شكّلت الحرب في أوكرانيا علامة فارقة، أظهرت تحول اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية واستدارتها بصورة ملحوظة عن منطقة الشرق الأوسط، كما كشفت تضاريس جيوسياسية وجيواستراتيجية جديدة، جعلت حلفاء واشنطن عموما والكيان الصهيوني خصوصاً في حالة انكشاف غير مسبوق، في وقت أن الطرف الثاني الذي يقف في مواجهة المشروع الصهيوأمريكي عموماً والاحتلال الصهيوني خصوصاً في موقف قوة، يستطيع من خلاله أن يوقع الكيان في دائرة خطر الاستنزاف أو التهديد الوجودي!
الفجوة: الأفول الأمريكي وانكفاء الظهير الدولي:
كشفت الحرب “الأمريكية الروسية” في أوكرانيا عمق التحول الأمريكي عن الشرق الأوسط وعمق الفجوة التي ترتبت على الكيان الصهيوني، فالتحديات الأمينة التي تواجه دولة الاحتلال متعددة ومرعبة بنظرها، والمخاطر الناجمة عن “تبلور” بيئة إقليمية غير صديقة أو بالأحرى عدوّة في تزايد، وحتى الطاقة ومصادرها والممرات المائية على امتداد المنطقة، ليست في حالة مستقرة أو بالأحرى في وضع غير موثوق.
كل ذلك يأتي ضمن سياق، ترى فيه حكومة العدو، فقدان الظهير الدولي الذي يستطيع توفير طوق نجاه أو مظلة أمان لها، ما يعني بأن الفجوة المترتبة على الحرب الأوكرانية أصابت العدو بحالة “ذُعر استراتيجي” لكونه مضطراً لمواجهة هذه التحديات منفرداً.
إيران دولة إقليمية مركزية:
من بين ما يظهره الانصراف الأمريكي عن المنطقة هو ظهور حجم الحضور الإيراني؛ في مقدراتها الذاتية وفيما تمتلكه من “نفوذ إقليمي”، وكذلك على مستوى سيطرتها على الممرات المائية ومصادر الطاقة؛ سواء بصورة مباشرة أو بشكل غير مباشر.
ما يعني بالنسبة للاحتلال أن مقولة كيانه هو “القوة المركزية في الإقليم” وأنه “صاحب النفوذ الأول” و”الجيش الأقوى”، كلها مقولات هلامية بددتها الرياح التي بدأت تضرب أوتاد مظلته وتبعثر ألوان الصورة التي رسمها عن نفسه.
ويظهر بدلاً عن ذلك أن القوى المركزية في المنطقة يمكن أن تُعد تركيا وإيران في طليعتها، وعلى الكيان أن يجد لنفسه مقعداً في الصفوف الخلفية.
قوى المقاومة والجغرافية الاستراتيجية:
يدرك قادة الكيان كما تدرك إدارة البيت الأبيض، أن من بين أهم التحديات التي تقف في وجه العدو وتشكل له خطراً وجودياً هو وجود قوى لا متناظرة لم يستطع هذا الكيان التعامل معها ولم يعثر على دواء شافٍ يعافيه من نوبات الخوف والهلع التي تنتاب جنوده وجبهته الداخلية منها؛ هذا أولاً.
وأما ثانياً: فهو تبلور جغرافية استراتيجية تشكل بيئة معادية للمشروع الصهيوأمريكي، وهي تمتد على المساحة الأكبر من منطقة الشرق الأوسط، ويدرك قادة العدو بأن هذه البيئة تشكل له تحدياً حقيقياً يعيق مساعيه في تطوير تحالفات إقليمية توفر له بديلاً مقبولاً يعوض عليه شيئاً من الفراغ الناتج عن الغياب الأمريكي.
استراتيجية المقاومة الفلسطينية بعد سيف القدس:
يعلم الاحتلال أيضاً أن يد المقاومة الفلسطينية هي اليوم أطول من ذي قبل، وباتت قادرة على الوصول إلى مواقع تلامس الخطوط الحمراء في مشروعه للإطباق على فلسطين وقضيتها.
وكانت معركة سيف القدس نموذجاً واضحاً شاهدت النخبة الصهيونية الحاكمة صورتها، بحيث لم يبق شك بأن غرفة عمليات المقاومة الفلسطينية، تضع على طاولتها معطيات المواجهة القادمة، لعل من بينها، حماية القدس والمقدسيين، التصدي للاستيطان ودعم المقاومين في الضفة، رفض الممارسات العنصرية بحق فلسطينيي الـــ 48 ونصرتهم، وكسر حصار غزة وغيرها.
وليس بعيداً عن استراتيجية المقاومة، بحسب التوقع الصهيوني، أن تستثمر المقاومة الفلسطينية في البيئة الاستراتيجية التي بدأت ملامحها تتبلور في مختلف أنحاء المنطقة، وأهدافها وأدواتها بحيث تصل لكل ما يمس أمن الكيان ويضعفه.
الممرات المائية ومصادر الطاقة:
يفهم قادة العدو أن الطاقة ومصادرها وممراتها، لم تعد آمنة بالنسبة له، وبالأحرى لم تعد متاحة بيسر وسهولة رهن طلبه أو لتلبية احتياجه.
إذ أن الحكومات والقوى التي تقف في مواجهة المشروع “الصهيوغربي،” هي اليوم صاحبة اليد الطولى في المنطقة، خصوصاً أن قدراتها قد تبلورت في توقيت متزامن مع الأفول الأمريكي عن المنطقة، ويزيد من قتامة هذا المشهد هو تكريس مكانة إيران بصفتها قوة إقليمية مركزية؛ بما لها من حضور ونفوذ وقدرات، الأمر الذي يعمّق فجوة اللا استقرار بالنسبة للكيان.
ولعل هذا الفهم، هو ما يُسرع خطوات الكيان نحو عقد لقاءات وإنشاء تفاهمات حول كل من: الأمن والطاقة والجغرافية السياسية.
جَسْر الهوَّة: العمل ضمن هوامش الأقطاب الدوليين:
بالرغم من التوتر الذي يغلب على كل من قيادة البيت الأبيض وقصر الكرملين، وحساسية مقاربة المواقف لديهما، إلا أن حكومة الكيان اقتحمت الخطر وسعت للحصول على هوامش سماح تتيح لها التحرك، وقد حصلت بالفعل على ما تسعى إليه من واشنطن وموسكو، ويمكن القول أن الكيان من القوى القليلة التي استطاعت إيجاد مساحات تحرُّك، في ظل التجاذب الساخن بين أميركا وروسيا.
صحيح أن ظاهر المسعى الصهيوني هو إيجاد مساحة حوار بين موسكو وكييف، من الممكن أن يوصل إلى صيغة تفاهم يتحقق بموجبها وقف القتال، إلا أن حقيقة “الموقف الإسرائيلي” هو السعي إلى تبريد الاشتباك الساخن بين القطبين الأقوى في العالم، في حين أن الجانب الصهيوني لا يستطيع التخلي بسهولة عن الدعم الأمريكي كما أنه لا يتقبل المخاطرة بإغضاب الدب / القطب الروسي، فهذا الأخير متواجد في الشرق الأوسط وبقدرات عسكرية متعاظمة، ولا يريد العدو أن يحرم نفسه من الامتيازات التي حصل عليها من الكرملين في سوريا.
العيش في بؤرة الحدث:
المتتبع لتطورات المشهد الأوكراني، يلاحظ بأن قادة “تل أبيب” حضروا منذ الرمية الأولى في المشهد؛ فقد بادروا للحديث عن “اليهود الأوكران” ثم عن “اليهود الإسرائيليين”، وبادروا لزيارة واشنطن أملاً بالحصول على إذن تحرك، ثم توجهوا إلى موسكو حرصاً على معرفة الخطوط الحمراء وهوامش السماح، وكذلك التقوا مع قيادات أوروبية؛ ألمانية وفرنسية، وفحصوا إمكانية أن يكون للكيان دور إغاثي أو إنساني، وحاولوا إقناع “زيلنسكي” كي يقترب من الشروط الروسية؛ عبر نصيحة (أخوية)؛ ولكنه لم يقبلها منهم.
وهكذا استمرت حكومة العدو في تواصلها مع الأطراف المباشرين وغير المباشرين في الحدث، لإدراكها بأنها لا تستطيع تحمل تبعات غيابها عن المشهد، ما يجعلها حريصة كي تبقى حاضرة عند أي تطور، على أمل أن تحظى بمكاسب أو تقتنص فرص، وعلى أي حال، فإن معايشتها تطورات الحدث توفر لها معلومات ثمينة، تمكنها من اختيار الاصطفاف الذي يجنبها مخاطر التحولات الدولية الكبرى.
فدولة مثل الكيان لا تستطيع الحياة من غير حبل الناس الذي يوفر لها الدعم والحماية؛ والحبل الذي يُعتد به، وفق تقديرها، هو الذي طرفه بيد القوى الدولية المتموضعة في الشرق الأوسط بصورة فاعلة!
الحضن التركي حليف الناتو وإمدادات الغاز:
على نفس طريق جَسْر الهوَّة، عادت حكومة الاحتلال لوصل ما انقطع مع أنقرة، فحركت القنوات الدبلوماسية المتجمدة منذ فترة، وبادرت إلى زيارة دولة قام بها رئيس الكيان إلى أنقرة التقى فيها بالرئيس التركي أردوغان، ومن خلال التوقيت، المتمثل في حرب أوكرانيا وأزمة تزويد أوروبا بالغاز، يمكن توقع أن الكيان يريد أن يتخذ إجراءات إضافية يعزز فيها موقعه تجاه الناتو عبر مصالحته مع دولة ناتو: تركيا.
كما يسعى -الكيان- إلى تكامل جهوده في إنشاء خط إمداد غاز نحو أوروبا، مع جهود أنقرة التي تسير بنفس الطريق؛ على أمل إنشاء خط إمداد غاز مشترك يوصل غاز شرقي البحر المتوسط إلى أوروبا؛ إيطاليا، اليونان، فرنسا، إسبانيا وألمانيا.
وهذا الطموح، ترى فيه حكومة العدو، “طوق نجاة وحبل سُري” ضروري لضمان تدفق الحياة إلى شرايينها الأمنية والاقتصادية، في ظل ضبابية التحولات الدولية الكبرى.
(تجميعات) “عربية إسرائيلية” لموازنة إيران (دولة حافة نووية):
من بين مساعي “تل أبيب” لترميم موقفها الإقليمي، أن المنطقة على أبواب اتفاق نووي يفتح الباب أمام التدفق النقدي والتواصل الغربي مع إيران، وحتى في حال عدم توقيع هذا الاتفاق، فمن المرجح أن تكون المنطقة مقبلة على “إيران: كدولة حافة نووية: مُحصنة بعلاقات / تحالفات دولية (أي مع روسيا والصين).
دفع هذا التوقّع الكيان للنفخ في اتفاقياته القديمة والجديدة (منذ كامب ديفيد مروراً بــــ أوسلو وصولاً إلى وادي عربة وصفقة القرن واتفاق إبراهام)، بهدف العثور على تحالفات توفر له بيئة جيواستراتيجية قادرة على موازنة الموقف مع الدول والقوى في المحور المناهض لها.
وفي خلفية هذه الترتيبات، عقد لقاء ثلاثي ضم مصر والإمارات والكيان، يجري تقييم توقيته ومندرجاته، في سياق التعامل مع الاستحقاق الإيراني الذي يعد أمرا راهناً، ستكون تأثيراته في تطورات مشهد الشرق الأوسط أكثر وضوحاً، خصوصاً في ظل تراجع الرعاية الأمريكية لحلفائها في المنطقة.
كونفدرالية أردنية فلسطينية صهيونية:
في نفس السياق، بصورة غير رسمية على غرار وثيقة جنيف 2003، يجري حالياً إعداد وثيقة تسوية، تقترح هذه الوثيقة إنشاء كونفدرالية أردنية فلسطينية إسرائيلية، تظهر بنودها الهدف الرئيس الذي يتمثل في حماية أمن أطراف الكونفدرالية، ويتحدد دورها الجوهري في عدم السماح بعودة أي لاجئ فلسطيني إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، مع التأكيد على التزام هذه الكونفدرالية بالسماح للتطور الطبيعي للاستيطان اليهودي في الضفة.
لعل الجدوى المباشرة المرجوة من خلف هذا المقترح، بحسب الرؤية الصهيونية، هو التقليل من مخاطر انهيار السلطة أو انفجار المشهد الأمني في الضفة، ولذلك تسعى حكومة المستوطنين لإفساح المجال أمام الأردن -عبر أجهزتها الأمنية- للمساهمة في الإمساك بأمن (إحدى أطراف الكونفدرالية) أي السلطة، وتقديم الدعم اللازم في هذا السبيل، ومن ضمن ترتيبات هذا المقترح، بحسب مسودة المقترح، حماية حرية الممارسات الدينية لأصحاب الديانات الثلاث في مدينة القدس.
الاستيطان في الضفة:
منذ الأيام الأولى للحرب في أوكرانيا بدأ حديث قادة الكيان عن تقديم يد المساعدة لليهود هناك، سواء عبر توفير خروج آمن لهم وإما لاستقبالهم كلاجئين يهود أوكرانيين أو عودتهم بصفة “يهود إسرائيليين”.
وتناقلت وسائل إعلام صهيونية، أن “الأسطول الجوي الإسرائيلي” تمكن من نقل عشرات ألوف اليهود إلى الكيان، وتبين لاحقاً بأنه قد تم تأمين أماكن سكن لهم في مستوطنات الضفة، الأمر الذي يكشف زيف الادعاء الإنساني ويكرس النية العدوانية لحكومة الاحتلال؛ التي جعلت من الحرب في أوكرانيا فرصة يستفيد منها الكيان الصهيوني عبر تشجيع الاستيطان وزيادة زخم تهويد الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
في دليل إضافي على أن الحكومة الحالية هي حكومة مستوطنين أولويتهم استكمال الإطباق على ما تبقى من أراضي فلسطين، وردم ما تبقى من احتمالات لقيام دولة فلسطينية، وبمعنى آخر، لترجيح الكفة البشرية في ميزان الحرب الديموغرافية في رصيد الصهاينة المستوطنين على حساب الفلسطينيين أصحاب الأرض.
السلطة:
ينحصر اهتمام قيادات السلطة في هذه الفترة، في أولوية وراثة عباس، وتأمين مقعد قيادي في أي من الأطر الرسمية؛ في منظمة التحرير وحركة فتح أو حكومة السلطة وأجهزتها، وما تلا ذلك فإن التوجهات السياسية محكومة بأمن الاحتلال وضمان سير عمليات التنسيق الأمني بانسيابية؛ بوتيرة تحد من فعاليات الانتفاضة الشعبية وتقيّد مضاعفات معركة سيف القدس على مناطق عمل السلطة.
أيضاً؛ يمكن القول أن الأجندة السياسية مرشحة بأن تجد مساحة عمل جديدة في ضوء مقترح الكونفدرالية الذي يجري إنتاجه عبر قنوات “فلسطينية أردنية إسرائيلية”؛ شبه رسمية، ولغاية ذلك التاريخ فإن رئاسة السلطة الفلسطينية ما تزال في حالة “امتناع” عن التفاعل مع تطورات المشهد الدولي-الإقليمي؛ المترتب على الحرب الأمريكية الروسية في أوكرانيا، ومستجدات الحراك (الإسرائيلي) في المنطقة.
المقاومة:
ما تزال قوى المقاومة الفلسطينية وجماهيرها، تتحرك في غزة والضفة والقدس والــــ 48، تنبض بالروح المعنوية التي أشعلتها معركة سيف القدس؛ من شريحة أو تشكيل أو إطار في كل موقع ومنطقة في الساحات المشار إليها.
وهذا الحراك يسير في وتيرة ما بين المتوسطة والمنخفضة، ويصنف هذا المستوى من التفاعل في خانة المقبول صهيونياً. فالكيان قادر على التعامل مع المشهد الفلسطيني المقاوم ضمن وتيرة منضبطة؛ خصوصاً إذا بقيت تحت السقف الذي لا يمنعه من التقدم في مشاريعه الاستيطانية أو تكوين/ترميم بيئته الإقليمية. أو أنها لا تصل إلى مستوى تفرض عليه التسليم بالإنجازات السياسية لمعركة سيف القدس، مثل كسر الحصار عن قطاع غزة أو وقف الاستيطان والتهجير.. وما هو بمستوى ذلك.
مقترحات الأجندة الفلسطينية
في ضوء ما تقدم، وبهدف مواكبة الجانب الفلسطيني لتطورات المشهد الدولي والإقليمي الراهن، يستدعي الأمر على الطرف الفلسطيني -وخصوصاً فصائل المقاومة- أن تحاول إيجاد مساحة تماس مع “أقطاب الشرق الدوليين”، ما دامت إمكانية الاقتراب من أقطاب الغرب شبه معدومة.
وفي نفس السياق؛ تفعيل وتيرة التواصل مع القوى الإقليمية المركزية؛ تركيا وإيران، وهذا التقارب يحتمل أن يكون له ثلاثة أنواع من الأهداف:
الأول: الاطلاع عن كثب على التطورات الدولية والتداعيات الإقليمية.
الثاني: تقليص فرص قيام تركيا بدور إسعافي، جيوسياسي، للكيان؛ ما أمكن ذلك.
الثالث: تطوير مساحات التعاون مع إيران بهدف تفعيل خطط تطويق الكيان وبلورة جغرافية استراتيجية، تستهدف تشكيل تهديد حقيقي والدخول في مرحلة استنزاف مع العدو.
وفي نفس الاتجاه، تتعدد مجالات المواجهة وأدوات الضغط على الكيان ضمن المشهد الراهن، مثل: تهديد أمن الطاقة لدى الاحتلال، الضغط على الروح المعنوية في صفوف الصهاينة والمستوطنين، زعزعة أمن الجبهة الداخلية للعدو بصورة متكررة، العزل وتجريم التطبيع ووقفه، مقاومة الاستيطان في الضفة والعمل على طرد العدو منها (سيف الضفة)؛ وفتح باب التطوع -بصورة ما- لتحرير الأقصى أمام أبناء الأمة أسوة بدعوات الغرب والشرق في أوكرانيا!