• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39
news-details
دراسات

أثر الحرب الروسية – الأوكرانية في المشروعات والطموحات الأوروبية في القطب الشمالي


بينما يواصل الجيش الروسي عملياته العسكرية عبر حدوده الغربية الملتهبة بالحرب ضد أوكرانيا، القريبة من قواعد حلف شمالي الأطلسي في بولندا ودول البلطيق، يبرز مشهد عسكري أطلسي آخر على الجانب الأكثر برودة من الحدود الروسية مع قواعد أخرى للناتو وهي من الحدود الروسية مع النرويج والبالغ طولها 196 كيلومتراً ضمن منطقة ربما تكون غائبة عن التصورات السياسية لدى بعضهم وهي القطب الشمالي، حيث الجزء الأكبر من موارد وثروات الأرض الروسية وحيث ترسانتها النووية ومقر أسطول الشمال الروسي.

 وفي المنطقة المتجمدة التي تبعد بضع مئات من الكيلومترات من الحدود الروسية، إذا يحاول الناتو الاقتراب من الحدود القطبية مع روسيا فقد تجمّع نحو 30 ألف جندي و200 طائرة و50 سفينة من 27 دولة أطلسية للقيام بتدريبات عسكرية أطلق عليها اسم “الرد البارد” أو “كولد ريسبونس 2022” وهي أكبر مناورة لقوات الناتو هذا العام.

فمنطقة القطب الشمالي ربما ستكون مسرحاً لتفاعلات أكثر سخونة على المديين القريب والمتوسط، لاسيما إذا تكرر اقتراب الناتو من الحدود الروسية الباردة لما لها من أهمية كبيرة بالنسبة إلى دول حلف شمال الأطلسي باعتبارها منطقة صراع قادم لا يريدها الناتو أن تبقى عامل تفوق استراتيجي روسي، وللاتحاد الأوروبي الحريص على توازنه المناخي وبيئته الخضراء، فهو لا يريد أن يُحرم من غنيمة جيواستراتيجية ينفرد بها الخصوم والشركاء والمنافسون، ولروسيا باعتبارها عنصراً أساسياً من عناصر قوتها ومخرناً لا ينضب لمواردها، وبالنسبة إلى الدول القطبية الأخرى بما فيها الدول الأوروبية كونها متنفساً اقتصادياً واستراتيجياً هائلاً، ورغم كل ذلك حاولت الأطراف كلها قبل الحرب في أوكرانيا، ولو ظاهرياً، تغليب عامل التعاون على عامل الصراع، لأن النتائج في أي صراع قطبي على المديين المنظور والمتوسط ستكون محسومة لصالح موسكو، لأنها تنفرد بامتلاك عوامل تفوقٍ في الأرض ناهيك عن الإمكانات اللوجستية الروسية الكبيرة في هذه المنطقة، وربما يحاول الناتو والاتحاد الأوروبي الحد من هذا التفوق عبر خلق توازن استراتيجي يقوم على ضبط تفاعلات المنطقة من خلال التحكم في أدوات التعاون والصراع باتجاه تحجيم القدرة الروسية وتطويقها بسلسلة إجراءات وخطط وبرامج وفعاليات تقوم بها الدول الأوروبية من أجل أمن بيئي، وأمن موارد، وأمن طاقة، لهذا الجزء المتصاعد الأهمية من كوكب الأرض.

وفي هذا الإطار، تحاول هذه الدراسة الإجابة على تساؤلات عدة، منها: ما الأهمية الجيواستراتيجية لهذه المنطقة الحيوية بالنسبة إلى روسيا والدول الأوروبية؟ وما طبيعة الدول الأوروبية وتوجهاتها في القطب الشمالي قبل الحرب الروسية في أوكرانيا وبعدها؟  وما مصير التعاون الروسي – الأوروبي في هذه المنطقة التي لا تتردد أغلب الأطراف في إعلان رغبتها في إبقائها محايدة؟ وما أدوات أوروبا في إعادة تموضعها القطبي ومواجهة روسيا بعد حرب أوكرانيا؟

أولاً: الأهمية الجيواستراتيجية للقطب الشمالي

عادت منطقة القطب الشمالي بقوة إلى واجهة الاهتمام العالمي بعد أن شهدت حدثين لن يمرا دون أثر استراتيجي، الأول أنتجته الجغرافية السياسية بعد التغير المناخي وذوبان الجليد، والثاني أنتجته التصورات الجيواستراتيجية وتجسد بقيام روسيا عام 2007 برفع العلم الروسي في قاع المحيط المتجمد الشمالي، الأمر الذي أثار قلقاً لدى الدول التي تعتقد أنها تمتلك أحقية في أجزاء من المنطقة، وأشعل تنافساً متسارعاً بين روسيا والدول القطبية الأخرى لا سيما الولايات المتحدة وكندا والنرويج

وتزامن هذان الحدثان مع ما أظهرته الاكتشافات العلمية بأن المنطقة القطبية الشمالية تحتوي على ربع ثروات العالم واحتياطياته غير المكتشفة من النفط والغاز، ناهيك عن احتياطيات كبيرة من الماس والذهب والبلاتين والقصدير والمنغنيز والنيكل والرصاص، حسب تقارير دائرة المسح الجيولوجي الأمريكية، وكذلك عمليات المسح الجغرافي التي قامت بها وزارة الموارد الطبيعية الروسية.

ومع استمرار ذوبان الجليد اكتسب الممر الشمالي أهمية متزايدة مع ظهور إمكانية استخدامه طريقاً بديلاً للشحن بين آسيا وأوروبا، عوضاً عن الطريق التقليدي الذي يمر عبر قناة السويس في مصر، حيث يوفر الطريق الجديد ميزة استراتيجية كبرى هي تقليص وقت الشحن بمقدار 40في المئة مقارنة بالطريق التقليدي، ما يعني توفير مئات الآلاف من الدولارات من تكاليف الوقود

ثانياً: روسيا والقطب الشمالي

 كانت المناطق القطبية على الدوام جزءاً من نظرة روسيا العالمية وجزءاً من هوية شعبها القادر تاريخياً على العيش في المناخات القاسية الباردة، وبالنظر إلى وقوع خُمس الأراضي الروسية ونحو 90في المئة من احتياطاتها الهيدروكربونية المستقبلية داخل الدائرة القطبية، حيث تعتبر الموارد الطبيعية عاملاً رئيسياً في تشكيل سياسة روسيا في القطب الشمالي، وعلى المدى الطويل، تبدو روسيا حريصة على تطوير أراضيها في هذه المنطقة وزيادة قدرتها على نقل الموارد، لا سيما المحروقات، إلى الأسواق العالمية.

ولروسيا سيطرة إدارية تجارية على طريق بحر الشمال، وقد ادعت أحقيتها فيما يُقدَّر بنحو 80في المئة من النفط والغاز تحت الجرف القطبي، لذلك تستثمر بقوة في البنية التحتية وتحسين وضعها العسكري في القطب الشمالي، حيث طوَّر الجيش الروسي قواعده العسكرية، وأعاد تخصيص المزيد من الأصول الجوية والبحرية في المنطقة، وسبقت روسيا غيرها من الدول في إنشاء كاسحات الجليد النووية وتطويرها وهي تمتلك اليوم أكثر من 50 كاسحة جليد نووية لها قدرة الحركة داخل هذه البيئة الجليدية الصعبة.

وللقطب الشمالي نصيب وافر في استراتيجية الأمن القومي التي ركزت في نسختها الجديدة لعام 2021 على “ضمان” مصالح روسيا المتعلقة بـ “تطوير” القطب الشمالي، مقارنة بالوثيقة السابقة التي كانت تتحدث عن “التعاون الدولي المفيد”، مما ينبئ بتوجه روسي منفرد يتطلع إلى تحويل المنطقة القطبية الشمالية إلى منطقة إنمائية ذات أهداف اقتصادية طموحة، بالإضافة إلى حماية المصالح الأمنية الروسية في الطريق البحري الشمالي، والتوسع في عمليات عسكرة القطب الشمالي، وربما سيعني هذا التوجه نهاية حقبة السياسة التعاونية في المنطقة القطبية الشمالية ورسم خطوط جديدة للصراع فيها.

ثالثاً: أوروبا والقطب الشمالي

رغم وقوع خمس دول أوروبية ضمن القطب الشمالي فإن الطموحات الأوروبية تتجاوز المساحة الجغرافية التي تشغلها أوروبا، والمنقسم انتماء دولها القطبية بين حلف شمالي الأطلسي والاتحاد الأوروبي، لكنها بمجملها تنتمي إلى مجلس القطب الشمالي وهو التنظيم الإقليمي الذي يجمع الدول القطبية الأوروبية مع روسيا والولايات المتحدة وكندا ودول أخرى وهو المسؤول عن إدارة المنطقة القطبية. إذن دولتان أوروبيتان قطبيتان تنتميان إلى الاتحاد الأوروبي وهما فنلندا والسويد، ودولتان أوروبيتان قطبيتان ضمن حلف شمال الأطلسي (الناتو) هما النرويج وآيسلندا، أما الدولة الخامسة الدنمارك (جزيرة غرينلاند) فهي تحتفظ بوضع مختلف، كونها الوحيدة بين هذه الدول الثلاث تجمع بين عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعضوية الاتحاد الأوروبي، وكون وجودها القطبي يتم من خلال جزيرة تابعة لها هي غرينلاند.

1. دول الاتحاد الأوروبي القطبية.. فنلندا والسويد

 سعت فنلندا والسويد خلال السنوات الماضية إلى دور أوسع للاتحاد الأوروبي ضمن الجهود الإقليمية للمنطقة القطبية جنباً إلى جنب مع آيسلندا والنرويج وروسيا، حيث تم تضمين القطب الشمالي كمجال ذي أولوية قصوى للتعاون الأوروبي [12]، ويأتي ذلك من خلال دعم وجود فاعل له في مجلس القطب الشمالي، وأبعاد المنطقة القطبية عن الصراعات الدولية، وإعطاء الأولوية لقضايا حماية البيئة والتحول المناخي والتحذير من زيادة فرص استخراج الوقود الأحفوري، بمعنى إيقاف الجهود الروسية – الصينية في استثمار النفط والغاز القطبيين.

لكن بعد تطورات الحرب الروسية – الأوكرانية خرجت السويد وفنلندا من حالة الحياد التي ميزت سياستيهما خلال العقود الماضية لتفتحا الباب أمام توسع جديد للناتو كي يمتد إلى أراضيهما التي كانت محايدة، ومن المتوقع أن يتقدما بطلب الانضمام إلى حلف الناتو في شهر يونيو/حزيران 2022 .

2. الدنمارك.. بين عضوية الناتو والاتحاد الأوروبي

لا تختلف الدنمارك التي تجمع بين عضوية الناتو والاتحاد الأوروبي عن فنلندا والسويد في الخطوط العريضة لسياستها القطبية في جزيرة غرينلاند التي تمتلكها مع تصاعد في مساعيها لتعزيز النفوذ الأوروبي في هذه الجزيرة وقطع الطريق على الصين وروسيا، وهناك قلق روسي من الوجود الأمريكي العسكري في جزيرة غرينلاند المملوكة للدنمارك، واعتبرته تهديداً مباشراً لمسار (السفن والغواصات) الروسية في المنطقة القطبية.

3. النرويج وآيسلندا الذراعان القطبيان للناتو

من ضمن الأهداف المعلنة لتدريبات “الرد البارد” Cold Response التي أجراها الناتو على أرض النرويج هي اختبار قدرات هذا البلد على استقبال تعزيزات حليفة في حال التعرض لعدوان خارجي، عملاً بالبند الخامس من ميثاق الحلف الذي ينص على الدفاع المشترك.

وتنظر النرويج بقلق إلى التعزيزات العسكرية الروسية في شبه جزيرة “كولا” القريبة، موطن الأسطول الشمالي لروسيا، لكنها تحاول في الوقت نفسه الحفاظ على علاقات حسن الجوار مع روسيا فيما يتعلق بإدارة مصايد الأسماك وتعاون خفر السواحل، لكن تداعيات الحرب في أوكرانيا قد تدفع باتجاه الصراع والقلق.

أما آيسلندا فهي تختلف عن باقي أعضاء الناتو كونها لا تمتلك جيشاً دائماً، وتقتصر قواتها الدفاعية على خفر السواحل العسكري وقوات حفظ السلام شبه العسكرية، ورغم وجود معارضة داخلية واسعة لعضويتها في الناتو، فإنها تستضيف القاعدة البحرية الأمريكية الشهيرة، التي تقع في مطار كيفلافيك بالقرب من عاصمة البلاد ريكيافيك، كما أنها تعتبر موقعاً استراتيجياً للمعلومات الاستخباراتية والإشارات بحكم موقعها المميز.

ومثلما دفعت الحرب الروسية – الأوكرانية السويد وفنلندا لدخول حلف الناتو، دفعت المعسكر المؤيد للاتحاد الأوروبي في آيسلندا والنرويج لتجديد الدعوة للدخول في الاتحاد، فالنرويجيون والآيسلنديون يرون أن الاتحاد الأوروبي يلعب دوراً رئيسياً في تحقيق حلول لأزمة المناخ والتحول الأخضر في الصناعات، إلى جانب دوره في قضايا الأمن والدفاع، التي تتراجع كوبنهاغن عن تحفظاتها عليها بفضل غزو أوكرانيا، وبدعم معظم أحزابها.

وفي هذا السياق، تذهب النرويج، الدولة العضو في حلف الأطلسي التي لا تزال خارج الاتحاد الأوروبي، نحو نقاشات مختلفة تماماً هذه المرة، فأوسلو التي باتت مقراً لوجود عسكري أمريكي في منطقة الدائرة القطبية الشمالية، وتحتضن مناورات وتدريبات شبه متواصلة منذ أكثر من عامين، تشهد حالياً نقاشات عميقة حول المتغيرات في القارة العجوز، وبشكل يفتح الباب أمام عضوية البلد في الاتحاد الأوروبي وهو ما ينطبق على آيسلندا.

4. السياسات القطبية لدول أوروبا الغربية

أكدت كل من فرنسا وألمانيا وسويسرا في أكثر من مناسبة الحرص على أمن القطب الشمالي واستقراره وسلامه، وتركز هذه الدول على الرحلات الاستكشافية والأبحاث العلمية فقد أثبتت فرنسا اهتمامها بالمنطقة القطبية الشمالية، منذ أن أنشأت قاعدة لإجراء البحوث العلمية في الأرخبيل النرويجي سفالبارد عام 1963، وترى ألمانيا أن المشكلات العالمية لم يعد بالإمكان حلها من خلال التحرك الفردي لذلك اقترحت على كندا وفرنسا ودول أخرى تشكيل تحالف لمعالجة القضايا معاً بطريقة وصفتها بالبراغماتية. أما سويسرا التي تحمل صفة مراقب في مجلس القطب الشمالي منذ عام 2017 ترى أن العداء الجيوسياسي الحالي في القطب الشمالي يمثل تهديداً لها ولأمن أوروبا، وأن مسائل حماية البيئة والأمن البشري هي من التحديات العالمية المشتركة، وبالتالي فالقطب الشمالي يحتاج إلى أن يكون مرساة للاستقرار ومثالاً للحكم بروح التعاون والتعددية، وبالنتيجة هي تدعو إلى آليات لحل الأزمات بالوسائل السلمية والحد من النشاط العسكري.

 5. بريطانيا ومواجهة التحديات

بريطانيا التي سبقت غيرها في استكشاف القطب الشمالي، تسعى اليوم للتعاون مع الولايات المتحدة وكندا للتصدي لما تصفه بالتحديات المتصاعدة من قِبل قوى دولية، في منطقة القطب الشمالي على رأسها روسيا والصين.

6. أوروبا والدور الأمريكي

 تتعاطى الولايات المتحدة الأمريكية مع الجزء القطبي من أوروبا من خلال أكثر من اتجاه، الأول من خلال عضويتها في مجلس القطب الشمالي كونها من بين الدول الثماني القطبية، والثاني من خلال حلف الناتو، حيث لواشنطن أولويات استراتيجية ربما لم يكن القطب الشمالي في مقدمتها، فقد مرّت الاستراتيجية الأمريكية خلال العقدين الأخيرين بمراحل مختلفة. وإذ خضعت الاستراتيجية الأمريكية في أوروبا بعد الحرب الباردة إلى تغييرات واضحة المعالم، فقد كانت تهدف إلى إعادة تأهيل القوات العسكرية في أوروبا الوسطى والشرقية تمهيداً لانضمامها في نهاية المطاف إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، لكنها تغيرت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتتجه نحو تعزيز قدرة تلك الدول على المشاركة في عمليات القتال خارج قارة أوروبا، كما حصل في حربي أفغانستان 2002 والعراق 2003[.

وبعد تنامي القوة الصينية واجتياح القوات الروسية لشبه جزيرة القرم عام 2014 أخذ الناتو بتقليص عملياته في أفغانستان فيما قللت الولايات المتحدة وحلفاؤها من تدخلهم الإجمالي في العمليات الدائرة في الشرق الأوسط في الوقت نفسه، وقد أدت الحرب الروسية على أوكرانيا إلى إعادة التركيز على ضمان الأمن الإقليمي لحلفاء الناتو في أوروبا الوسطى ضد أي تهديد روسي محتمل، حيث يسود احتمال وقوع نزاع بين الناتو وروسيا، في كل أرجاء البحر الأسود والبلقان وغيرها، وتشكل دول البلطيق المنطقة الأكثر إثارة لقلق الناتو، ولذلك فإن تعزيز الردع وإعادة الاطمئنان في البلطيق يشكلان أولوية رئيسية ترسم معالم الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة بوجه التوتر المتجدد مع روسيا.

 كما يمكن ملاحظة صعود حوض الباسيفيك إلى مقدّمة أولويّات الولايات المتحدة الاستراتيجيّة في العالم، وتراجع موقع الشرق الأوسط وأوروبا، وعدم التركيز على مواجهة روسيا في القطب الشمالي قبل الحرب في أوكرانيا لاسيما خلال الحقبة الترامبية التي أعادت النظر في الكثير من أولويات الإنفاق الخارجي في مختلف أنحاء العالم.

رابعاً: مستقبل الدور الأوروبي في القطب الشمالي

ترى الدول الأوروبية أنها معنية أكثر من غيرها في دخول معادلة التنافس الدولي القطبي الجديد، بدوافع عدة، المعلن منها هو الحفاظ على البيئة، والاستكشافات والبحوث العلمية، والتعاون الدولي في حفظ استقرار المنطقة القطبية وأمنها وسلامة سكانها وكائناتها الحية، والمخفي منها هو المخاوف من تغول الوجودين الروسي والصيني في هذه المنطقة الحيوية المهمة، واستحواذها على ثرواتها ومواقعها الاستراتيجية، لاسيما بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وتعاظم الاهتمام الروسي في المنطقة مع دخول الصين الباحثة عن الموارد وطرق الملاحة، وبالمقابل تصاعد الاهتمام الأمريكي – الكندي بتعزيز وجودهما القطبي، الأمر الذي يجعل أوروبا هي الحلقة القطبية الأضعف بين قوة روسيا وهيمنة أمريكا وهو ما لا تريده الدول الأوروبية التي بدأت بالدخول بشكل قوي وواضح إلى دائرة التنافس القطبي لضمان أكبر قدر من مصالحها الحيوية عبر ثلاث قنوات هي الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ومجلس القطب الشمالي:

1. دور قطبي أوسع للاتحاد الأوروبي:

في عام 2016 حدد الاتحاد الأوروبي ثلاثة أهداف رئيسية في سياسته في القطب الشمالي، الأول حماية القطب الشمالي والحفاظ عليه في انسجام مع سكانه، الثاني تعزيز الاستخدام المستدام للموارد، والهدف الثالث هو المساهمة في إدارة أفضل متعددة الأطراف في القطب الشمالي أي التعاون الدولي، كما طرح الاتحاد الأوروبي مشروع (الصفقة الأوروبية الخضراء) الذي يهدف إلى جعل أوروبا أول قارة محايدة مناخياً بحلول عام 2050، ويأتي تعزيز الاقتصاد الأزرق المستدام في صميم استراتيجية الاتحاد في التعامل مع القطب الشمالي التي تطرح مسألة الإبقاء على النفط والغاز والفحم في الأرض، بما في ذلك في المناطق القطبية الشمالية، وتوطيد وجود الاتحاد الأوروبي الدائم في غرينلاند.

ومن المؤكد أنه سيكون للاتحاد الأوروبي دور أكبر في المنطقة القطبية بعد الحرب في أوكرانيا ومن الممكن توسعه ليضم كامل الدول الأوروبية القطبية الخمس إذا دخلت النرويج وآيسلندا ضمن الاتحاد الأوروبي، وسيدفع باتجاه منع روسيا من استثماراتها للموارد الطبيعية في القطب الشمالي.

2. حلف شمال الأطلسي (الناتو):

في القطب الشمالي يغطي الناتو خمسة من بين ثماني دول قطبية، وهي كندا، والدانمارك، والنرويج، الولايات المتّحدة، وآيسلندا، وفي حال انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو سيغطي الناتو كامل المنطقة القطبية باستثناء الأرض والمياه الروسية التي تشكل نحو نصف مساحة القطب الشمالي.

لذلك يسعى الناتو إلى تعزيز وجوده العسكري في المنطقة القطبية من خلال تكثيف تدريباته وتعزيز قواعده العسكرية في النرويج، والتأكيد على الرغبة في ضم السويد وفنلندا إلى عضويته، والواضح هو قلق الحلف من فراغ أمني ربما يؤدي إلى تغذية الطموحات الروسية حسب رأي الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “الناتو” ينس ستولتنبرغ. وتشير أغلب التصورات إلى أن توسع الناتو القطبي سيتسبب في تحويل هذه المنطقة إلى ساحة صراعات بين روسيا من جهة والدول الأوروبية الأطلسية من جهة أخرى لاسيما بعد الحرب في أوكرانيا، وقد كتبت مجلة “Stern” الألمانية أن منطقة القطب الشمالي قد تصبح منطقة جديدة للتنافس بين روسيا وحلف الناتو

 فإذا قررت السويد وفنلندا الانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي، سيدفع ذلك روسيا إلى اتخاذ خطوات تصعيدية قد تتسبب بحرب جديدة، حيث روسيا سبق وحذرت من أنها قد تقوم بالرد على هكذا خطوة، وكذلك كانت واضحة تجاه فنلندا بأنها قد تعتبر عضوية هذه الأخيرة في منظمة حلف شمال الأطلسي تدبيراً عدوانياً، ربما يتسبب في إشعال حرب عالمية ثالثة.

3. مجلس القطب الشمالي:

يدار القطب الشمالي من خلال مجلس القطب الشمالي الذي تأسس عام 1996 بعد توقيع 8 دول على إعلان أوتاوا، ويضم المجلس خمس دول لها سواحل ممتدة على المحيط القطبي هي كندا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والدنمارك والنرويج، بالإضافة إلى ثلاث دول أخرى هي فنلندا والسويد وآيسلندا، كما يضم المجلس 12 دولة تحمل صفة مراقب، ومجموعات من السكان الأصليين تحت اسم “المشاركون الدائمون”. وسعت دول الاتحاد الأوروبي الأعضاء في هذا المجلس إلى ضمان دور أكبر للاتحاد لأهداف ترتبط بالمفهوم الجيواستراتيجي الأوروبي لهذه المنطقة الحيوية من العالم.

وفي آخر موقف واضح خرَجَ مجلس القطب الشمالي من حياديته بعد أن دانت دول المجلس، الهجوم الروسي على أوكرانيا، واصفة إياه بـ “غير المبرر” وأصدرت كندا والدنمارك وفنلندا وآيسلندا والنرويج والسويد والولايات المتحدة، بياناً مشتركاً، نشرته وزارة الخارجية الأمريكية، أكدت فيه أن روسيا انتهكت المبادئ الأساسية للسيادة والسلامة الإقليمية المستندة إلى القانون الدولي التي شكلت أساس عمل مجلس القطب الشمالي الذي تترأسه روسيا حالياً ونتيجة لهذا الموقف توقفت هذه الدول عن المشاركة في اجتماعات مجلس القطب الشمالي وهيئاته الفرعية.

خاتمة:

لم يعد التحول المناخي وانفتاح طرق مواصلات جديدة هو وحده من يدفع إلى تغيير المعادلات الجيواستراتيجية في منطقة القطب الشمالي، إنما هناك مدخلات جديدة سوف تجعل هذه المنطقة الباردة على موعد مع سباق تسلح أوروبي أطلسي روسي، وربما تتحول المنطقة القطبية من بقعة للتعاون الدولي إلى مسرح للعمليات العسكرية إذا انطلقت من تحت الجليد شرارة حرب عالمية محتملة.

إن سخونة الأرض الباردة والبحار المتجمدة تشعلها خطوات الناتو الذي يخطط لتكرار السيناريو الأوكراني مع فنلندا والسويد وبالتالي يتكرر سيناريو التعاطي الروسي مع الأمر وربما يكون بشكل مختلف لاختلاف واقع أوكرانيا التي تتداخل مع روسيا ديموغرافياً وتاريخياً كونها جزءاً من إمبراطوريتها السابقة عن دول مستقلة، مثل: السويد وفنلندا التي احتفظت بحيادها منذ الحرب العالمية الثانية لغاية حرب أوكرانيا.

إن أوروبا التي عملت خلال العقود الماضية على دعم أمن المنطقة القطبية واستقرارها وتغليب جانب التعاون الدولي في إدارتها، تتجه اليوم بقوة عبر دور أكبر للاتحاد الأوروبي الذي سيغطي كامل الأرض والمياه التي تخص أوروبا في المنطقة القطبية، لتكون من بين الدول الثماني القطبية سبع دول تحت مظلة الناتو خمس منها أوروبية إضافة إلى كندا والولايات المتحدة، ومن المتوقع أن تدخل النرويج وآيسلندا تحت مظلة الاتحاد الأوروبي ليتعاظم دوره على الأرض والسماء والمياه القطبية. فالحرب في أوكرانيا أثارت قلق أوروبا والناتو ودفعت النرويج وكندا والولايات المتحدة إلى التحرك بشكل سريع من أجل إيقاف الدب الروسي عن تمدده الذي يثير قلق الغرب بشكل عام وأوروبا على وجه الخصوص.

أما روسيا فستجد نفسها خلال المستقبل القريب بين مطرقة الأطلسي وسندان الاتحاد الأوروبي بهدف محاصرتها وتطويقها أمنياً واقتصادياً، لاسيما بعد حزم العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة التي أعقبت حربها على أوكرانيا وموقف دول مجلس القطب الشمالي منها وقرارهم مقاطعتها إلى إشعار آخر، الأمر الذي يشعرها بأن شركاءها الأوروبيين في مجلس القطب الشمالي يخططون لإبقاء الصوت الروسي وحيداً معزولاً داخل المجلس، أمام سبعة أصوات متناغمة لسبع دول أوروبية أطلسية بينها الولايات المتحدة وكندا والدول الأوروبية الخمسة التي ستجمع بين عضوية الناتو والاتحاد الأوروبي. وسيكون على روسيا أن تسعى إلى العمل على تفتيت خصومها وتوظيف عناصر تفوقها والاستعانة بحلفاء أقوياء، مثل: الصين والهند، كذلك تمتلك روسيا التفوق العسكري والجيوسياسي في هذه المنطقة الحيوية من العالم، الأمر الذي يجعل خيار الحرب هو المستبعد بالنسبة إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، فأوروبا والولايات المتحدة تدركان جيداً أن أي حرب قطبية ستكون خياراً خاسراً بالنسبة إليهما.