كانت العقوبات الأميركية التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية على إيران بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي في صيف 2018، من التشابك والتعقيد بحيث يكون من الصعب تجاوزها أو تجاوز تبعاتها في فترة قصيرة، وكانت التوقعات التي ترى بإمكانية إنجاز اتفاق مع إدارة بايدن في الأشهر الأخيرة من حكومة الرئيس الإيراني السابق، حسن روحاني، مغرقة بالتفاؤل. ومع مجيء إبراهيم رئيسي وانتقال الملف التفاوضي إلى فريق جديد يتحرك ضمن إطار مختلف عن الإدارة السابقة بدأت رحلة تفاوضية شاقة لم تفضِ إلى اتفاق إلى اليوم رغم تجاوز كثير من العقبات.
وضعت إيران، أو بالأحرى وضعت القيادة العليا في إيران، إطارًا ضابطًا للعملية التفاوضية وحدَّدت مجموعة من الخطوط الحمراء يبدو أن المفاوض الإيراني ملتزم بها ومصرٌّ عليها إلى اليوم، وتتلخص في ثلاثة محاور هي: إزالة كافة العقوبات، والحصول على ضمانات بعدم تكرار خطوة ترامب بالانسحاب مجددًا من الاتفاق، واختبار جدية تنفيذ قرار رفع العقوبات.
وترجح إيران عدم التوقيع على اتفاق لا يستجيب لمطالبها التي ترى أنها جوهرية وتضمن مصالحها القومية. ولذلك، وبموازاة العملية التفاوضية، تتحرك إيران مطبِّقة خطة أخرى تقول بإمكانية فشل المفاوضات وضرورة تحييد العقوبات بمسارات لا ترتهن للعملية التفاوضية.
اللغم" الذي زرعه ترامب
أما اللغم الذي زرعه ترامب لإدارة بايدن وسط ما يزيد عن 1000 عقوبة وقَّعها كرئيس ضد إيران، فكانت إدراج الحرس الثوري الإيراني على القائمة السوداء منظمةً إرهابية أجنبية، في عام 2019. وكما أن حملة "الضغط الأقصى" هدفت إلى إضعاف إيران وإجبارها على تقديم تنازلات، فإنها أيضًا صُمِّمت بصورة تجعل من الصعب على الرئيس المقبل العودة إلى الاتفاق.
تتصدر هذه القضية اليوم مجموعة القضايا الخلافية القليلة ولكن بالغة التعقيد التي تعيق إنجاز إحياء الاتفاق النووي بصورة نهائية. وفي طهران اليوم يروِّج مقربون من تيار الاعتدال الذي يتزعمه حسن روحاني أن فريقه التفاوضي كان قد توصل إلى اتفاق بإزالة الحرس من قائمة الإرهاب في المفاوضات التي جرت في الأشهر الأخيرة من حكومة روحاني وقادها عباس عراقجي، لكن ردودًا كثيرة على ذلك تقول بأن هذه الموافقة كانت مشروطة بقيود إقليمية على نشاط الحرس.
وتتحدث رواية أخرى عن مقترح أميركي تلقته طهران مؤخرًا بشأن إزالة الحرس من قائمة المنظمات الإرهابية لكنه جاء مشروطًا بأن تتعهد إيران بالكفِّ عن ملاحقة المسؤولين عن اغتيال قاسم سليماني وعدم الثأر لمقتله في بغداد في مطلع 2020، وهو رفضته إيران بشكل قاطع وأرسلت ردًّا على المقترح الأميركي من خلال الطرف الأوروبي الذي يواظب على نقل رسائل مكتوبة بين الجانبين، الإيراني والأميركي.
وكما أن المسألة بالنسبة لإيران تصب في باب "الكرامة الوطنية" فإن توقع أن تقدم إدارة بايدن على هذه الخطوة دون مقابل وتنازلات من إيران يبدو مستبعدًا؛ حيث تدرك أن رفع تصنيف الإرهاب عن مؤسسة الحرس سيثير ردود فعل معارضة داخل الكونجرس الذي سبق ترامب في فرض عقوبات على الحرس الثوري وقطاعات أخرى محسوبة عليه، كما أن إدارة أوباما التي وقَّعت الاتفاق النووي، عام 2015، قالت بأنها ستحتفظ بإمكانية فرض عقوبات ضد طهران خارج إطار الاتفاق. ولذلك يعتقد علي واعظ، الخبير في مجموعة الأزمات الدولية، "أن المأزق الحالي جرى تصنيعه عن عمد مسبقًا من قبل إدارة ترامب لوضع خليفتهم في مكانه الحالي بالضبط". ولذلك، فإن رفع اسم المؤسسة من قائمة الإرهاب لا يعني أنها ستخرج من قوائم العقوبات خاصة تلك التي لا علاقة لها بالملف النووي. أما خارجيًّا، فإن حلفاء أميركا وفي مقدمتهم إسرائيل لن يكونوا راضين عن ذلك. وإذا ما حدث ذلك دون شروط فسيمثل انتصارًا رمزيًّا وواقعيًّا لإيران.
إن المفارقة التي يجري الحديث بشأنها أن إيران وإن كانت تصر على عدم التفاوض بشأن أي قضايا أخرى غير الاتفاق النووي وفي مقدمتها برنامجها الصاروخي، فإن مطالبتها برفع الحرس من قائمة الإرهاب هي مطالبة تأتي لأمر هو خارج الاتفاق، لكن وجهة النظر الإيرانية تضع ذلك في إطار مطالبتها بإزالة كافة العقوبات. كما أن زاوية أخرى تأخذ بُعدًا عمليًّا تجعل إيران تنحو هذا المنحى؛ حيث إن انخراط المؤسسات التابعة للحرس في الاقتصاد الإيراني، وخاصة في قطاع الطاقة، سيجعل من مسألة تجاوز العقوبات مسألة معقدة في المستقبل إذا ما بقي الحرس مصنَّفًا مؤسسة إرهابية؛ حيث سيعيق ذلك مشاريع الاستثمار.
الدبلوماسية أم التفاوض: أيهما يسير على ما يرام؟
بالرغم من أن الرسائل السياسية التي يرسلها القائد الأعلى في إيران من خلال خطبه وتصريحاته تكون واضحة ومحددة في أغلب الأحيان، إلا أن حديثه مؤخرًا في اجتماعه الرمضاني مع المسؤولين في الدولة، وخاصة بشأن جزئية المفاوضات كان مثار أخذ وردٍّ، فبينما نُقل عنه قوله: إن محادثات إحياء اتفاق عام 2015 النووي "تسير على ما يرام" طالب معلِّقون بتحري الدقة؛ فقد قال: إن "الدبلوماسية الإيرانية تسير على ما يرام وليست المحادثات. وما لبث مكتبه أن أصدر توضيحًا بأن الجملة التي تتعلق بالمفاوضات لم تصدر عنه، وأنه قال: إن "دبلوماسية الدولة تسير بشكل جيد". وقد دفع هذا التوضيح كثيرًا من المواقع إلى تغيير عنوان الخبر وفق التوضيح الصادر عن المكتب.
وبالعودة إلى حديث آية الله خامنئي، فإن نقاطًا واضحة يمكن استخراجها منه:
- ما زال يحمل النظرة المتشائمة بشأن مسألة التفاوض وغياب الثقة في الطرف الأميركي.
- يرى ضرورة عدم ربط مستقبل البلاد بنجاح أو فشل المحادثات النووية مع القوى العالمية، وخاطب الرئيس ومسؤولي الدولة: "لا تتركوا أعمالكم تتعطل سواء وصلت المفاوضات إلى نتائج إيجابية أو شبه إيجابية أو سلبية".
- أنه يعتقد أن الولايات المتحدة الأميركية وصلت إلى طريق مسدود، أما إيران فليست في هذا الوضع نفسه.
- دعوة المفاوضين النوويين الإيرانيين إلى مقاومة المطالب الأميركية والتي وصفها بـ"الجشعة".
- قدم دعمًا لفريق التفاوض مما يخفف من حدة الانتقادات التي تعرض لها حتى من داخل المعسكر الأصولي نفسه.
انهيار الاتفاق أم إنقاذه؟
فيما يتعلق ببرنامجها النووي، فالواضح أن إيران تواصل تطوير منشآتها النووية، وفشل المفاوضات قد يعني تنفيذ إيران لتهديدها السابق برفع تخصيب اليورانيوم إلى 90٪، وهي من الناحية التقنية تملك القدرة على ذلك. وأثار حديث للدكتور اقاميري، رئيس الكلية النووية في جامعة شهيد بهشتي بطهران، الانتباه عندما قال بمناسبة يوم الطاقة النووية: "لديك القدرة على الردع اليوم؛ مما يعني أن لديك القدرة على زيادة التخصيب إلى 90٪ في وقت قصير. لديك القوة إذا دعت الحاجة".
كما أن إيران تتجه لخطوة قادمة في مجال تطوير برنامجها النووي؛ فقد أعلن رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، محمد إسلامي، أن إيران لن تتحمل عبء تأخير بدء مفاعل آراك الجديد؛ حيث جرى تصميم المفاعل منذ البداية بجهد إيراني، على أن تتعاون بعض الدول وتقدم المعدات لكن ذلك لم يُنفَّذ .وبحسب الاتفاق النووي، كان من المفترض أن تقوم الصين بتزويد الوجبة الأولى من وقود المفاعل. يقول إسلامي: "فيما يتعلق بالوقود، لا يمكننا قبول وعد بـ4 أو 5 سنوات أخرى، وهو وقود لم يعد متوافقًا مع التصميم الجديد للمفاعل. وكان مفاعل آراك الذي يعمل بالماء الثقيل واحدًا من أصعب ملفات التفاوض بشأن برنامج إيران النووي، وقررت إيران إعادة تصميم المفاعل في سبتمبر/أيلول 2021، كخطوة لخفض التزاماتها نتيجة عدم تطبيق الاتفاق. وكان المفاعل قد توقف عن العمل بموجب الاتفاق الموقع في 2015.
تدرك إيران كما تدرك الأطراف الأخرى أن انهيار الاتفاق النووي بصورة نهائية سيكون له تبعات يصفها البعض بـ"الكارثية"، ولذلك لا تُسقط طهران هذا الاحتمال من حساباتها. وفيما تتواصل التحذيرات الغربية والأميركية بأن "الوقت ينفد" يرد الإيرانيون بالمثل، ويؤكدون أنَّ الوضع الراهن في محادثات فيينا هو نتيجة عدم اتخاذ واشنطن القرار السياسي اللازم. تواصل إيران التمترس خلف خطوطها الحمراء وتعتقد أنها تجاوزت مرحلة عقوبات الحد الأقصى، فقد عادت إيران لتصدير النفط بمستويات ما قبل العقوبات، وعاد الاستقرار إلى اقتصادها بعد أن فشلت التوقعات بانهياره نتيجة العقوبات، كما أنها تعتقد بأن موقفها التفاوضي قوي لدرجة تمكِّنها من الإصرار على مطالبها.