مقدمة:
كشفت معركة “سيف القدس” لكل مراقب كيف استثمرت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عامل الوقت، في مضاعفة قدراتها التصنيعية وتطوير أدائها التكنيكي والتكتيكي، بتطويع الإمكانات والاستفادة القصوى من الأرض ظاهرها وباطنها بشكل إبداعي جعلها رائدة هذا النوع من الحروب، وذلك عبر رفع كفاءة الكوادر، واستثمار تحالفاتها الإقليمية على أكمل وجه، والعمل الدؤوب في فهم العدو، حتى باتت تلم جيدا بقدراته ونقاط ضعفه، ما أهّلها – أي المقاومة – لتكون ندا له بكل ما للكلمة من معنى.
لذلك تمكنت “المقاومة” في معركة “سيف القدس” من تحقيق انتصار، وكي وعي للصهاينة “جنوداً ومستوطنين وساسة”، ما جعل جميع الأطراف – بغض النظر عن انحيازها أو حيادها – تدرك بأن لهذه المواجهة أثرها العميق وتداعياتها الواسعة، وأنها سوف تُسفر عن نظرة جديدة للحرب، ومعايير ومؤشرات جديدة لميزان القوى في المنطقة، فما قبل سيف القدس ليس كما بعدها، فهي مرحلة تحول استراتيجي في الصراع.
وهذا يمكّن “قيادة المقاومة” السياسية والعسكرية من استعادة زمام المبادرة، على المستوى الوطني والإقليمي، ويجعل الحديث عن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة الكاملة، أو التحرير الكامل أمراً ممكناً، والشروع في بناء تحالف إقليمي لتحرير فلسطين، وإمكان إطلاق مشروع التحرير في مساره الاستراتيجي.
وبعيداً عن تنميق الجمل والعبارات، لقد تمكنت المقاومة من تحقيق نصر واضح وجليّ لا يقبل الشك، في معركة “سيف القدس”، وقد تجلى هذا النصر من خلال النتائج المباشرة للمعركة والتي ظهرت في عدة المستويات، لكنها – في مجملها – تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على المستوى الاستراتيجي وما فوقه.
وأولها أن هذه المعركة، كشفت عن مدى هشاشة هذا العدو، بكل مكوناته “جيش وحكومة ومجتمع” حتى الجوانب النظرية الاعتبارية، استطاعت المقاومة في هذه المعركة، من إسقاطها -بفضل الله-، وفي مقدمة ذلك، “النظرية العسكرية” للعدو – والتي تعتبر من أنضج النظريات على مستوى العالم من جهة التأصيل العلمي والتجربة العملية – حيث تهاوت هذه “النظرية” أمام “المقاومة” ليس لعوار في نظرية العدو، إنما لتفوق المقاومة الذي أحدث صدعا في ذهن ونفسية العدو، بل وخلخلا في الأسس التي قام عليها المشروع الصهيوني.
وكي لا يبقى الكلام مرسلا؛ نشير لبعض أبرز تأثيرات معركة “سيف القدس” على العدو والإقليم والمقاومة.
أولاً: تأثير المعركة على مرتكزات بناء القوة العسكرية عند العدو:
فالعدو يعتمد على عدة مرتكزات في بناء وتطوير قوته العسكرية منها:
• الشعب المسلح: حيث تكمن قيمة هذا المبدأ في الحروب البرية الكلاسيكية، ولكن في هذه المعركة لم يستطيع العدو الاستفادة من هذه الركيزة، لأن وسائل المقاومة – الصواريخ – استطاعت تجاوزه، كما أن ما أعدته المقاومة من خطط وتكتيكات دفاعية، جعلت العدو يخشى من التقدم البري، ثم إن مجتمع العدو مجتمع جبان وخائر معنوياً، فلا قيمة لتسليحه من الزاوية العملانية، لأن الروح الخاوية ستهزم لا محال ومع اندلاع المعركة وليس في نهايتها، وقد رأينا كيف هي معنويات جنود العدو؛ فكيف بالمستوطنين.
• الجيش العامل الصغير والاحتياطي الكبير: لا شك أن هذه فكرة عبقرية منحت العدو تفوقاً عسكرياً، وفي الوقت نفسه أزاحت عنه عبئا اقتصاديا كبيرا، لكن استراتيجية المقاومة – الحرب الهجينة – والتي هي فوق “حرب العصابات” وتحت “الحرب التقليدية”؛ جعلت الجيش العامل الصغير غير كافٍ، وفكرة استدعاء الاحتياط غير مجدية، ما وضع قيادة العدو وجيشه في مأزق استراتيجي.
ثانياً: تأثير المعركة على مرتكزات النظرية العسكرية للعدو:
تقوم نظرية العدو العسكرية على عدة مبادئ، من أهمها (الردع، والحسم، والتفوق الاستخباري والإنذار المبكر، والدفاع)، وفيما يلي توضيح كيف سقطت هذه المبادئ في معركة “سيف القدس”.
• سقوط مبدأ “الردع”: فالعدو استخدم جميع قدراته الصلبة والناعمة والذكية، وبالأساليب والطرق كافة – من استعراض القوة، إلى الردع العقابي وكي الوعي، … إلخ، بهدف ردع المقاومة في غزة، لكنه فشل في جميع محاولاته، وقد تجلى فقدان الردع في هذه المعركة؛ أن المقاومة هي من بادرت في الهجوم وبتحدٍ معلن، بخلاف المعارك السابقة، وهذه نقطة تحول في مسار الصراع، بل وإضافة لذلك العدو اختبأ أيضاً، وتراجع إلى العمق عدة كيلومترات، خوفاً من المقاومة، أي ليس فقط لم يستطيع ردع المقاومة، بل العدو من ظهر مردوعاً.
• ضرب مبدأ “الحسم”: ففي المعارك السابقة لم يستطع العدو حسم أي معركة منذ عام 1982م، لكن هذه المعركة مختلفة؛ إذ إنها حسمت بالمجمل لصالح المقاومة.
• سقوط مبدأ “التفوق الاستخباري”: أهم ما ينطوي عليه سقوط هذا المبدأ، هو أن المقاومة حددت ساعة الصفر ومع ذلك لم يتمكن العدو من منع “المفاجأة” ولا من تقديم “الإنذار المبكر” الذي يمكنه من استدعاء قوات الاحتياط قبل اندلاع الحرب وهما (أي منع المفاجأة والإنذار المبكر” أبرز مخرجات التفوق الاستخباري وقد فشل في كليهما، وكانت المقاومة منذ اللحظة الأولى تحدد توقيت الرمايات، ولم يستطيع العدو الاستفادة من هذه الإنذارات، فالمقاومة أرادت اذلال العدو، بأن حرمته من التذرع بجملة “لم نكن نعرف”، بالتالي لو عرفنا لفعلنا وفعلنا، فأرادت المقاومة أن تقول للمجتمع الصهيوني أن معرفة حكومتكم وجيشكم بتوقيت عملنا، لم يغنِ عنكم شيئاً، سوى نصيحتكم بالهروب للملاجئ، ومن جهة أخرى استطاعت المقاومة من خلال إجراءات بسيطة إعماء العدو، فكانت هجمات العدو تعتمد على الظن والاحتمال، وهذا بدد قدرات العدو، وحيّد أسلحته الفتاكة وأذرعه الطويلة، فأصبحت استخبارات العدو عاجزة، وأضحى جيشه بلا عيون، وذلك من خلال التكتيك المتفوق، والإبداع في الاستفادة من الأرض، ما جعل الذراع الطويلة – سلاح الطيران – أقصر ما يكون وتحت سقف المقاومة!، فلم تتطاول إلا على المدنيين.
• سقوط مبدأ “الدفاع”: فرغم الفجوة في الإمكانات، الدفاعية والهجومية، ورغم السيادة الجوية الكاملة، والتفوق التقني لصالح العدو، إلا أن المقاومة ومن خلال التكتيك والتكنيك المبتكر، استطاعت تحيد قدرات العدو الدفاعية، رغم أنها أفضل منظومات الدفاع الجوي.
ثالثاً: تأثير المعركة على الاستراتيجية العسكرية للعدو:
لم تكن الاستراتيجية العسكرية للعدو أوفر حظا من نظريته، حيث، سقطت مرتكزاتها أيضا، وفيما يلي نستعرض أهم مرتكزات الاستراتيجية العسكرية للعدو ونوضح كيف أن معركة “سيف القدس” استطاعت -بفضل الله- إسقاطها:
• سقوط مبدأ “العمل الوقائي”: فاستراتيجية العدو، تعتمد على مبدأ الحروب الاستباقية على مستوى استراتيجية الحرب، ومبدأ “جز العشب” على مستوى استراتيجية مسرح العمليات، ومبدأ “المبادرة” في المستوى التكتيكي، إلا أنها فشلت في جميع المستويات، حيث كانت المقاومة هي الطرف المبادئ والمبادر، ولم يتمكن العدو حتى من استعادة المبادرة – كما فعل في حرب “تشرين” – رغم استمرار محاولته على مدار أيام المعركة، كما أن العشب الذي كان العدو يخشى من نمائه قد أصبح أشجاراً متجذرة، وقد فشلت جميع وسائل وأدوات العدو من حصار وتآمر، فالمقاومة تجاوزت كل إجراءات العدو، وراكمت قوتها في جميع المجالات، وعلى جميع المستويات، أما “المبادرة” فقد استبعد العدو فكرة الدخول البري كليا خوفا من الخسائر.
• سقوط مبدأ “الحدود الآمنة”: فالمقاومة نقلت المعركة إلى عمق العمق الجغرافي والديمغرافي والسياسي والمعنوي للعدو؛ ومن اللحظة الأولى للمعركة (باستهداف القدس) واستمرت في ذلك، وليس العمق فقط؛ بل إن جميع مدن العدو كانت عبارة عن مسرح عميات للمقاومة.
• سقوط مبدأ “نقل المعركة لأرض الخصم”: وقد سقط هذا المبدأ نتيجة إعماء الاستخبارات، بالتالي تحييد طيران العدو، كما أن توازن الرعب الذي حققته المقاومة، منع العدو من مجرد التفكير بالهجوم البري.
رابعاً: تأثير المعركة على المستوى العملياتي والتكتيكي للعدو:
من البديهي القول إن أعظم الاستراتيجيات لا يمكن تحقيقها إلا من خلال سلسلة من التكتيكات، ومن البديهيات أن حجم هذه التكتيكات يجب أن تتناسب مع حجم الأهداف الاستراتيجية المنوي تحقيقها، لكن المقاومة في هذه المعركة، وبمقارنة بسيطة بين حجم التكتيكات المستخدمة، وحجم الأهداف التي حققتها، تعجز النظريات والتعليلات عن تفسير ذلك، ولن نجد تفسيرا لما حصل سوى “المعجزة”، وأن هذا النصر هو من عند الله سبحانه وتعالى.
ثم إن اللافت في الأمر أن المقاومة استطاعت إدامة الضغط على العدو وعلى مدار المعركة، وهذا دليل إدارة حكيمة وقادرة على السيطرة والتحكم في نقطة الذروة للمعركة، على عكس العدو، الذي بدى وأنه وصل إلى الذروة من بداية المعركة، فلم يعد لديه أي أهداف حقيقية، وهذا جعل العدو يدرك أن مصلحته تقتضي عدم الاستمرار في المعركة، لأن سقوطه – أي العدو – سيكون مدويا أكثر لو استمرت المعركة.
وكذلك فإن المقاومة ولأول مرة تعلن عن أهدافها وتحققها؛ بينما عجز العدو عن تحقيق أي هدف أو الإعلان عن هدف والذهاب لتحقيقه؛ بل لم يتمكن مما فعلته المقاومة في حروبها السابقة أي منع المقاومة من تحقيق أهدافها!.
كما لم يتمكن العدو من استعادة “زمام المبادرة” من يد المقاومة حتى نهاية المعركة بفضل الله، وهذه لأول مرة في تاريخ الحروب العربية مع العدو الصهيوني.
خامساً: تأثير معركة سيف القدس على هيبة الكيان الصهيوني وجيشه:
لقد بدا المشهد كالتالي: العدو يستخدم أعقد التقنيات وأقوى الأسلحة وأحدث الطائرات ضد أبراج سكنية، وضد السكان المدنيين العزّل، رغم عدم وجود أي نوع من الدفاع الجوي يعيق عمل منظومة العدو الهجومية ـ طائرات وصواريخ ومدفعية – فيما تهاجم المقاومة بأسلحة بسيطة – مصنعة محلياً – وتضرب أقوى الأهداف وأكثرها حساسية، وفي عمق العدو، بعد أن تجتاز -صواريخ محلية الصنع- أعقد منظومات الدفاع الجوي، وهذا لم يكن مؤشراً على هشاشة العدو وإجرامه فقط، بل أيضاً على التفوق القيمي للمقاومة، وهذا المشهد وحده كفيل بكسر هيبة العدو، لكن المقاومة لم تكتفي بذلك، حيث استطاعت ومن خلال عدة استخدامات لقواعد التكتيك والتكنيك من إظهار عوار العدو وذلك من خلال الوقائع التالية:
1. كشف عيوب مرتكزات النظرية والاستراتيجية العسكرية وأنها ثغرات غير قابلة للترميم.
2. إفشال أعقد خطط الخداع والتي تميز بها العدو طيلة حروبه السابقة، والتي حشد لها كل قدراته السياسية والإعلامية، وأدوات الحرب النفسية لديه.
3. تحييد ذراعه الطويلة، وتحييد قبته الحديدية، وإجباره على التحول للدفاع حتى في تسمية المعركة “حارس الأسوار”.
4. إجبار العدو بقبول توازن الرعب، “تل أبيب” مقابل الأبراج السكنية.
5. إجباره على إقفال الموانئ البحرية والجوية، وحظر تجوال في مدنه بأمر من قيادة المقاومة.
6. إجباره على التراجع والرضوخ للمقاومة ولو مؤقتا فيما يتعلق في قضية حي الشيخ جراح واقتحام الأقصى ومنع مسيرة الأعلام، وهي الأهداف المعلنة للمقاومة وقد تحققت منذ الضربة الأولى.
7. تثبيت أن العدو يخشى من المعركة البرية وكي وعي جنود جيش العدو في ذلك.
8. إظهار الجيش والحكومة في حالة ضعف أمام المجتمع الصهيوني، وهذا يضرب أساس المشروع الصهيوني الذي قام على تقديس الجيش، لكونه قوة لا تقهر، ولكونه الحامي للمشروع الصهيوني، فظهور الجيش عاجزاً عن اتخاذ إجراءات وقائية فاعلة، وعاجزاً عن صد الهجمات، وعاجزاً حتى عن رد فعل ذا بال، يجعل المجتمع الصهيوني يشعر أنه في حالة انكشاف تام، وأنه يواجه تهديد وجودي.
9. إبراز هشاشة العدو أمام حلفاءه، وذلك بتهديد منصات استخراج الغاز في المتوسط، وهذا له انعكاسه على العقود التجارية، وعلى كلفة التأمين على المنصات.
10. تُعتبر هذه المعركة بمثابة اختبار حقيقي وبالذخيرة الحية مع أحد مكونات محور المقاومة، فكيف لو كانت المعركة مع كافة المكونات؟
11. أظهرت المعركة أن هذا الكيان الذي يريد أن يصبح شرطيا للمنطقة لا يستطيع أن يكون شرطياً داخل مدنه!.
سادساً: كيف رأى العالم المقاومة في غزة:
• لقد ظهرت المقاومة في غزة كقوة إقليمية، باعتراف الأصدقاء والخصوم.
• ظهرت المقاومة كقيادة حقيقية للشعب الفلسطيني لما أظهرته من شجاعة وقدرة وحكمة، فلم يقتصر ذلك على الإدارة العسكرية للمعركة، بل استطاعت إدارة المدنيين في أعقد ظروف وأسوأ واقع.
• استطاعت المقاومة تحييد العملاء.
• تفوقت المقاومة على العدو في المصداقية، ما أتاح الفرصة لتسويق الرواية الفلسطينية في مقابل رواية العدو.
• أحيت المقاومة في هذه المعركة أمل التحرير في نفوس الأمة، وقد ظهر جلياً أن جيش التحرير العامل موجود، والمطلوب تنظيم الجيش الاحتياطي الكبير من القوى الحية في الأمة.
• جميع النقاط السابقة، حجزت مقعداً للمقاومة على طاولة قيادة الإقليم، وأيضاً على رأس طاولة المقاومة، وعليها أن تملأ هذا المقعد وذاك.
سابعاً: أثر معركة “سيف القدس” على الجوانب السياسية:
• التأثير على جماهير الشعب الفلسطيني في الداخل:
يوم صدّقت قيادة المقاومة، قولها: المقاومة لن تترك شعبها، بالفعل: بإطلاق الصواريخ، بوتيرة قتالية أفهمت العدو وأبناء الشعب الفلسطيني؛ سواء بسواء، بأن المقاومة جادة في استراتيجيتها مهما كلف الأمر، وهي قادرة على المسير بالمشوار حتى حفظ كرامة شعبها وحماية مقدساتها.
على هذه الخلفية، كسر شعبنا في الداخل حواجز المصطلحات وقيود السياسة، وأعاد القضية إلى مربعها الأول، حيث: مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الصهيوني، وتم في ذلك إسقاط القيود الفاصلة بين ال- 48 وال- 67 وبين القدس والضفة وبينهم وبين غزة.
هذه المرة، “توحد” الشعب الفلسطيني في معركة واحدة (سيف القدس) في صف واحد إلى جانب (المقاومة المسلحة)، وبأهداف محددة: (حماية المقدسات) واستعادة (الكرامة الوطنية).
من بين ما حققته هذه المعادلة الجديدة، أنها أربكت حسابات العدو وزادت من ضعفه في السيطرة على أرض الواقع ومنعته من الإمساك بزمام المبادرة الأمنية، بعد أن أخفق في العسكرية، وكرست مفهوماً يعد من أهم أركان الدولة: وهو القدرة على جعل العدو يدفع ثمن عدوانه على الأرض (هنا: في غزة) والشعب (هنا: الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس وال- 48) بصورة منفلته كمن لا يخشى العقاب، وهو مفهوم: السيادة.
وبهذا المعنى يمكن القول بأن المقاومة الفلسطينية في معركة سيف القدس وضعت (السيادة) في معادلات الحرب مع الاحتلال الصهيوني؛ بقوة أكبر مما سبق، عبر سنوات المراكمة منذ العام 2007، وبمساحة أوسع؛ لأنها هذه المرحلة شملت أجزاء من القدس وأبناء الشعب الفلسطيني، ضمن اعتبارات واضحة المعالم وسّعت دوائر سيادة المقاومة وانتقصت من مساحات سيادة العدو ومستواها.
• اللاجئون في دول الجوار:
لم تغب جماهير اللاجئين الفلسطينيين في دول الجوار عن تطورات الوضع في الداخل، وتأجيج وتيرة الفعاليات الجماهيرية في أوقات المواجهات العسكرية، وفي هذه المعركة بشكل خاص، وقد تحركت جماهير شعبنا في كل المخيمات والتجمعات ووصلت هذه الفعاليات إلى الأسلاك الحدودية مع كل من الأردن ولبنان تجاه فلسطين، مع فوارق لا بد من لحظها، وهي:
1. غياب صورة لاجئين سوريا؛ نظراً لاعتبارات الوضع السوري الداخلي. وقد استدركه تصريح قيادة الدولة السورية أمام وفد قيادي فصائلي، عندما عبّرت عن افتخارها وتأييدها بقيادة المقاومة؛ في رسالة لا تخلو من الدلالة عن الرغبة السورية الرسمية في حضورها صورة مشهد النصر؛ حتى لو عبر فعاليات لاجئي فلسطين!!.
2. وصول أبناء شعبنا إلى حدود فلسطين الشرقية مع الأردن وهزها الشريط الحدودي والقيام ببعض مناورات تجاوز الحدود، مع العلم بأن هذه الخطوة نفذها فلسطينيون وأردنيون وواكبتها فعاليات نيابية، الأمر الذي يظهر ملامح صورة: شبه رسمية وشعبية؛ عربية وفلسطينية تتطلع لخطوة أبعد من الفعاليات الجماهيرية التقليدية، حيث تهدف إلى إحياء حق العودة، أو التقدم خطوة للمس بـ (سيادة) العدو والاقتراب من دور الإسناد للجماهير في الضفة وفلسطين.
3. تنفيذ بعض المهام الإيجابية، عبر حدود لبنان مع فلسطين المحتلة، وهو الأمر الذي أثار اهتمام العدو، وجعله يولي الحدود الشمالية إجراءات إضافية وتوقعات أمنية جعلته يقرر تثبيت بعض تشكيلاته العسكرية، في دلالة واضحة إلى أن هذه الجهة مرشحة في وقت ما لدور إيجابي ما، سواء كان ذلك المتوقع بفعل الظروف أم باعتبار تقديرات العدو نفسه.
مشهد الحراك الشعبي للاجئين في دول الجوار، جعل الدول أكثر تأثرا بتداعيات المعركة وأكثر استجابة للتفاعل الجماهيري لديها ما يعني ذلك الاقتراب أكثر نحو قيادة المقاومة تحسباً لتطورات قد تعكس نفسها على أوضاع بلادها الداخلية.
• التأثير على دول وقوى الجوار:
مثل أي حرب، فإن دول وقوى الجوار تؤثر في مجريات الأحداث أو تتأثر فيها. وبخصوص “سيف القدس”، فقد غابت سورية بشكل لافت عن الحدث، والغياب شمل الشعب والدولة واللاجئين على السواء.
ومن جهة لبنان، فقد كان دور حزب الله إيجابيا وواضحا، تمثل في المشاركة الوازنة في غرفة العمليات المشتركة؛ التي أردفت القيادة العامة للمقاومة في المعركة بمعطيات وخبرات أسهمت في تعديل موازين القوة لصالح المقاومة. كما أنه نفذ بعض الفعاليات ضمن جغرافيته جعلت جيش العدو يقدم على تثبيت بعض وحداته العسكرية دون الزج بها في جبهته الداخلية أو على حدود غزة، بهذه الصورة الاستراتيجية المختصرة، يمكن القول بأن حزب الله قد وضع علامتان لموازين المواجهة المستقبلية، جدير بقيادة المقاومة أن تضعهما في حساباتها، وهي:
• وضع نقطة الانطلاق نحو بناء تحالف قوى المقاومة؛ التي ترفض المشاريع الأمريكية في المنطقة والاحتلال الصهيوني في فلسطين.
• استكمال الخريطة الجيواستراتيجية مع المقاومة في غزة وأي تشكيل فلسطيني مقاوم ناشئ في لبنان.
وأما مصر والأردن، باعتبارهما من “دول الطوق” ذات تأثير جيوبولوتيكي على الجغرافيا والديمغرافيا الفلسطينية؛ ومن منطلق ارتباطهما باتفاقيات سلام مع الكيان وتحالفات مع الولايات المتحدة الامريكية. فقد بادرت كلتا الدولتين، للدخول على خط الاتصالات السياسية مع قيادة المقاومة. صحيح أنهما دخلتا عبر البوابة الإنسانية والإغاثية وبوابة الوساطة بين المقاومة والعدو ولكن لكل واحدة منهما دور محدد تسعيان من خلاله إلى استيعاب بعض إنجازات سيف القدس.
فمثلاً الأردن: رفعت صوتها في التمثيل الشرعي للمقدسات والوصاية عليها، في محاولة منها لحرمان المقاومة من إدراك استحقاقها بجدارة لهذا الدور الذي بات منجزا كأمر واقع تستحقه المقاومة وليس أي طرف آخر عربي أو فلسطيني (أي السلطة).
ومن جهتها مصر: دعت إلى المصالحة وكسر الحصار. وكلا العنوانين أدركت مصر بأن سيف القدس استحقت بجدارة حصادهما، ولذلك وضعتهما قيد التفاوض والحوار والابتزاز، وصرف انتباه قيادة المقاومة نحو عناوين أخرى. ومع ذلك لا يخلو الأمر من اضطرار الحكومة المصرية لإظهار المرونة والتجاوب مع المقاومة بفعل اهتزاز المشهد الإقليمي على وقع ارتباك العدو الصهيوني وعلو كعب قطاع غزة في هذه الجولة.
• الشعوب العربية والإسلامية ولاجئي دول الانتشار:
استطاعت معركة سيف القدس، أخذ الشعوب التي شغلتها أولوياتها القطرية ومزقتها تطورات 2011 التي اجتاحت المنطقة العربية، من همومها المحلية، وأعادتها إلى فلسطين ورفع راية المقاومة المسلحة خياراً استراتيجياً لدحر العدو والتحرير.
ويمكن القول بأن التفاعل الشعبي كان عارماً وذكياً. عارماً: لأنه ملئ الشوارع والساحات والعواصم الدولية والغربية، وذكياً: لأنه استخدم العلاقات العامة ووسائل التواصل الاجتماعي والخبرات الإعلامية والقانونية وغير ذلك في ساحات المواجهة.
وقد أدى هذا المستوى من الفعل إلى نشر الرواية الفلسطينية بعناوينها المركزية وتفوقها على ما سواها الصهيوني. مع العلم بأن العودة إلى: فلسطين أولاً، يعني ضمناً القفز عن قيود الجغرافية السياسية، التي فرضتها سايكس بيكو والمشاريع الصهيوأمريكية لتفتيت المنطقة ونهب خيراتها، لصالح مقاومة الاحتلال وتوحيد الأمة.
وهذه لفتة تستحق الانتباه والبناء عليها، إذ أنه كلما ارتفعت أمواج السيول الشعبية تضعف قيود الأنظمة الرسمية؛ التي تقف في صف التطبيع والمهادنة. وتقوي موقف الشعب الفلسطيني. ويعيد المراهنين على التسوية والسلام إلى المربع الأول.
• إيران وقوى المقاومة في الإقليم:
بلغت أصداء النصر في سيف القدس، منذ الأيام الأولى، إلى عموم أرجاء الشرق الأوسط، وقد جلب هذا النصر مواقف جادة من قبل قوى المقاومة التي عبرت عن ثقتها بالإنجاز، واستعدادها للانضمام إلى صفوف المقاومين الفلسطينيين، فأعلنت حركة الحوثيين في اليمن استعدادها للإسناد عبر المسيرات، كما تقدمت قوات الحشد الشعبي إلى حدود العراق مع الأردن في إشارة لا تخلو من الدلالة إلى استعدادها للدخول على خط المواجهة في الوقت المحدد.
هذه المواقف، أهم ما تعنيه هو بلورة ملامح خريطة الجغرافية الاستراتيجية التي أنتجتها “سيف القدس”، وهي بحاجة إلى تحضير لما بعد السيف، خصوصاً عندما يضاف إليها النصف الأول من الخريطة بشقه اللبناني والغزي.
وإيران، انطلاقاً من رؤيتها الاستراتيجية، ومكانتها الإقليمية، ومقدراتها العسكرية والتكنولوجية، قرأت مبكراً الانتصار والإنجاز ودعت إلى إدامة المواجهة (سيف القدس) بهدف كي الوعي الصهيوني وتأكيد الفهم العربي الفلسطيني الإقليمي بأن المقاومة الفلسطينية حققت الانتصار، وأن الاحتلال الصهيوني الذي عجز عن الدفاع عن نفسه فضلاً عن إخضاع المقاومة؛ لهو عن القيام بدور في قيادة الإقليم أعجز وأوهن.
هذه المعاني دفعت القيادة الإيرانية للإعلان بأنها: مع المقاومة الفلسطينية حتى الموت، كتعبير عن استمرارها في التحالف والدعم حتى نهاية الطريق مهما كلفت من تضحيات.
ما تقدم، يضاف إلى سابقة الدعم الكمي والنوعي في اللوجست والخبرات للمقاومة، وقد بلغ الأمر حد تزويد المقاومة بالتكنولوجيا العسكرية المتطورة التي تروع العدو وتحدث معه توازنا يجعله يدرك فداحة الثمن الذي سيدفعه في حال تعامى عن تحذيرات المقاومة وخطوطها الحمراء.
وبهذا الدور الإيراني، تكون المقاومة الفلسطينية قد ظهّرت خريطة واقع إقليمي جديد يجعل الاستفراد بها أمراً غير متاح، وفرصة تعزيز قدرتها على الإيلام أمراً متاحا، وكذلك، زيادة هوامش المناورة مع أطراف الجغرافية السياسية التي تسير في الاتجاه المعاكس لخيار المقاومة.
• أمريكا وصفقة القرن:
بدأت معركة سيف القدس بينما كانت الولايات المتحدة منشغلة في ترتيبات الانسحاب من كل من أفغانستان، والعراق وسوريا، أو إعادة تموضعها في بعضها. أي أن واشنطن لم تكن راضية عن أوضاعها في المنطقة. لعل هذا الواقع الأمريكي غير المستقر في الإقليم كشفته تداعيات المواجهة بين المقاومة الفلسطينية وجيش العدو الصهيوني؛ خصوصاً أن مجريات الأحداث كانت تظهر بأن يد المقاومة هي العليا بينما يد العدو هي السفلى.
ولعل ذلك، جعل الإدارة الأمريكية تدفع باتجاه التوقف وتدارك التطورات، وقد كررت دعوة حكومة الكيان لإنهاء المعركة بأسرع وقت؛ ولا ينفي هذا الفهم بأن الذي كان مستعجلاً على التوقف هو الكيان لأن الأثمان التي يدفعها بدأت تتحول إلى خسائر سياسية من رصيد الحكومة ورئيس الوزراء.
أيا يكن الموقف، أوعزت واشنطن لكل من الأردن ومصر، للدخول على الخط، كل من جهتها، لاستيعاب الموقف الفلسطيني وثنيه عن التمادي في المواجهة على أمل تجنب إرباك الحسابات الأمريكية. إضافة إلى مساعدة الكيان للنزول عن الشجرة والتخفيف عنه وطأة الهزيمة والتقليل من مظاهر التخبط التي يعاني منها.
هذه الصورة، بيّنت بأن الموقف الأمريكي، تقبّلَ فكرة: سقوط ضم القدس، وتليين الموقف المصري والأردني، وتمدد سيادة المقاومة الفلسطينية نحو الضفة والقدس، بصورة ما، مع علمه بأن ذلك له تداعياته على سلطة الحكم الذاتي وخيار التسوية فلسطينياً. وأكثر من ذلك، بدأ البيت الأبيض يدرك، بأن فكرة إعلان تحالف عربي صهيوني بقيادة الكيان بات أمراً خارج الحسابات، كما أن إمكان بيع الحماية الصهيونية لدول التطبيع بات بخساً ثمنه وصعباً تسويقه. وربما السؤال: كيف هُزمت الولايات المتحدة في معركة “سيف القدس” بات سؤالاً استراتيجياً!.
ثامناً: الآفاق الممكنة واستثمار انتصار “سيف القدس”:
1. دعم وتطوير مختلف أشكال المقاومة في الضفة: وذلك من خلال ترتيبات متعددة، لعل منها، كسر الحصار الذي تخضع له المقاومة، وإمدادها باللوجستيات عبر تكنولوجيا المسيّرات، أو تنسيق الأعمال الهجومية، سواء كانت مسيّرات أو صواريخ أو غيرها. بمعنى كسر الحصار عن المقاومة وفعلها المقاوم.
2. تشكيل وتفعيل دور إيجابي خشن للاجئين في لبنان: ويرتكز هذا التوجيه على ثلاثة أنواع من الركائز والمبررات:
الأول: حاجة المقاومة في غزة إلى إسناد قوى المقاومة في الإقليم ودعم لاجئي دول الطوق، بما يعني استكمال خريطة الجغرافية الاستراتيجية.
الثاني: ما يمتلكه لاجئي لبنان من مسوغات قانونية تتمثل في حق العودة، والروح المعنوية المرتفعة، ودافعية المشاركة، والتجربة التاريخية والاستعداد للتضحية في سبيل معركة التحرير.
الثالث: استعداد الحزب لدعم هذا النوع من العمل وتوفير مساحات له تجعل دوره مؤثراً في أي مواجهة قادمة.
1. تليين الجغرافية السياسية مع مصر والأردن وتحقيق اختراقات مجدية: بالاستفادة من التوجه الإيجابي الذي أظهرته كلتا الحكومتين، بشكل عام وضمن عناوين: المقدسات والمصالحة وكسر الحصار.
هذا التطور وإن كان نسبيا، يمكن أن يفيد في البناء عليه حيث تحتاجه المقاومة في تخفيف القطيعة التي تفرض عليها ضمن بيئتها الإقليمية. مع العلم بأن القيادة المعنية تستطيع إحراز تقدم في هذا الاتجاه مستفيدة من إنجازات “سيف القدس” ومن التقدم السياسي في ميادين أخرى مثل العلاقة مع أطراف إقليمية: قطر تركيا إيران حزب الله وقوى المقاومة في المنطقة.
1. تطوير العلاقة مع قوى المقاومة نحو إنشاء تحالفات وتشكيل خريطة جيواستراتيجية: ومع أن هذه الخريطة قد تكون ذات طبيعة خاصة تتناسب مع كون هؤلاء الحلفاء قوة شعبية وليسوا دولا. وفي هذه الحالة فإن تشكيل الاستراتيجيات المشتركة والتكامل والتعاون تعتبر عناوين كافية ومسارات مؤثرة في موازين القوة وطبيعة المواجهة مع العدو المشترك وكيان الاحتلال.
2. توجيه دور الجاليات العربية والإسلامية ولاجئي الانتشار نحو مجالات محددة: يكون لهذه المجالات تأثير مباشر إلى جانب المقاومة، والإضرار بالكيان وصورته وتشتيت جهوده أو تقييد إجرامه، مثل: الإعلام، الإعلام الاجتماعي، المسار القانوني، تشويه صورة الكيان عبر بث جرائمه، والاهتمام برفع الروح المعنوية بتظهير الانتصار الفلسطيني وتعميم السردية الفلسطينية خصوصا سردية معركة سيف القدس؛ كل في وقته وبحسب اختصاصه.
3. استعادة جزء من الجغرافية السياسية عبر ترتيب العلاقة مع سوريا: ليس خافياً حجم التحديات التي تقف في طريق إعادة العلاقة بين الطرفين (الحركة والنظام) إلا أن سيف القدس أسهمت في تذليل بعض هذه التحديات وأذابت الكثير من الجليد، فمن جهة النظام يهمه أن يكون من شركاء النصر الفلسطيني، والمقاومة من جهتها تحتاج زيادة مساحة خريطة الجغرافية السياسية المساندة في دول الجوار، وفتح المجال أمام تفعيل دور اللاجئين في هذه الدول.
4. كسر الحصار المفروض على قطاع غزة والتقليل من مضاعفاته السلبية: الموقف بعد سيف القدس، يسمح للمقاومة كي تتحدث من موقع القوة عن ضرورة كسر الحصار أو تخفيف قيوده بدرجة تعيد الحياة الطبيعة إلى ربوع القطاع. ومن معالم هذا الموقف الجديد، ليونة الموقف المصري لجهة تخفيف إجراءات الحصار، استجابة قيادة العدو لتحذيرات المقاومة؛ خصوصا إذا كانت هذه التحديات في نطاق الخطوط الحمراء، فحص إمكان الحديث عن فتح ممر بحري، أو كسر الحصار بحرا، وفق النموذج اللبناني ولو من باب التلويح به.
وهذا يعني وجود ثلاث بوابات لكسر الحصار أو تخفيف قيوده -إضافة للبوابة المصرية- هي: البوابة الصهيونية المباشر، البوابة غير المباشرة أو عبر الأردن وقطر، الممر البحري.
1. دراسة واستثمار ملف الطاقة كأحد الملفات النوعية في إدارة الصراع مع العدو الصهيوني.
2. تكريس سردية انتصار “سيف القدس” والبناء عليها في نوافذ الحركة الإعلامية كافة واستثمارها في علاقاتها الخارجية، فسردية “سيف القدس” أظهرت وتظهر أدوات القوة لدى الحركة وهو ما يستدعي تعامل مختلف من جميع الأطراف مع خطاب الحركة.