خلال السنوات الأربع الماضية عززت روسيا من نفوذها في القارة الأفريقية بشكل ملحوظ، وتحديداً في بلدانها التي تواجه معارضة مسلحة، أو تهديدات جماعات إرهابية عابرة للحدود الوطنية، أو صراعات حدودية، مثل: إثيوبيا وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى ومالي.
وإذا كانت أفريقيا قد احتلت موقعاً مهماً في العهد السوفييتي؛ فإنها لم تعد تُعتبر أولوية في السياسة الخارجية الروسية مع نهاية الحرب الباردة، وبدا تأثيرها في أفريقيا هامشياً في أحسن الأحوال. وسرعان ما تغير هذا الحال بعد تسلم الرئيس فلاديمير بوتين السلطة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إذ أعادت موسكو تفعيل علاقاتها الأفريقية، بما يتماشى مع التموضع الجيوستراتيجي المتزايد للاعبين الدوليين في أفريقيا. وفي الوقت الذي اشتد فيه التنافس بين روسيا والغرب، وتصاعد الحديث عن “حرب باردة جديدة”، بدت القارة الأفريقية متغيراً مهماً في التنافسات بين القوى الكبرى في العالم، لاسيَّما الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا.
وعلى هذا الأساس، اعتمدت العلاقات الروسية-الأفريقية على توظيف السرديات القائلة بعدم امتلاك الروس ماضٍ استعماري في أفريقيا، والنأي عن التدخل في الشؤون الداخلية لدولها، لتتجه إلى مساندة النظم القائمة التي تواجه معارضة مسلحة أو جماعات إرهابية في بلدانها.
ولعل ما توفره أفريقيا لروسيا، بحكوماتها الضعيفة، ومواردها الطبيعية الوفيرة، وقربها من أوروبا، مع أربعة وخمسين صوتاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يمثل فرصة سانحة لتعزيز مصالح موسكو بتكاليف مالية أو سياسية محدودة.
وفي هذا الإطار تهدف هذه الورقة إلى تعرُّف الركائز الأساسية لاستراتيجية الاتحاد الروسي لتوسيع نفوذه في أفريقيا، منذ وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة. وتتبع أبرز الروابط التي نشأت خلال هذه المرحلة، وأخيراً مآلات العلاقات بين الطرفين عقب الحرب الروسية-الأوكرانية.
أولاً- الاهتمام الروسي بالقارة الأفريقية:
أصبحت روسيا في الأعوام الأخيرة لاعباً محورياً في السياسة الدولية، يمتد تأثيرها إلى شرق أوروبا والشرق الأوسط، وإلى أكثر من رقعة جغرافية في أفريقيا. وقد أخذت تنأى بنفسها عن توجهاتها التي عقبت مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي، للانخراط مع الدول الأوروبية لتشكيل “أوروبا الكبرى” من لشبونة إلى فلاديفوستوك.
ومع تزايد حالة عدم الرضا المتبادل والشك بين روسيا والغرب، تغير التوجه الروسي نحو شراكة أوراسية، أفصح عنها الرئيس بوتين في مقال نشره في صحيفة إزفستيا في 3 أكتوبر 2011 بعنوان “مشروع تكامل جديد لأوراسيا: المستقبل قيد التصنيع”، معلناً فيه خروج روسيا من أوروبا ومن الغرب بشكل عام، بهدف بناء رابطة قوية فوق وطنية قادرة على أن تصبح أحد أقطاب العالم الحديث، وتعمل كجسر فعال بين أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ.
وقد تأكد هذا التوجه عندما تبنت موسكو تعزيز مكانتها بوصفها قوة عظمى في الساحة الدولية، وتوظيف عناصر القوة التي تتوافر عليها، ابتداءً من موقعها الاستراتيجي الذي يشغل مساحات من أوروبا وآسيا، وكذلك امتلاكها لثروات واسعة، وقوة عسكرية كبيرة، مع نفوذ سياسي متعاظم، ورصيد من علاقات الحقبة السوفييتية السابقة.
وبالإمكان الكشف عن تأثيرات النهج الأوراسي في الممارسة السياسية الروسية بعد انتزاعها شبه جزيرة القرم في عام 2014، والتدخل العسكري في جورجيا وأوكرانيا، والوجود في سوريا وليبيا، وبالتمدد في الشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء، ومحاولاتها خلخلة بنية الناتو، باستقطاب تركيا وتزويدها منظومة “إس-400” أو التعاون معها في ملفات استراتيجية، من آسيا الوسطى إلى شرق المتوسط.
ومن هنا اتجهت موسكو نحو إعادة إحياء علاقات وروابط كانت قائمة خلال حقبة الحرب الباردة، عندما دعم الاتحاد السوفييتي السابق بعد عام 1950 الحركات الاشتراكية الأفريقية، ودول القارة المستقلة حديثاً وحركات التحرّر المناهضة للاستعمار.
وشهدت فترة الحرب الباردة، اهتماماً سوفييتياً بدول العالم الثالث، بما فيها الدول الأفريقية، لمواجهة تزايُد التأثير الأمريكي في النظام الدولي، وقد تخلّصت من عوائق مركزية السياسة الستالينية الموجّهة لأوروبا، والعمل على تقوية تأثيرها في أفريقيا، من خلال إنشاء علاقات اقتصادية كانت أغلبها مع مصر والجزائر.
كما دعم الاتحاد السوفييتي السابق أنظمة الحكم في مصر والجزائر وليبيا، مقابل الحصول على منافذ بحرية وجوّية في تلك الدول، تسهّل عليه الاستعانة بها في حالة حدوث أي توتر مع الغرب وخاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد تشكل النظام الدولي الأحادي القطب، شهدت العلاقات الروسية-الأفريقية تدهوراً واضحاً عندما أعلن بوريس يلتسين في نهاية عام 1991 عن إيقاف بلاده سياسة المساعدات الخارجية، وأن روسيا ستطلب من الدول الأفريقية سداد ديونها في أسرع وقت ممكن. كما أغلقت موسكو في عام 1992 سفاراتها في 9 دول بأفريقيا من بينها: بوركينافاسو، غينيا الاستوائية، ليبيريا، التوغو، والصومال، إضافة إلى إغلاق قنصلياتها في كل من موزمبيق، أنغولا، مدغشقر، والكونغو.
وعند وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة عام 2000، تزايد الاهتمام بتعزيز العلاقات الروسية-الأفريقية، وبدأت موسكو في تنشيط استراتيجيتها الجديدة لاختراق القارة الأفريقية، عبر عدد من وسائل القوة الناعمة، ومنها سياسة إلغاء الديون التي انتهجها كلّ من بوتين وميدفيديف، والتي تعبر عن عزم الروس على لعب دور محوري في القارة الأفريقية مقابل خيارات من بينها؛ استبدال هذه الديون بتوقيع اتفاقيات جديدة في المجال العسكري أو الصيد البحري، أو تحصيلها عن طريق تحويل أسهم بعض الشركات الوطنية الأفريقية باسم الشركات الروسية، أو بمنح تراخيص استغلال المعادن الثمينة لمصلحة الشركات الروسية.
ونشير هنا إلى الاتفاقيات التي وقعت ما بين موزمبيق وروسيا في مارس 2013، التي استُبدلت بموجبها ديون الأولى لروسيا والبالغة 144 مليون دولار بمشاريع تنموية. إذ تم في 22 ديسمبر 2015 التوقيع على اتفاقية للتعاون العسكري الفني بين الجانبين، وفي أكتوبر 2016، وقع البلدان أيضاً اتفاقية لإنشاء لجنة للتعاون الاقتصادي والعلمي والتقني.
وبحسب الرئيس بوتين فإن أفريقيا هي إحدى أولويات السياسة الخارجية الروسية، ما يعني تقديم الدعم السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والعسكري لبلدانها، وتعكس هذه التطورات تزايداً في الاهتمام الروسي حيال القارة وإيذاناً ببدء التحرك لتعزيز مكانة موسكو بوصفها قوة عظمى، وتقوية نفوذها الجيوسياسي، والعمل على إحداث تغيير في النظام الدولي ليعاد تشكيله بأقطاب متعددة.
ومن وجهة نظر مغايرة، فإن العلاقات الاقتصادية قد لا تحتل مركز الصدارة بالنسبة إلى طموحات روسيا في أفريقيا، وأن اهتمام الروس بالقارة، يعكس الرغبة في توسيع دائرة نفوذهم، وتقوية مكانتهم الدولية. فتعثر الاتفاق بين شركة غازبروم في عام 2009 وشركة النفط الوطنية النيجيرية المملوكة للدولة، يقف خلفه دافعٌ روسيّ يُراد به منع نيجيريا من أن تكون مصدراً بديلاً لروسيا في إمداد السوق الأوروبي بالغاز.
ويطرح لاي يحيى، كبير مستشاري السياسات لدى الممثل السامي للاتحاد الأفريقي لتطوير البنية التحتية في أفريقيا، تساؤلاً عما إذا كانت روسيا تمتلك القوة المالية الكافية للاستثمار بكثافة في أفريقيا، وتحديداً في مجال البنية التحتية للالتزام باستثمارات كبيرة كما تفعل الصين.
ثانياً- علاقات بمسارات متعددة:
اتخذت العلاقات الروسية-الأفريقية العديد من المسارات، في الآتي:
1- الزيارات والعلاقات الدبلوماسية المتبادلة: أفضى تزايد الاهتمام الدولي بالقارة الأفريقية، إلى أن تصبح العلاقات بين الروس والأفارقة أکثر ديناميكية، لتسهيل الوصول الآمن إلى الموارد الطبيعية واحتياطيات الطاقة، فضلاً عن الزيارات الرسمية التي قام بها القادة الأفارقة إلى موسكو، إذ زار 12 قائداً أفريقياً موسكو منذ عام 2015، وشهد عام 2018 وحده ست زيارات
وينظر إلى القمة التي عقدت بين روسيا ودول أفريقيا في مدينة سوتشي المطلة على البحر الأسود في 23 أكتوبر 2019، بوصفها منطلقاً لتعزيز العلاقات بين الجانبين، لجهة إرساء الأسس لزيادة التعاون التجاري بينهما عبر مختلف المجالات، إذ تم تحديد المجالات ذات الأولوية للتعاون الاقتصادي وعلى رأسها الطاقة، بما في ذلك مصادر الطاقة المتجددة؛ وتطوير البنية التحتية، وخاصة بناء السكك الحديدية والمساكن؛ والتعدين ومعالجة المعادن؛ الزراعة والتقنيات الرقمية، والطب والعلوم والتعليم.
ولهذا بدأت روسيا في تنفيذ استراتيجية متعددة المسارات لتحقيق مزيد من التوسع في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وكثفت من وجودها السياسي والدبلوماسي في القارة، عبر لعب دور الوسيط بين الأطراف المتصارعة في العديد من الدول الأفريقية.
2- العلاقات العسكرية: ساعدت في توفير الأسلحة والمعدات والتدريب العسكري اللازم لمكافحة التنظيمات الإرهابية المتطرفة في تلك الدول، إضافة إلى مشاركتها الفعالة في عمليات حفظ السلام في الدول الأفريقية. وكجزء من استراتيجية روسيا الكبرى لإقامة علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية مع العديد من الدول الأفريقية، زادت موسكو من أنشطتها في سوق الأسلحة الأفريقية، إذ تعتبر مبيعات الأسلحة عنصراً أساسياً في السياسة الخارجية لروسيا، وتخضع لسيطرة الحكومة لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاستراتيجية لموسكو، كما توفر مبيعات الأسلحة الروسية مصدراً مهماً للعملة الصعبة.
وتسيطر روسيا على 49في المئة من واردات السلاح الموجهة للسوق الأفريقية، وتعد كلاً من الجزائر وأنغولا ومصر والمغرب ونيجيريا والسودان والسنغال وزامبيا من بين أبرز عملائها، حيث تلقى الأسلحة الروسية اهتماماً كبيراً في القارة، لقلة تكلفتها وسهولة صيانتها. ووفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام شكلت الأسلحة بين الأعوام 2014 و2019 ما يعادل 16في المئة من الصادرات الروسية إلى أفريقيا، حصلت الجزائر على 80في المئة منها
وفي عام 2015، تم توقيع اتفاقيات تعاون عسكري مع أكثر من 20 دولة أفريقية، كما أبرمت روسيا ما بين عامي 2017 و2018، صفقات أسلحة مع أنغولا ونيجيريا والسودان ومالي وبوركينا فاسو وغينيا الاستوائية، شملت الصفقة الطائرات المقاتلة، وطائرات الهليكوبتر القتالية، وعربات النقل، والصواريخ المضادة للدبابات، ومحركات الطائرات المقاتلة. وبحسب ما أعلنته وكالة تصدير الأسلحة الروسية فإن قيمة توقيعها لعقود تصدير السلاح لدول أفريقية بلغت بحدود 1.5 مليار دولار في عام 2020. ولهذا لا يجانب الصواب من يعتبر الاتساع الكبير لهذه التجارة الذي شهدته الأعوام السابقة، ينبئ بعدم تخلي الروس عن مركزهم المهيمن في هذه السوق.
3- توطيد العلاقات الاقتصادية والاستثمارية: إلى جانب تجارة السلاح، أضحت الموارد الطبيعية محركاً لتوطيد العلاقات الروسية-الأفريقية، إذ تسهم أفريقيا بما نسبته 7في المئة من الإنتاج العالمي من الغاز الطبيعي، باحتياطيات تقدر بـ513.2 تريليون قدم مكعب، إضافة إلى اليورانيوم الذي يتركز إنتاجه بشكل أساسي في جنوب أفريقيا والنيجر وناميبيا، والكوبالت الذي تنفرد بامتلاكه الكونغو التي توفر ما يصل إلى 55 في المئة من إجمالي المعروض العالمي كما تنتج القارة كميات كبيرة من البوكسيت وتحتل المرتبة الخامسة عالمياً في إنتاجه، ويوجد في غانا وموزمبيق وغينيا
وتمتلك روسيا استثمارات كبيرة في زيمبابوي، بما في ذلك مشروع تعدين مشترك بمليارات الدولارات في منطقة غريت دايك، والتي تضم واحدة من أكبر مناجم البلاتين في العالم. كما تشارك موسكو أيضاً في عمليات تعدين الذهب والماس في هذا البلد.
كما تمكنت الشركات الروسية الرئيسية من إبرام العديد من عقود التعدين واستغلال الموارد الطبيعية مع العديد من الحكومات الأفريقية، ونجحت دبلوماسية الطاقة الروسية في الحصول على امتيازات لبناء محطات طاقة في مصر وإثيوبيا، إضافة إلى التفاوض على صفقات التنقيب عن النفط مع غانا ومدغشقر
4- التعاون في مجال الطاقة النووية: حظي التعاون النووي الروسي-الأفريقي بمساحة واسعة عندما أعلنت شركة روساتوم الروسية عن توقيعها اتفاقية مع نيجيريا لبناء محطة للطاقة النووية وتشغيلها، وتأسيس مركز أبحاث في أكبر اقتصاد في أفريقيا كما وقع الروس خلال قمة سوتشي 2019، اتفاقيات تعاون مختلفة في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية مع 18 دولة، بما في ذلك مذكرة تفاهم مع إثيوبيا للتعاون في مجال الطاقة النووية للاستخدامات السلمية. واشتملت الصفقة أيضاً إنشاء مركز للعلوم والتكنولوجيا النووية في إثيوبيا، وبناء محطة نووية عالية الطاقة، إضافة إلى التعاون في مجال مراقبة المواد النووية المشعة، وإنتاج النظائر لاستخدامها في الصناعة والطب والزراعة.
والخلاصة، أن الاستراتيجية الروسية في أفريقيا ترتكز على بناء النفوذ، واستغلال الفرص الاقتصادية والاستثمارية، والحصول على الدعم السياسي لمبادرات موسكو في المنتديات الدولية، وكذلك تقوية الوجود العسكري الروسي على الجناح الجنوبي لحلف الأطلسي.
ثالثاً- التصويت الأفريقي حول الحرب في أوكرانيا: انعكاس لعلاقات متنامية:
تمثل أفريقيا كتلة مؤثرة حيث تشكل ربع الدول الأعضاء في النظام الدولي، ما يعني قوة ضاغطة قد تدعم السياسات الروسية. وهو ما عبّر عنه مستشار الأمن القومي السابق، جون بولتون، في عام 2018، متهماً روسيا ببيع أسلحة لدول أفريقية مقابل التصويت لدعم سياساتها في الأمم المتحدة
وعلى الرغم من أن أكثر من نصف الدول الأفريقية أيدت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن إدانة الحرب في أوكرانيا؛ فإن العديد من هذه الدول تتجنب اتخاذ مواقف علنية قوية من الحرب، وأعلن بعضها حياده، بينما وقفت إريتريا ضد القرار
وتفسر الأصوات الأفريقية المساندة لسياسات الروس في الأمم المتحدة من زاوية تاريخية العلاقات المشتركة، وتطابق وجهات النظر الروسية والأفريقية المعادية للغرب وسياساته، أو رداً على تصعيد العقوبات التي تعرضت لها دول بمبادرة من الولايات المتحدة وأوروبا كما هو الحال بالنسبة لإرتيريا. أو لعدم تقديم الأوروبيين الدعم الكافي لتوسيع الوجود الأفريقي في أنظمة التجارة العالمية، إذ أبعدت الرسوم الجمركية والتدابير الحمائية أفريقيا عن الأسواق الأوروبية
وتسببت الاستجابة العالمية غير المتكافئة لـCOVID-19 في تراجع الثقة بين أوروبا وأفريقيا، كما خلقت شعوراً بالحذر بين القادة الأفارقة. إذ لم يعد بعضهم ينظر إلى الدول الغربية كشركاء موثوق بهم بحسب ما أكده رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا في قمة فبراير 2022 بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي
وكان فيروس COVID-19 بمنزلة الفرصة السانحة لبوتين لتقوية علاقات موسكو بالدول الأفريقية حيث تبرعت روسيا بأكثر من 300 مليون جرعة من جرعات لقاح Sputnik إلى الاتحاد الأفريقي في محاولة لتعزيز نفوذه
وفي السياق نفسه تمكنت روسيا من استغلال الإحباطات الشعبية الناتجة عن سياسات مكافحة الإرهاب الغربية الفاشلة في أفريقيا، وما ارتبط بها من تصاعد المخاوف المتعلقة بالنفوذ الاستعماري الجديد، فضلاً عن تراجع الاهتمام الأمريكي بشؤون القارة، ما دفع الروس لسد الفراغ الناجم عن هذا التراجع، والعمل على تعزيز نفوذهم عبر اتفاقيات تعاون عسكري وعقود استثمارية.
ولذلك لم يكن مستغرباً أن تسعى روسیا إلى إعادة تفعيل العلاقات مع الدول الأفريقية، وتعزيز تأثيرها السياسي في الساسة الأفارقة، حتى تتمکن من مواكبة النفوذين الصيني والأمريكي في القارة؛ ففي عام 2019، بلغ إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في أفريقيا نحو 44 مليار دولار أمريكي، وهو ما يمثل 2في المئة من الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني العالمي. بينما بلغ إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر من الولايات المتحدة في أفريقيا 78 مليار دولار أمريكي؛ ما يجعلها أكبر مستثمر في القارةكما يأتي اهتمام روسيا بأفريقيا، للحد من عزلة موسكو الدولية والدبلوماسية بعد ضمها لشبه جزيرة القرم عام 2014 ومواجهة العقوبات الاقتصادية، والعمل على توطيد العلاقات مع حلفاء جدد، بقصد تشكيل نظام عالمي بأقطاب متعددة.
رابعاً- روسيا في قوس عدم الاستقرار الأفريقي:
يمتد هذا القوس اليوم على رقعة من البلدان غير الآمنة، ذات النظم الاستبدادية، والتي تشكل قوساً من عدم الاستقرار. بدءاً من السودان عام 2017، ووصولاً إلى إثيوبيا وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، ثم مالي وتشكل بوكو حرام والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجماعات مسلحة أخرى تهديداً مستمراً لاستقرار دول هذا القوس.
وتسببت أعمال العنف وانتشار الجماعات الإرهابية في أفريقيا إلى فتح الأبواب للتدخل العسكري الروسي. فعلى سبيل المثال، طلبت خمس دول في منطقة الساحل المضطربة وهي: بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر دعم موسكو العسكري في عام 2018. كما اشترك الروس في عمليات عسكرية في موزمبيق وأنغولا
وتحاول موسكو تصوير نفسها كحليف موثوق به في القتال ضد الجماعات الإرهابية والمتمردين، مقارنة بالقوات الفرنسية التي انسحبت من مالي عندما تولى المجلس العسكري السلطة في عام 2020. وتركت البلاد في أوضاع عسكرية واستراتيجية صعبة تنتشر فيها العصابات المسلحة والجماعات الإرهابية، لتكون روسيا لاعباً جديداً في منطقة الساحل، نجحت في التسلل إلى المنطقة من خلال الثغرات التي فشل منافسوها الغربيون في تأمينها.
وفي جمهورية أفريقيا الوسطى التي وصلها المرتزقة الروس في عام 2018 بعد انسحاب فرنسي آخر، تمكنت روسيا من التصدي للجماعات المتمردة على الحكومة في بانغي، ليشهد النفوذ الروسي اتساعاً كبيراً لدرجة مشاركة موسكو في محادثات السلام بين الحكومة والمتمردين
وما يفسر النفوذ الروسي السريع في أفريقيا لا يخرج عن دائرة الرئيس بوتين الذي ينظر إليها على أنها الحدود الثانية، بعد شرق أوروبا، لتطويق أوروبا الغربية. إضافة إلى تدني ثقة بعض البلدان الأفريقية في الإصلاحات الديمقراطية الليبرالية، وتطابقها مع وجهات النظر الروسية-الأفريقية في مواجهة مسعى الغرب في فرض هيمنته وقيمه على الآخرين.
وتأكيداً على ما تقدم، نشير إلى ما قاله الرئيس بوتين في القمة الروسية-الأفريقية التي عقدت في عام 2019، عندما ألقى باللوم على الإرهاب والأيديولوجيات المتطرفة والإجرام العابر للحدود باعتبارها من العوامل الرئيسية التي تعرقل تنمية الدول الأفريقية. وقال في هذا الصدد: “نعتبر أنه من المهم زيادة الجهود المشتركة في مكافحة الإرهاب والتطرف. ونخطط لتكثيف الاتصالات بين أجهزة إنفاذ القانون والأجهزة الخاصة في روسيا والدول الأفريقية وتنسيق الجهود وتبادل المعلومات ذات الصلة”
وتوجد روسيا في أفريقيا عبر مجموعة فاغنر، والتي توصف باللاعب المحوري في حروب الوكالة في الشرق الأوسط وأفريقيا، ولديها ما لا يقل عن 6000 موظف. وقد ظهرت المجموعة لأول مرة في أوكرانيا عام 2014، حيث ساعدت الجيش الروسي على ضم شبه جزيرة القرم، لتتفرع عنها شبكة عنكبوتية من القوات شبه العسكرية والشركات الخاصة التي قاتلت في سوريا وليبيا والسودان ومدغشقر وموزمبيق، وجمهورية أفريقيا الوسطى ومالي
وتوفر المجموعة معلومات استخباراتية، وتضع خططاً تدريبية، وتقدم دعماً لوجستياً للنظم الحاكمة، وتقوم بحماية البنية التحتية، ومساندةً الميليشيات والجماعات شبه العسكرية في النقاط الساخنة الرئيسية حول العالم، بما في ذلك أوكرانيا وسوريا وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى. ويعتقد الكثير من المحللين أن يفغيني بريغوزين رجل الأعمال الثري الذي له صلات بالرئيس بوتين، هو من يمول هذه المجموعة، رغم نفيه لأي علاقة له بفاغنر وتنفي الحكومة الروسية أي صلات لها بشركات عسكرية وأمنية خاصة روسية، ومن بينها مجموعة فاغنر
وفي الإطار ذاته، فإن الكثير من الشراكات والصفقات الروسية في أفريقيا، تمت عبر الشركات العسكرية الخاصة، التي تدير أنشطة المرتزقة ومن بينها مجموعة فاغنر، والتي تعمل على التحرك بسرعة عند حدوث حالات من عدم الاستقرار، في دولة ما لتأمين الشخصيات التي تولت زمام السلطة وكانت لها علاقات مع روسيا وتثبيت الأوضاع لمصلحتها
وفي السياق نفسه وصفت مجلة ” الإيكونوميست” في تقرير نشرته في 14 يناير 2022، حول مجموعة فاغنر، بأنها أكثر سوءاً مما تبدو فهي عصابات صغيرة من المرتزقة تعمل على توسيع نفوذ موسكو في أفريقيا، عندما يستأجرها الطغاة المحليين. ويعتبر أوليغ إغناتوف، المحلل المقيم في موسكو لمجموعة الأزمات الدولية أن أهم ملمح للوجود الروسي هو “إغضاب” الغرب كما يقول. وإحباط أهداف السياسة الخارجية الأمريكية وتحجيم نفوذها هناك.
وفيما يتعلق بتحقيق التمدد الروسي في أفريقيا، يبرز دور مجموعة فاغنر، في دعم الحكومات الأفريقية، عبر التصدي للنزاعات العسكرية المعقدة والجماعات المسلحة المحلية، إضافة إلى قيامها بعمليات مكافحة التمرد والإرهاب شديدة القسوة ودون مراعاة لحقوق الإنسان وإبداء عدم المبالاة بالأرواح أو الممتلكات في أثناء القيام بالعمليات العسكرية
وبحسب جوزيف سيجل Joseph Siegle، الباحث في مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية، فإن المقاتلين الخاصين بفاغنر يعملون بالتوازي مع الكرملين، وهم جزء من مجموعة أدوات تعتمدها موسكو لدعم القادة الأفارقة المستبدين مقابل مزايا اقتصادية أو عسكرية وفي السياق نفسه تتوافق وجهة نظر الباحث مع الكثير من الآراء القائلة بارتباط مجموعة فاغنر في أفريقيا بالحكومة الروسية، بالنظر لما تؤديه من أدوار سياسية وعسكرية تدعم مصالح الكرملين، علاوة على استثماراتها في المشاريع منخفضة التكلفة والتي تحقق مكاسب اقتصادية لموسكو والمقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، وإدارتها لعمليات توسيع نفوذ موسكو الجيوسياسي هناك. وما يدلل على هذه الروابط سرعة استجابة مجموعة فاغنر في حال حدوث أزمة تتعلق بالمصالح الروسية، لتقوم بنشر مرتزقتها، وتعضيد جهود موسكو العسكرية، على غرار ما حدث في سوريا.
خامساً– تداعيات الحرب في أوكرانيا على العلاقات الروسية-الأفريقية
لا شك في أن ثمة أزمة ستشهدها الدول الأفريقية جراء الحرب الروسية في أوكرانيا، إذ إن مستقبل علاقاتها بموسكو سيتأثر مع تصاعد التوترات بين روسيا والغرب بسبب الصراع الأوكراني. وبهذا الاتجاه أكدت الباحثة دزفينكا كاشور Dzvinka Kachur من جنوب أفريقيا؛ أن هذه الحرب بمنزلة “فرصة لإظهار أن منظومة الأمم المتحدة غير فعالة إذا كان المعتدي أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة… وهذا هو الوقت المناسب للدول الأفريقية للتحدث عن تغيير النظام العالمي للعلاقات الدولية وإعادة توزيع القوة”.
والسردية التي ينطلق منها الروس في علاقاتهم الأفريقية، تضع في حسبانها تصعيد التنافس مع قوى غربية في القارة، لجهة تحجيمها وصولاً إلى تشكيل نظام ما بعد ليبرالي في أفريقيا، وهي استراتيجية يعززها الخطاب المناهض للاستعمار، وبناء نموذج سياسي لا يأخذ بالمعايير والقواعد الغربية، والإبقاء على النظم التي تثار بخصوص سياساتها قضايا الاستبداد والفساد.
ولهذا فإن ثمة مشتركات تجمع القيادة الروسية ببعض النخب الأفريقية، تنطلق من تحدي السياسات الديمقراطية التي يسعى الغرب إلى تثبيتها في الممارسة السياسية الأفريقية، فإن عدم الاستقرار في القارة الأفريقية يمنح روسيا الفرصة لتقوية العلاقات مع قادتها، عبر طرح حلول قصيرة المدى للمشاكل الأمنية والاقتصادية والسياسية العميقة والمعقدة.
وسيحرص التيار المعادي للغرب في أفريقيا على ديمومة علاقاته بالروس، وإن طال أمد الحرب في أوكرانيا، ويرجع ذلك في أحد جوانبه إلى الاستياء الناجم عن الإملاءات الغربية، لدفع الدول الأفريقية إلى سياسات بعينها، وهو ما يذكي الذاكرة الأفريقية بممارسات الحقبة الاستعمارية، في مقابل دعم الاتحاد السوفييتي السابق لحركات التحرر، وتجد هذه السردية مساندة واسعة لدى النخبة المثقفة، بما يخدم إقامة توازن معادل للهيمنة الأمريكية.
ومن جهة أخرى أذكت الحرب في أوكرانيا مخاوف في الأسواق العالمية بشأن تعطل سلاسل التوريد وارتفاع أسعار السلع الأساسية. ولأن كلاً من روسيا وأوكرانيا تصدران نحو 30في المئة من صادرات القمح العالمية، ويصدر البلدان معاً نحو 80في المئة من صادرات زيت عباد الشمس في العالم فإن تعطل العرض بسبب العقوبات والحرب، سيؤدي إلى ارتفاع أسعار القمح والذرة، والحبوب بشكل عام، وقد يجر إلى أزمة غذاء عالمية. وبحسب رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس؛ فإن الحرب في أوكرانيا “كارثة” للعالم ستؤدي إلى تقليص النمو الاقتصادي العالمي، وزيادة تكلفة التجارة، وتفاقم نقص السيولة في أسواق السلع. وستكون مصر من البلدان الأكثر تضرراً من ارتفاع أسعار القمح كونها تستورد حصة كبيرة منه. وفي الوقت نفسه سيتأثر مستوردو النفط الأفارقة مثل كينيا بارتفاع أسعار النفط حيث تتعرض روسيا، أحد أكبر مصدري النفط الخام في العالم إلى العقوبات وتعطيل صادرات الطاقة، بينما سيكون مصدرو النفط، مثل نيجيريا وأنغولا، أكبر الرابحين من الحرب بعد زيادة أسعار النفط
ويتيح الوجود الروسي في ليبيا ومنطقة الساحل السيطرة على الهجرة الأفريقية، والتحكم بطرق الاتجار بالبشر. وبالتالي ستكون موسكو قادرة على إثارة أزمات إنسانية وسياسية لأوروبا، فضلاً عن تحديها لمجالات النفوذ الأوروبي التاريخي في أفريقيا، وتحجيمه لمصلحة نفوذها هناك
ومع العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والدول الأوروبية على روسيا، من المتوقع أن تتأثر أفريقيا سلباً بتعطيل نظام الدفع، إذ تعتبر كلاً من نيجيريا وجنوب أفريقيا وكينيا، من المصدرين الرئيسيين للأسواق الزراعية الروسية. فعلى سبيل المثال تصدر جنوب أفريقيا نحو 7في المئة من صادراتها من الحمضيات و14في المئة من صادرات التفاح والكمثرى إلى روسيا
ختاماً، وبغض النظر عن كل المكاسب الروسية التي تحققت في أفريقيا، يظل الحفاظ عليها أو تعزيزها في المدى الطويل غير مضمون العواقب، ويمكن للضغط الموازي من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، أن يحد من اعتماد الحكومات الأفريقية في نهاية المطاف على المتعاقدين العسكريين الروس. ففي سبتمبر 2021 أطاح انقلاب في غينيا بالشريك الإقليمي الأكثر موثوقية لروسيا ألفا كوندي. وفي نيجيريا كافحت روسيا لتحويل صفقاتها من الأسلحة إلى شراكة متنوعة.
ومع النجاح النسبي الذي تحقق لروسيا في أفريقيا خلال هذين العقدين، فإن المحافظة عليه وضمان استدامته في ظروف إقليمية ودولية سريعة التغيّر وبالغة التعقيد سيكون موضع نقاش. فاستمرار الحرب في أوكرانيا، والتي يمكن أن تمتد لسنوات وفقاً لبعض المحللين، من شأنه الحد من الدعم الروسي العسكري والاقتصادي للدول الأفريقية.
وقد ترد روسيا على العقوبات الاقتصادية بتقييد صادرات المعادن المهمة مثل النيكل والبلاديوم والياقوت الصناعي، وهذه مواد حاسمة لإنتاج البطاريات الكهربائية والمحولات والهواتف والمحامل الكروية والأنابيب الخفيفة والرقائق الدقيقة. وبرغم ذلك فإن العلاقات الروسية-الأفريقية ستكون بمنزلة طوق نجاة في ظل احتمال تفاقم عزلة موسكو.
ومن بين ما نجحت روسيا في تحقيقه عبر علاقاتها الأفريقية، هو التحريض ضد النظرة الاستعلائية أو الموقف الأبوي الأوروبي المعتاد تجاه دول أفريقيا، وفي المقابل، تبنت موسكو نهج الشراكة القائمة على التعاون المتبادل.