عادة ما يثار سؤال الانتصار في كل المعارك والحروب التي تحيط بالقضية الفلسطينية. ولا تقتصر المعارك في هذا السياق على التعريف الضيق الخاص بالمواجهة العسكرية، ولكن تمتد إلى كل صور المقاومة والاستمرار بما فيها علامة الانتصار وابتسامة الفلسطيني عند لحظة الاعتقال، وتغيير وضع سجين بعد فترة إضراب عن الطعام، إلى تناول إفطار رمضان في ساحات المسجد الأقصى في رمضان الجاري (2022) في ظل كل ما شهده من اقتحامات واشتباكات وعمليات اعتقال وتقييد.
ومع محورية مفهوم الانتصار في المشهد، واحتكاره للفلسطيني في مجال المقاومة الشعبية، يتزايد الجدل حول المنتصر في حالة المواجهة العسكرية والتي يحظى فيها قطاع غزة بأهمية خاصة. ومن الحديث عن انتصار القطاع في الحروب التي خاضها في مواجهة إسرائيل، إلى الحديث عن البقاء رغم الحصار، والمقاومة رغم المعاناة، والدفاع عن القدس رغم التحديات والظروف الصعبة، يتحول التركيز بدرجة أكبر إلى البعد العسكري في المواجهات. وفي هذا الإطار يتم الاهتمام بشكل متزايد بالقدرات العسكرية للمقاومة، ودورها في تغيير قواعد الاشتباك، ومعها بدرجة أهم توفير مساحة لتواجد قواعد للاشتباك والحديث عن الردع المترتب على التهديد بتفعيل تلك القواعد.
ومن "سيف القدس"، الاسم المستخدم فلسطينياً للحديث عن حرب غزة الرابعة في مايو من العام الفائت (2021)، إلى "درع القدس"، الاسم الذي أطلق على المناورات العسكرية التي أجرتها حركة المقاومة الإسلامية- حماس في ديسمبر الماضي في القطاع، تتحول المقاومة إلى "الركن الشديد"، الاسم الذي أطلق على مناورات الفصائل في غزة في ديسمبر الماضي، ويتبلور الحديث عن المقاومة الفلسطينية في غزة بوصفها درع وسيف القدس على هامش التصعيد الذي شهده المسجد الأقصى في رمضان الجاري مع السماح باقتحامات المستوطنين للمسجد.
وبعد المرور بفترة من اجتماعات الفصائل، وحديث الخطوط الحمراء، وجهود الوساطة المعلن منها والسري، تم إحداث التأثير الأكبر من وجهة نظر الفصائل عبر إطلاق قذيفة صاروخية من غزة تجاه إسرائيل مساء ١٨ أبريل الجاري (2022). وطرح "صاروخ غزة"، كما أطلق عليه فلسطينياً، المخاوف لدى إسرائيل والأجهزة الأمنية من دخول جبهة غزة على ساحة المواجهات الدائرة في القدس والعديد من المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية، وإمكانية دخول الجبهة الشمالية في ظل تصريحات حزب الله، والربط بين وضع القدس وفكرة الحرب الإقليمية كما تحدثت عنها حركة الجهاد الإسلامي. بالإضافة إلى التأثيرات المحتملة لمثل تلك التطورات على الجبهة الداخلية ووضع المدن المختلطة واحتمال حدوث حالة من التمرد أو العصيان الداخلي على خلفية التصعيد في الأقصى، وهي التطورات التي تطرح لدى إسرائيل المخاوف من دخول حرب على أكثر من جبهة في نفس اللحظة.
مخاوف تزايد الحديث عنها مع إطلاق نار من مدفع رشاش من شمال القطاع تجاه مستوطنات غلاف غزة في 21 أبريل وهو الأمر الذي تسبب في تفعيل صفارات الإنذار وأعاد الكثير من أجواء مرحلة ما قبل حرب غزة الرابعة إلى الواجهة، وفقاً للتقييم الإسرائيلي. ووسط التحذيرات الأمنية، وفي ظل استمرار التصعيد في الأقصى تم إطلاق صاروخين من القطاع مساء الجمعة 22 أبريل باتجاه جنوب إسرائيل، ولكنها لم تتسبب في إطلاق صفارات الإنذار، وفقاً للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي.
وعلى الرغم من اللجوء إلى حديث الصواريخ، لم تدشن الفصائل دخول غزة في مواجهة عسكرية فعلية مع إسرائيل. وساهم تحرك الفصائل في إطار التصعيد المُقيَّد في التذكير بإمكانية اللجوء إلى سيناريو حرب غزة إذا استمر التصعيد في المسجد الأقصى، دون إسقاط إمكانية دخول غزة على جبهة المواجهة في حالة خروج الأوضاع عن نطاق السيطرة في مخيم جنين أو مناطق التصعيد المختلفة في الضفة الغربية.
بدورها، اعتمدت إسرائيل على أسلوب الرد المُقيَّد بهدف حفظ ماء الوجه ومحاولة امتصاص الغضب الشعبي، مع تجنب الدخول في دائرة تصعيد جديدة لا تناسب متطلبات المرحلة التي تفرض تعظيم خيار التهدئة، على الأقل، وفقاً للأوضاع والحسابات القائمة. وركز الرد الإسرائيلي على استهداف بعض المواقع التابعة للفصائل في قطاع غزة في 19 أبريل و21 أبريل رداً على تحركات الفصائل. ولكن هذا الأسلوب الإسرائيلي، المتكرر في حالات مماثلة، يقابل بتحديات سياسية داخلية تتعامل مع الرد الإسرائيلي الرسمي بوصفه دليل ضعف وخضوع للإملاءات التي تفرضها الفصائل الفلسطينية، وهو النقد الذي يتم تعظيمه بالحديث عن انتصار الفصائل على إسرائيل.
وفي مواجهة تلك الصورة التي تجمع بين تناقضات التصعيد ومحاولة تجنبه، ساهم إعلان إسرائيل في 19 أبريل الجاري، وبعد يوم من إطلاق صاروخ غزة وساعات من استهداف القطاع، عن إغلاق الحرم القدسي أمام اليهود بداية من يوم الجمعة 22 أبريل وحتى نهاية شهر رمضان في تكثيف حديث الانتصار الناتج عن صاروخ غزة، على الرغم من تحقق الهدف الإسرائيلي المتمثل في تسهيل اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى خلال فترة عيد الفصح اليهودي، والتي تنتهي قبل فترة الإغلاق المعلنة، وبما يعني عملياً تحقق الهدف الإسرائيلي من التصعيد في الأقصى، وتدشين حديث "حرية إقامة الشعائر الدينية لكل الأديان" الذي تطرحه الحكومة الإسرائيلية بقوة على هامش التطورات التي شهدها المسجد الأقصى في رمضان الجاري، والتي تفتح الباب لتغيير واقع تواجد المستوطنين في المسجد، وتمرير الصلوات التلمودية وغيرها ضمن المفهوم الواسع لحرية إقامة الشعائر الدينية، وبوصفها واقعاً جديداً يهدف للتجاوز عن طبيعة المسجد والوضع القائم ما قبل معركة الأقصى 2022.
من جانب آخر، جاء الإعلان في نفس اليوم (19 أبريل) عن رفض الشرطة الإسرائيلية تأمين مسيرة الأعلام التي قام بها اليمين الإسرائيلي حول أسوار البلدة القديمة مساء 20 أبريل، وفشل المسيرة في تحقيق الحضور الكبير المتصور أو الوصول إلى باب العامود كما خططت، ليركز المزيد من الضوء على فكرة انتصار الفصائل وغزة، ولكن تلك المرة من عضو الكنيست اليميني المتطرف إيتمار بن غفير والإعلام الإسرائيلي. واعتبر بن غفير فشل مسيرة الأعلام بمثابة انتصار للفصائل الفلسطينية، في حين تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية عن انتصار حماس والجهاد الإسلامي أمام الشعب الإسرائيلي في ظل وضع حواجز أمام تحركات مسيرة الأعلام ومحاولة تجنب التصعيد أو المزيد من الاشتباكات في القدس، وخاصة مع إعلان رئيس الوزراء نفتالي بينيت عدم السماح بوصول بن غفير إلى باب العامود تنفيذاً للتوصيات الأمنية ومن أجل الحفاظ على الاستقرار.
ويظل السؤال مطروحاً عن حديث الانتصار وتوظيفه، ودور مثل هذا التوظيف في إخفاء الحقيقة والتعامل مع معركة الأقصى وكأنها معركة تشرف على الانتهاء في حين تظل الأوضاع قابلة للتطور السلبي في اللحظة والمستقبل ما لم تبذل جهود حقيقية من أجل ترسيخ وضعية المسجد الأقصى خارج نطاق التقسيم والاستهداف، مع الحفاظ على وضعية القدس الشرقية بوصفها عاصمة الدولة الفلسطينية المنتظرة. ولكن يظل الحديث عن الانتصار مطروحاً وفقاً لسياق قواعد الاشتباك ووضعية الردع في العلاقة بين الفصائل وإسرائيل.
"صاروخ غزة" وسلاح الردع
على طريقة تطور الأحداث في عام 2021، ساهم "صاروخ غزة" الذي أطلق في 19 أبريل الجاري في تحقيق جزء من التأثير الذي تركه حديث محمد الضيف، القائد العام لكتائب عز الدين القسام- الجناح العسكري لحماس في الأحداث التي صاحبت التصعيد في القدس في أبريل من العام الفائت. وفي هذا السياق، يمكن القول أن تأثير إطلاق الصاروخ أقل من الناحية العسكرية من حديث الضيف فيما يتعلق بفكرة تفعيل الخيار العسكري وسرعة تفعيل مثل هذا الخيار من وجهة نظر حماس وإسرائيل. وبهذا، يمثل "صاروخ غزة"، أو رشقة الصواريخ أو الرصاص المحسوبة ضمن نطاق التصعيد المُقيَّد، الأسلوب الذي يحقق للمقاومة الفرصة للدخول بشكل يتناسب مع التصور الجماهيري عن دور المقاومة في غزة في التعامل مع الأوضاع في القدس، كما يؤثر على مسار الوساطة من أجل التهدئة، ويهدد بتفعيل قواعد الاشتباك.
وفي حين لم يغير إطلاق "صاروخ غزة" من واقع التفاعلات الدائرة في مشهد التصعيد الذي أحاط بالمسجد الأقصى، واستمرت الاقتحامات وعمليات المواجهة والاعتقال، ساهم التوقيت والإعلان عن موعد تقييد دخول اليهود للأقصى في الربط بين تلك الأحداث على طريقة السبب والنتيجة، وتصاعد مع تلك الرؤية الحديث عن انتصار المقاومة وتأثير "صاروخ غزة" على مسيرة الأعلام والرد المحدود على غزة من قبل الحكومة الإسرائيلية. وتم التعامل مع التحركات الإسرائيلية بوصفها تأكيداً على وصول رسائل المقاومة. وساهم حديث الفصائل عن جهود الوساطة المتزايدة والعدد الكبير من المكالمات الهاتفية التي تصل إلى حماس والجهاد من أجل التهدئة في التأكيد على فكرة الانتصار عبر صاروخ غزة.
والمشكلة في تعظيم حديث الانتصار في الوضع الراهن أنه يتعامل مع لحظة ضمن سياق تصعيد واستهداف ممتد، ويربط بين فعل إطلاق الصاروخ وتوقيت انتهاء الاقتحام المحدد بشكل او آخر وفقاً لحسابات تتعلق بالسياسات الإسرائيلية، كما يتجاوز أن قدرة التأثير لا تتوقف فقط على فعل إطلاق الصاروخ ولكن على حسابات إسرائيل والأطراف الأخرى والتي تصب في صالح التهدئة وعدم الدخول في انتفاضة مفتوحة أو حرب جديدة في قطاع غزة. وبعيداً عن الربط بين التحركات الإسرائيلية التي تتم في إطار التصعيد المُقيَّد، مثلما تفعل الفصائل الفلسطينية، لم يرتب "صاروخ غزة" تغييرات حقيقية في المشهد العلني بعيداً عن التأثير الشعبي والنفسي المرتبط بوجود المقاومة والاستعداد للحرب من أجل القدس، وتأكيد فكرة الدرع والسيف. ويظل الحديث عن فكرة الانتصار مُقيَّداً بفكرة الهدف من صاروخ غزة والذي سعى بدوره إلى الحفاظ على حالة التصعيد المُقيَّد وليس العكس، وفي هذا السياق، يمكن الحديث عن انتصار صاروخ غزة في تحقيق هذا الهدف وربما تقليل فرص تصعيد التحركات الإسرائيلية بما يتجاوز قدرة الوساطة على البقاء والفصائل على التهديد دون التصعيد المفتوح.
وبعيداً عن فكرة الانتصار العسكري وضمن انتصار الصاروخ في مجال الردع السياسي، يمكن قراءة الصاروخ والرد الإسرائيلي ضمن قواعد الاشتباك القائمة منذ حرب غزة الرابعة، وعدم وجود رغبة حقيقية في التصعيد إلى حالة الحرب، ما لم تفرض التطورات الوصول إلى تلك الحالة من التصعيد المفتوح. وفي حين ساهمت حرب غزة الرابعة في وضع قواعد اشتباك واضحة تربط بين غزة والقدس، وساعدت التطورات التالية في توسيع تلك القواعد، رسخت معركة الأقصى في أبريل الجاري جوهر قواعد الاشتباك والقدرة على التهديد بتفعيل تلك القواعد من أجل تحقيق الردع والحفاظ على التطورات ضمن نطاق التصعيد المُقيَّد. بدورها عبرت وسائل إعلام إسرائيلية عن تلك الأوضاع بالحديث عن ما أسمته "تآكل سلاح الردع الإسرائيلي" ضد الفصائل والاستسلام في القدس، ورغم الربط بين هذا التآكل وحكومة بينيت، فإن قواعد الاشتباك نفسها وضعت خلال حكومة رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو الذي لم يستطع الانتصار في حرب غزة الرابعة أو تغيير تلك القواعد التي ترسخت وتطورت عبر الوقت.
وفي هذا السياق، تم التحرك خلال معركة الأقصى، وخاصة مع إطلاق "صاروخ غزة"، وفقاً لتصور واضح لدى كل الأطراف وهو أن التصعيد في القدس سوف يتم الرد عليه من القطاع، وأن التصعيد من القطاع سوف يتم الرد عليه في القطاع، وأن تفعيل تلك القواعد سوف ينقل المشهد إلى مساحة أعلى من التصعيد المفتوح القابل للتطور والامتداد الجغرافي والزمني.
بدورها، تمكن تلك الآلية الأطراف المتناقضة من الالتقاء في مساحة الردع العسكري والتصعيد المُقيَّد والوساطة السياسية. ويصبح حديث الانتصار نسبياً ومُقيَّداً بخطوات صغيرة على الطريق في تلك المعارك دون الحديث عن انتصار حاسم في معارك كبرى، كما يرتبط حديث انتصار طرف بتحركات الطرف الآخر ورغبته في إيقاف التصعيد. وفي حين يغيب الحديث عن انتصار في معركة ترسيخ وضعية المسجد الأقصى والقدس، أو إيقاف اقتحامات الأقصى خلال فترة الاستهداف، يمكن الحديث عن انتصار تقييد التصعيد، وتقييد دعم مسيرة الأعلام من قبل الحكومة الإسرائيلية والتي تصب بدورها في تحقيق مصالح سياسية للحكومة الإسرائيلية وفي حديث الانتصار الإسرائيلي الرسمي مقابل حديث الفشل والضعف الذي يرفعه اليمين.
"مسيرة الأعلام" وحديث الرضوخ للمقاومة
مع تعدد التحديات السياسية في إسرائيل ما بين الائتلاف وتحديات البقاء، والمعارضة ومحاولات العودة للسلطة، واليمين المتطرف ومحاولة الحصول على مساحات جديدة على الأرض، تتداخل تفاصيل المشهد وعوامل الضغط بين أهمية التصعيد في مواجهة الفصائل للحفاظ على تماسك اليمين المتطرف ودعمه، وبين تقييد التصعيد من أجل التركيز على قضايا وتحديات إقليمية مهمة مثل إيران، ومحاولة الحفاظ على مساحة وسط تسمح بالحفاظ على الائتلاف الحاكم. بالإضافة إلى التأثيرات المتسعة التي تظهر مع امتداد التصعيد في الأقصى وحقيقة ارتباط التصعيد بشهر رمضان وبعد فترة من التقارب بين إسرائيل وبعض الأطراف الإقليمية، وتواجد إسرائيل على ساحة الوساطة في حرب أوكرانيا وغيرها من التحركات التي تفرض على الحكومة الإسرائيلية الحفاظ على شكل الطرف الساعى إلى التهدئة، والذي يتحرك ضمن إطار مُقيَّد أو "رشيد" وضروري من التصعيد، كما تعبر التصريحات الإسرائيلية المختلفة.
تفرض التحديات على الحكومة الإسرائيلية التحرك ضمن حدود ونقاط تماس متشابكة وفقاً لسياسة تسمح بالتراجع السياسي قبل نهاية الطريق سواء في دعم اليمين أو تقييد التصعيد من أجل الحفاظ على الائتلاف وعدم الدخول في صراع مع العالمين العربي والإسلامي، أو تصعيد حالة الغضب في الإقليم، وتركيز الجهود على الملفات الأكثر أهمية في مواجهة إيران وعدم الدخول في مواجهة مع الجبهة الشمالية والداخلية وجبهة غزة في نفس التوقيت.
وتعبر التحركات الرسمية الإسرائيلية عن الرغبة في تقليل الخسائر وتعظيم المكاسب، ورغم تقييد مسيرة الإعلام وعدم دعمها رسمياً، وتقييد الرد على صواريخ غزة، فرضت الحكومة الإسرائيلية فكرة حرية إقامة الشعائر الدينية وتسهيل الوصول للمسجد من قبل الجميع، ومفهوم زيارة اليهود مقابل مفهوم الاقتحامات، وفرض وقائع جديدة في رمضان وعيد الفصح تتصور أن تقود إلى الحصول على الدعم الأمريكي والدولي بما يسهل تمريرها في المستقبل من خلال بناء فكرة التعامل مع حق مكتسب من ممارسات سابقة. ورغم التحديات التي تواجه حكومة بينيت في مواجهة اليمين، والجدل بينه وبين نتنياهو عن عدد الصواريخ التي أطلقت من غزة على إسرائيل، ورد كل طرف خلال تواجده في الحكومة، والخسائر مقابل المكاسب، والجدل مع بن غفير والمستوطنين عموماً، فإن المكسب المهم الذي يمكن أن يمرره بينيت يتعلق بوضعية المسجد الأقصى نفسه. وإذا مرر بينيت تلك السياسات والرؤية يمكن أن يتحدث عن انتصار أكثر عمقاً وخطورة في معركة المسجد الأقصى والقدس وفكرة الدولة الفلسطينية.
ووسط التصعيد الذي شهده المسجد الأقصى، مثلت مسيرة الأعلام التي حدد لها مساء 20 أبريل الجاري والتي استهدفت الوصول إلى باب العامود خطوة مهمة من قبل المستوطنين واليمين عموماً من أجل الدخول بقوة على مشهد التصعيد والدخول في مستويات أعلى من المواجهة. وتمثل تلك التحركات جزءاً من تحركات المستوطنين عموماً والتي تتجه إلى التسبب في العديد من الحرائق في المشهد الفلسطيني عبر إقامة بؤر استيطانية جديدة أو إحياء بؤر قديمة، وتهويد المزيد من المساحات، والحصول على المزيد من المكتسبات، بالإضافة إلى استهداف الحراك الفلسطيني والمطالبة بفرض المزيد من القيود والاعتقالات والترحيب بصور العنف المختلفة في التعامل مع الفلسطينيين مع تعظيم خيار الحرب في غزة.
ويتم التعامل مع بن غفير بوصفه رمزاً واضحاً لليمين المتطرف في ظل مواقفه وتحركاته التي تدفع نحو المزيد من التصعيد، ولا يختلف ما قام به بن غفير ويحاول القيام به في الأقصى عن ما قام به في حي الشيخ جراح في العام الفائت. وما حديثه عن فتح مكتب له في منطقة باب العامود، وإعلانه عن المشاركة في مسيرة الأعلام واستهداف الوصول إلى باب العامود إلا جزء من تحركاته التي لا تقبل بأقل من حرب جديدة على غزة والمزيد من العنف في الضفة الغربية والقدس. ومع خطورة تحركات بن غفير، وعدم استبعاد أن يقود إلى جولة تصعيد جديدة في القدس أو انتفاضة جديدة، فإن وجوده يدعم بينيت على مستوى التفاعلات الخارجية والتركيب المعقد للائتلاف.
ومن خلال وجود تحديات مثل نتنياهو وبن غفير يستطيع بينيت التأكيد على خطورة التحديات الداخلية، وأهمية ما يتبناه من سياسات للحفاظ على التصعيد في حدوده القائمة في مواجهة التحديات الداخلية التي تتحدث عن انتصار الفصائل الفلسطينية وتطالب بشن حرب على غزة، والتهديد بما يمكن أن يحدث في حال سقوط الائتلاف وصعود سياسات أكثر عنفاً. وتصب تلك التحديات في تمرير بينيت من قبل البعض بوصفه الخيار الأفضل مقارنة بعودة نتنياهو أو الدخول في حالة التصعيد المفتوح. وبهذا، تمثل تحركات مثل تقييد الرد في غزة أو عدم مساندة مسيرة الأعلام الخيارات الأقل تكلفة في اللحظة من أجل تحقيق أهداف حكومة بينيت. وبهذا، إذا تم تحقيق التهدئة خلال الأيام التالية من رمضان، يمكن أن يحافظ بينيت على الائتلاف ويتم تجنب خيار شن حرب في غزة، في حين يمكن أن تساهم تحركات اليمين أو زيادة العنف في المسجد الأقصى ورد الفصائل عبر المزيد من الصواريخ في تغيير المشهد وطبيعة التصعيد الحالية، وتفعيل قواعد الاشتباك في مساحة المواجهة بدلاً من مساحة الردع.
في ظل التفاعلات القائمة، يمكن القول أن الجزء الأول من معركة الأقصى لم يحسم بعد، وأن ما حدث وتم تأكيده عبر "صاروخ غزة" وتحركات الحكومة الإسرائيلية، حتى الآن، هو تفعيل الردع بحكم قواعد الاشتباك، والحفاظ على التصعيد المُقيَّد بوصفه المستهدف من كل الأطراف. وفي حين يحاول حديث الانتصار تعظيم المكاسب على الساحة الفلسطينية، والدفع نحو المزيد من العنف إسرائيلياً، فإنه انتصار محدود لا يجب أن يغير الحقيقية وهي أن معركة الأقصى مستمرة، وقواعد الاشتباك على صعيد المسجد الأقصى مؤهلة للتطور العسكري ما لم تحسم على مستوى الاتفاق والإلزام السياسي بصورة نهائية. ومع الحفاظ على التصعيد المُقيَّد حتى اللحظة، تظل الاحتمالات مفتوحة للمزيد من التصعيد وفقاً لقراءة الأطراف المعنية مثل قراءة إسرائيل لحدود صواريخ غزة، وقراءة الفصائل لرسائل قصف إسرائيل للقطاع، والتجاوز عن خطاب اليمين ومحاولة إشعال حرب جديدة قد تستهدف غزة ولكنها لا تمانع في توسيع نطاق الخسائر.