطة"، ولاحقاً باستمرار المواجهات خلال العدوان على غزة والقدس. في هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أنه بعد "هبّة أيار/مايو" بدأ العديد من الأصوات في الإعلام ومراكز الأبحاث الإسرائيلية، باعتبار الفلسطينيين في أراضي الـ 48 خطراً استراتيجياً على الدولة يجب معالجته فوراً. هذا بالإضافة إلى أن الانتقام والاعتقالات الإسرائيلية ما بعد الهبّة ما زالت مستمرة، وما زال العديد من الشبان في مراكز الاعتقال، من اللد إلى عكا، وصولاً إلى حيفا وأم الفحم. وهنا جاءت العمليات لتشكل إضافة لا يمكن الاستهانة بها إلى حالة القلق المسيطر بسبب مخططات الاحتلال ذاتها التي كُتبت في الصحف وتم التحريض فيها على منابر التلفزيون.
بين "داعش" كتنظيم إرهابي يعاني منه العرب قبل غيرهم في سورية ولبنان وفلسطين والعراق، وبين قضية فلسطين، مساحات شاسعة جداً. ويعيش هذا التنظيم حالة من الصراع أيضاً، ليس فقط مع الفصائل العلمانية في فلسطين، بل أيضاً مع فصائل الإسلام السياسي، إن كان في غزة أو في لبنان. ولجميع الفصائل في فلسطين والعالم العربي موقف واضح جداً من التنظيم وخطورته. إلّا إن بروزه في أراضي الـ 48، بحسب الرواية الإسرائيلية، وفي فلسطين عموماً، يزداد تركيباً بسبب الشلل والانقسام وانعدام الأفق الذي يعاني جرّاءه النظام الرسمي الفلسطيني بشقّيه في الضفة الغربية وقطاع غزة. وبصورة عامة، وفي الوضع الطبيعي، على منظمة التحرير الفلسطينية، بصفتها الإطار الفلسطيني الناظم، تحديد مَن يعمل تحت سقف قضية فلسطين، ومَن يخدم استراتيجية فلسطينية، ومَن تحتضنه فلسطين، ومَن يدفع قدماً بمصلحة فلسطين. أما وحالة الشلل هي المسيطر الأساسي على الجسد السياسي الفلسطيني، فإن خطورة ظواهر كظاهرة "داعش" تتخذ أبعاداً لا يمكن حصرها، وأهمها حالة البلبلة التي تثيرها، وبدت ظاهرة جداً للعيان، بين عمليات فردية من دون إطار سياسي باتت هي المسيطرة على الحالة، كما تمت الإشارة سابقاً في فلسطين، وبين عمليات أُخرى تبث البلبلة وتخلق واقعاً لا يعرف الفلسطيني فيه مَن يقاتل من أجله.