أولاً: استهلال ومقدمة:
يسارع كثيرٌ من أهل الاختصاص والمهتمّين بالمعلومات – تحليلاً وتقديراً – بعد كلِّ تصريح للعدوّ يهدّد فيه قيادة المقاومة وكوادرها بأنه سيدفّعهم ثمن أعمالهم، وأنهم يسيرون ودماءهم على أكفهم، وأنهم أبناء موت – كلّها مصطلحات يستخدمها العدو للحديث عن المقاومين؛ قادةً وكوادرَ -، يسارع أولئك المعنيون بوضع تلك التصريحات على طاولة التشريح والتحليل والتقدير، وصولاً إلى مجموعة من التوصيات التي تتم التوصية بها للحفاظ على أصول المقاومة البشرية والمادية؛ وما في هذا من ضير، فالأصل أن تراقب تصريحات العدو وما يصدر عنه من أقوال وما يقوم به من إجراءات، حتى لا تفاجأ المقاومة ولا تؤخذ على حين غرة.
ولكن يغفل أهل الاختصاص عن أن المعطيات والمؤشرات والتصريحات الأولية؛ إن صلُحت من أجل القيام بإجراء أمني يحفظ النفوس والمقدرات؛ فإنها قد لا تصلح من أجل بناء “تقدير موقف” صلب يُبنى عليه إجراءٌ مستدام أو يَفرض تغييراً في الخطط والتوجهات، أو على الأقل مراجعتها وإعادة النظر فيها.
ويرجع سبب السرعة تلك إلى الخلط بين “تقدير الموقف” و “الإجراء الأمني”، حيث أن الأول يحتاج إلى التريّث ورصد المعطيات وجمعها وعدم الاستعجال في الخوض في تحليلها وإصدار التوصيات وبناء المواقف والإجراءات على ضوئها، إلى حين استكمال باقي جزئيات الموقف ومكوناته، أما الثاني – الإجراء الأمني – فهو إجراء سريع لا يحتمل التمهل أو التلكؤ، فقد ينتج عن التباطؤ في أخذه ضررٌ لا يعوض وخسائر لا تجبر.
ثانياً: الإجراء الأمني:
لذلك السبب – جمع المعطيات ومراقبة الموقف – فقد جاء تأخير هذه القراءة حول تهديدات العدو باستهداف قادة المقاومة وفي مقدمتهم القائد يحيى السنوار على إثر عملية المزيرعة (العاد) في 05 05 2022 التي قُتل فيها ثلاثة مستوطنين وجُرح أربعة آخرون، حيث ستعنى هذه القراءة بعرض الأسباب التي يعتقد الكاتب أنها أدت إلى خلاف داخليّ بين المؤسسة الأمنية و”العسكرية الإسرائيلية” من جهة والمستوى السياسي من جهة أخرى، نتج عنه تأخير أو إلغاء الخروج لعملية اغتيال أو استهداف لقادة المقاومة في غزة أو خارجها.
لكننا قبل ذلك سنتعرض إلى تفصيل مهمّ في هذا الموقف ألا وهو جدلية معادلة الردع أو الرعب التي يجب أن تقوم بين العدو والمقاومة، كون الفصل في هذه الجدلية وتبنّي موقف على ضوئها ينبني عليه سلوك وإجراءات يجب على المقاومة القيام بها، وحيث أننا قد خضنا في هذه الجدلية بشكل مفصّل في مجموعة مقالات سابقة تحت عنوان “بين الردع والرعب جدلية المصطلحات والمفاهيم“ يمكن الرجوع لها للاستزادة والتفصيل لفهم الموقف بشكل دقيق وكامل.
حيث تبنّى الكاتب في حينه خلاصة مؤداها أن ما يجب أن يحكم العلاقة بين العدو وحركات المقاومة المحتلة أرضُها، إنما هي معادلة رعب وخوف وفزع، يرى العدو معها أن احتفاظه بما سَلب ونهب إنما هو عبء لا يمكن تحمله ومولد رعب وخوف يدفعه إلى تخريب بيته بيده، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لابد من مقاطع زمنية تُفعّل فيها معادلة الردع المتبادل غير المعترف بها جهاراً من قبل المقاومة، تمهيداً لمراكمة ومضاعفة قوة الرعب والفزع والخوف التي يرى معها العدو أن سلامتَه في خروجه، وأمنَه في تخلّيه، وهذه المعادلة – معادلة الرعب – هي التي ما زلنا نرى أنها الأفضل والأجدى لتحكم العلاقة بيننا وبين عدونا، وهي في خلاصة الموقف ما جعل العدو يتراجع – على الأقل حتى الآن – عن تصريحاته وتهديداته.
كما يمكن إضافة مجموعة معطيات ومسببات دفعت العدو إلى سلوكه هذا، مشيرين إلى أننا لا يجب أن نركن إلى هذا الأمر، بل يجب أخذ الحيطة والحذر وإبقاء الإصبع على الزناد ولا نغفل عن أسلحتنا فيميل العدو علينا ميلة واحدة.
وعليه؛ نقول أن بعض المسببات التي دفعت العدو لموقفه هذا تكمن في الآتي:
1. جدوى معادلة الرعب بيننا وبين عدونا:
فما أوقف العدو وجعله يتردد – على الأقل حتى تاريخ هذه المقالة – هي حالة الرعب من ردة فعل المقاومة بمختلف فصائلها على أية حماقة يمكن أن يقوم بها العدو، وليست حالة الردع؛ فالثانية تقتضي أن لا يقوم العدو بتشغيل أي من قدراته القتالية للرد على تهديدات المقاومة أو إجراءاتها كنتيجة لامتلاك المقاومة ما يوازي قدراته النارية القادرة على (تجميد) إجراءاته تلك؛ وهذا أمر غير متحقق ولا متوفر أصلاً، لذلك فإن ما لجم العدو عن السلوك هو الرعب الناتج عن تقدير أثر القدرات القتالية على جبهته الداخلية . وهذه معادلة – الرعب – يجب المحافظة عليها فهي تترك للمقاومة هامش حركة وحرية مناورة تخرجها من مربع الردع الذي يقتضي جمود الجبهات ووقف التعرض والمناوشات، وهو – الردع – موقف يريح العدو فيحفظه من التهديد؛ ويضعف المقاومة المحتلة أرضُها، ويدفعها إلى الضمور والتحلل والتفكك مع تطاول الزمن، لاعتبار أن ما تراكمه من قدرات – بشرية ومادية – لن يجد له تصريفاً أو تشغيلاً يثبت كفاءته ويزيد خبراته، وتقدمه من أصل هدفه المتمثل بتحرير الأرض والإنسان.
2. عدم قدرة العدو على تحمل الأكلاف:
كما أن من الدوافع التي حملت هذا العدو على مراجعة موقفه؛ عدم قدرته على تحمّل أكلاف أي عمل عسكري لا يقضي على التهديد بشكل دائم، أو على الأقل يوفر له فترة هدوء طويلة. فالعدو في هذه البرهة الزمنية يعيش حالة من التفكك السياسي والمجتمعي، جعلت أصواتاً كثيرة تنادي بلا جدوى أي عمل عسكري ضد المقاومة بمختلف فصائلها، وهو ما دفع شخصاً بمستوى العقيد ” ميخائيل ميلشتاين ” الذي كان يرأس الساحة الفلسطينية في شعبة الاستخبارات العسكرية إبّان معركة ” العصف المأكول ” عام 2014، دفعته ليقول: “… إن حماس وجدت لتبقى …”، وما ينسحب على حماس، يتعدى حكماً إلى غيرها من فصائل المقاومة وحركاتها في فلسطين المحتلة وخارجها. لذلك فالعدو يعرف أن مثل هذه الضربات أو الاستهدافات أو الاغتيالات لا توفر له ما يطلبه (مجتمعُهُ) من هدوء وسلام واستقرار، بل تجرّ عليه دماراً وخسائر لا يتحملها ناسه الذين جاءوا بحثاً عن اللبن والعسل!!
3. جدوى اظهار تضامن الحاضنة الشعبية مع الجهات التي يهددها العدو:
كما أن ما أظهرته الساحة الداخلية في غزة من تضامن مع القائد يحيى السنوار؛ وما صدر عن قادة فصائل المقاومة وفعاليات المجتمع المدني من تصريحات لفظية تملك رصيداً من القدرات والمصداقية؛ هو ما دفع العدو أيضاً لمراجعة حساباته، والتوقف عن عنترياته. لذلك يجب تطوير مثل هذا السلوك والبناء عليه، فلا يجب أن نجعل العدو ينجح في الفصل بين أصول المقاومة – البشرية والمادية – بمختلف مسمّياتها وانتماءاتها، من خلال السكوت أو عدم التفاعل إن كان التهديد لا يخصّنا أو يطالنا، فكما أن عدوَّنا يحاول أن يثبت معادلة الفصل بين الجبهات والمسميات والساحات، ليستفرد بنا فصيلاً فصيلاً وقائداً قائداً، لذلك نحن يجب علينا أن نكرّس وحدة الحال والمصير، وأننا جسد واحد – بشراً وحجراً – فما يضير حركة الجهاد يضير حركة حماس، وما يهدد العدو بإنزاله من ثبور وعظائم أمور بأصغر فصيل مقاوم؛ ستتعامل معه حركات المقاومة على أنه يعنيها مجتمعة، وأنها سترد عليه متكاتفة، ولن يستفرد بأحد، وسنقاتله امتثالاً للأمر الإلهي؛ “كافّة “، كما يقاتلنا هو وحلفاؤه كافة.
4. تقدير العدو أن الوسائل الخشنة في التعامل مع المواقف الأمنية فقدت كثيراً من بريقها وفاعليتها:
لقد خاض العدو في العقد الأخير عدة معارك مع غزة، وابتدع إجراء “المعركة بين الحروب”، فسرح سلاحُ جوّه في طول المنطقة وعرضها، واستهدف وضرب ودمر من قدرات المقاومة ما لا يعلمه إلا الله ثم قادتُها، ومع ذلك لم يقضِ عليها – المقاومة – ولم يستأصل شأفتها، حتى أن جزّه (لعشبها) جعله يقوى ويقسو ويضرب جذورَه في الأرض عميقاً، فاستعصى على النزع والخلع، لذلك فقد وصل هذا العدو إلى مجموعة خلاصات ودروس وعبر من حروبه ومعاركه كلها تلك مؤدّاها، أن نظرية شارون القائلة بأن ما لا يتحقق بالقوة، يتحقق بمزيد من القوة، لم تعد تجدي ولم تعد تنفع وأنها فشلت، لذلك لجأ إلى الطرق الأخرى الناعمة ونصف الخشنة، علّها تجدي نفعاً، أو تولّد رافعة ضغط في بيئة المقاومة الداخلية، يضغط بها عليها ليلجمها ويقيدها عن الحركة.
5. النداء المعادي بعدم شخصنة الأمور:
ومن الأمور التي دفعت العدو للتوقف والعدّ للعشرة قبل ارتكابه أية حماقه؛ الأصوات الداخلية التي ارتفعت عنده من ذوي الشأن والاختصاص الذين خبروا فلسطين ورجالَها، وليس من الذين يجلسون خلف مكاتبهم وتحت مكيفات منازلهم، ومقابل شاشات كمبيوتراتهم وهواتفهم الذكية، فقد ارتفعت أصوات أولئك الخبراء لتقول: كفّوا عن شخصنة الأمور، فنحن نتعامل مع مؤسسات وحركات مقاومة، ولا نتعامل مع أشخاص منفردين مهما علا كعبهم وزادت خبرتهم وجرأتهم،
وعليه فإن استهداف هؤلاء الأشخاص دون المساس بتلك المؤسسات، لا يعني شيئاً، ولا يقدم ولا يؤخر، فشخصٌ بوزن “آفي ديختر” الذي استلم ملف الأمن في لبنان بعد تفجير مقر قيادة الجيش الصهيوني في صور عام 1983، وهو من قاد جهاز الشاباك من عام 2000 حتى 2005، وهو برأسه من قاد عملية اعتقال القائد إبراهيم حامد عام 2003، شخصٌ بهذا الوزن وتلك الخبرة، عندما يخرج على شاشات التلفاز وفي الندوات الإخبارية ليقول أن استهداف يحيى السنوار أو غيره من قادة المقاومة لن يحلّ المشكلة، بل سيفاقمها ويزيد طينَها بلّة، وأن شخصنة الموقف لا تجدي ولا تحل المشاكل، شخص مثله وتحليل مثل تحليله للموقف دفع وسيدفع (المجتمع الإسرائيلي) – قادةً وأفراداً – للتوقف واعادة الحساب مرة ثانية وثالثة وعاشرة، قبل التعرض للقادة والأشخاص .
هذه بعض الأمور التي يرى الكاتب أنها ساعدت على جعل العدو يراجع حساباته و (يتوقف) عن الخروج لعمل يستهدف من خلاله قادة المقاومة في فلسطين المحتلة، الأمر الذي يجعلنا نعتقد أن سلوك العدوّ سوف يكون وفقاً للتقدير الآتي:
1. عدم خروج العدو لعملية اغتيال صاخبة في فلسطين المحتلة أو خارجها تترك بصمته عليها، مع إمكانية قيامه بعمليات استهداف في ساحات خارجية لا يترك فيها بصمات، وإن كان التعامل معها من قبل المقاومة سيتم على أنها من صنعه وانتاجه، الأمر الذي يدفع العدو للتحسب والحذر.
2. الضغط على الجبهة الداخلية للمقاومة من خلال الإغلاقات والتضييقات وسحب التصاريح ومنع الدخول إلى مناطق الثمانية والأربعين، من أجل إيجاد رافعة ضغط داخلية تضغط على المقاومة – قيادةً وكوادرَ – تضيّق عليقهم هامش حركتهم ومناورتهم.
3. الضغط على الدول المستضيفة لقيادة المقاومة من أجل تقييد حركتِها وشلّ فاعليتها وكفاءتها القيادية من خلال حظر لقاءاتها واتصالاتها البينية بمختلف مستوياتها الرأسية والأفقية.
ثالثاً: التوصيات:
1. بقاء منسوب الحيطة والحذر عالٍ وعدم الركون والانخداع بما يصدر عن العدوّ من آراء وتقديرات.
2. امتلاك قرار وقدرات قادرة على بناء معادلة جديدة مع العدو قائمة على العين بالعين، والأصل بالأصل، والجغرافيا بالجغرافيا.
3. التخفيف من التموضع البشري والمادي في الساحات التي تقيّد القرار وتضيّق هامش العمل.